القاهرة: في مشهد تاريخي بكل المعايير، شهدته العاصمة اليابانية طوكيو، قالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك (11 يوليو/ تموز 2022) عقب لقائها نظيرها الياباني يوشيماسا هاياشي، إن الظهور القوي والواثق للصين «يمثل تحديًا عالميًا»، مضيفة: «ثبت بشكل متكرر أنه عندما يتعلق الأمر بالمصالح، فإن القواعد لا تُطبق»، وهذا يعرّض «أساس حياتنا المشتركة» للخطر، وهذا يؤثر في قضايا عسكرية ويشكل تحديًا في القرن الحادي والعشرين، وقدمت الوزيرة الألمانية شكرها لليابان على دعم أوروبا في مواجهة روسيا. وزير الخارجية الياباني قال: «لن نسمح بتغيير الوضع الإقليمي بالقوة»، وسنواصل الحديث مع ألمانيا حول هذا الموضوع حتى تظل منطقة المحيطين الهندي والهادي حرة ومفتوحة، ومن المهم التعاون مع دول ذات توجهات مماثلة لليابان وألمانيا.
هذا الوصف المعتاد لمؤتمر صحافي في ختام زيارة رسمية، تلخص كلماته القليلة منعطفًا تاريخيًا كبيرًا.
تحالفات قديمة ومخاطر جديدة
اللقاء الألماني الياباني لقاء دولتين خرجتا من الحرب العالمية الثانية مهزومتين وأعيد بناؤهما تحت الاحتلال الأميركي، وخلال الحرب كان النظامان: الفاشي في اليابان، والنازي في ألمانيا، في خندق واحد في مواجهة الحلفاء حيث أميركا والاتحاد السوفياتي في خندق واحد. واليوم تتحالف ألمانيا واليابان مع أميركا، بينما روسيا- التي ورثت الاتحاد السوفياتي- في مواجهة الغرب كله تقريبًا، بالإضافة إلى اليابان!
والحديث عن ضرورة تجمع المتشابهين في مواجهة روسيا هو نفسه الحديث الذي أدى إلى توسع الصراع في الحرب العالمية الثانية ليشمل تحالفًا بين اليابان وألمانيا وإيطاليا، حيث كان التشابه في الرؤية السياسية رابطًا أقوى تأثيرًا من الجوار الجغرافي، واليوم تتراكم في سماء الشرق الأقصى غيوم مواجهة تعيد اليابان إلى قلب الصراع العالمي وهي تصطف في صف مختلف تمامًا عن مكانها في التحالف الذي خاضت ضمنه الحرب العالمية الثانية.
وبينما نجح الغرب في إجبار الصين عبر مصالحها الاقتصادية الضخمة مع الغرب على اتخاذ موقف رمادي من الصراع الروسي الأطلسي على أوكرانيا، تجد اليابان نفسها- بوتيرة متسارعة- تنجر إلى مواجهة مع الصين، لم تتضح بعد ملامح تطورها، رغم أن احتمال الحرب يقترب من سيدة الباسيفيكي الصامتة التي أنجزت تحت الوصاية الأميركية منجزا اقتصاديا، ربما كان الأهم في القرن العشرين، وحققت في مسار التنافس السلمي (بالتقنية والاقتصاد) ما لم تحققه بالحرب، واليوم تعود ذكريات العسكرة والتسلح لتنطلق من عقالها، وهي اليوم مطروحة على الطاولة كتحدٍ مستقبلي، واليابان تواجه التحول الجديد وهي مثقلة بمشكلات ديموغرافية واقتصادية مستعصية. وقد أطلق تقرير نشرته مجلة «ذي لانسيت» العلمية الشهيرة في عام 2020 أن بلدانًا عديدة سوف تعاني بسبب انخفاض عدد سكانها بحلول عام 2050، ووفق دراسة حديثة أجرتها جامعة واشنطن (مايو 2022)، فقد بدأ التراجع الديموغرافي في عدة دول بينها اليابان.
الكماشة الصينية الروسية
علاقة اليابان بجوارها الإقليمي مليئة بالألغام القديمة التي نجحت لعقود متتالية في تجميدها مستفيدة من سنوات من الهدوء أنجزت خلالها نجاحها الاقتصادي الكبير. وفي 1999 صدر مؤلف شديد الأهمية هو «نار في الشرق: صعود نجم القوة العسكرية الأسيوية والعصر النووي الثاني» (Fire In The East: The Rise of Asian Military Power and the Second Nuclear Age) وقد أطلق جرس الإنذار الأكثر جدية من الخطر الصيني، ومؤلف الكتاب بول براكين عمل مستشارًا لمعظم عمليات إعادة التقويم التي أجرتها الحكومة الأميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وضمن ذلك تلك التي أجرتها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ووكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه). ورسم براكين في كتابه صورة بانورامية للعالم أهم ملامحها أن أوروبا: «غرفة قيادة العالم» تتمتع بدرجة من الأمن غير مسبوقة منذ قرون، ولذا فإنها لم تعد قوة عسكرية خطيرة، وهناك في الوقت نفسه توازن رعب يمتد على شكل قوس مساحته ستة آلاف ميل، يضم بعضًا من أكثر دول العالم افتقارًا للاستقرار، دون وجود حلف غربي بالمعنى الصحيح للكلمة.
ويشمل هذا القوس الشرق الأوسط وجنوب أسيا وجنوب شرقها. والدول الآسيوية تتغلب على الاستراتيجية النفسية الأميركية التي كانت تعتمد على حصرها في مجال محدد. وقامت هذه الدول الآسيوية بإعادة تنظيم مؤسساتها العسكرية، وبدأت تظهر تركيبة عسكرية/ صناعية جديدة ترتكز على الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل. وقد أصبحت آسيا مصدر الأحداث على الساحة العالمية. إن هناك انقسامًا استراتيجيًا كبيرًا يشهده العالم مع تآكل الهيمنة الغربية على الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، فالصواريخ الآسيوية يمكنها أن تصيب النقاط الضعيفة جغرافيا وسياسيا وليس تكنولوجيا في الغرب، ويمكنها تدمير قواعد الغرب في آسيا، وهو مظهر من مظاهر تغير واسع النطاق في نظام الأمن الدولي، والسيطرة على قلب آسيا- كما يقول براكين- تعني السيطرة على العالم.
واليوم في 2022 تطفو مشكلات التاريخ الياباني القريب على السطح في فترة قصيرة، فبمجرد أن اصطفت بشكل صريح في صف الغرب في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا، عادت المشكلات التاريخية في علاقتها بروسيا لتعكر صفو هدوء طويل بين طوكيو وموسكو، وفي مقدمتها النزاع المرير على جزر الكوريل، وبعد لقاءات قمة منذ العام 2018 بين بوتين ورئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي، وفضلًا عن إنشاء وزارة يابانية للتعاون مع روسيا، انسحبت موسكو في 21 مارس (آذار) 2022، من مفاوضات بشأن معاهدة سلام ثنائية دائمة ثم طردت اليابان 8 دبلوماسيين روس، وتعلق وكالة أنباء «نيبون» اليابانية على المشهد الروسي الأوكراني بعبارة موحية نصها: «يجب أن يُنظر إلى الغزو الروسي لأوكرانيا على أنه تحذير لشرق آسيا وخاصة اليابان»!
وفي 22 يوليو (تموز) 2022 أكدت اليابان في «الكتاب الأبيض» الأخير حول الدفاع أنها قلقة من التهديدات الجديدة التي تمثلها روسيا ولديها مخاوف بشأن الضغط المتزايد الذي تمارسه الصين على تايوان. وخصص التقرير السنوي لوزارة الدفاع اليابانية فصلًا كاملًا عن «الغزو الروسي لأوكرانيا»، وعبرت الوزارة عن قلقها من أن تجد روسيا نفسها في حاجة إلى «تعزيز علاقاتها مع الصين بشكل أكبر». ويشير «الكتاب الأبيض» إلى احتمال أن تلجأ موسكو إلى الردع النووي، ما قد يزيد وتيرة نشاطها حول اليابان، حيث تمر غواصات نووية روسية بانتظام. وتناول «الكتاب الأبيض» لعام 2022 بالتفصيل مسألة تايوان. وفي تقدير الأدميرال فيليب ديفيدسون، قائد القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادي، فإن «قدرات الصين المتطورة بسرعة وموقفها التنافسي المتزايد يؤكدان دافعها لتصبح قوة مهيمنة إقليميًا وذات نفوذ عالمي»، وافترض أن بكين ستمتلك القدرة على الاستيلاء على تايوان، خلال سنوات قليلة. واليابان بتأثير المخاطر متعددة المصادر: روسيا، والصين وكوريا الشمالية قررت زيادة إنفاقها العسكري بشكل كبير. وقد أعلن رئيس الوزراء فوميو كيشيدا أن مواجهة الصين هي «أولوية قصوى» لليابان، كما وصف تايوان بأنها «خط المواجهة في صراع الديمقراطيات لمقاومة تقدم الاستبداد».
تاريخ تكتبه «أشباه الموصلات»!
في مطلع تسعينات القرن الماضي تُرجم إلى العربية كتاب ألفه عضو البرلمان الياباني شينتارو إيشيهارا بالاشتراك مع رجل الصناعة الكبير أكيو موريتا، والكتاب (The Japan That Can Say No: Why Japan Will Be First Among Equals - 1991) أثار عاصفة في العلاقات الأميركية اليابانية، وبسبب ردود الفعل العنيفة التي أثارها الكتاب، حذف أكيو موريتا مساهمته فيه، وأعاد إيشيهارا نشره منفردًا!
وفي الكتاب قال إيشيهارا بشكل صريح إن اليابان تستطيع تحدي أميركا لأسباب عديدة، في مقدمتها أن بلاده هي المنتج الأكبر- والأكثر كفاءة عالميًا- في إنتاج «أشباه الموصلات» وأن معامل الخطأ في إصابة الصواريخ النووية الأميركية لأهدافها أصبح أقل من 15 مترًا بفضل دقة أشباه الموصلات اليابانية. ولاحقًا أصبحت هذه القطع الصغيرة الساحرة أحد أهم المكونات في كل المنتجات الرقمية تقريبًا. ومع التحولات الكبيرة في الاقتصاد الياباني خلال ربع القرن الماضي، تسبب الأزمة الديموغرافية الحادة إلى تراجع مكانة اليابان في سوق هذا المنتج الحيوي لتصبح تايوان- المهددة بالخطر الصيني- أحد أكبر منتجيه عالميًا، وهكذا عادت «أشباه الموصلات»، لتحتل مكانها كسلعة حيوية يمكن أن تصيب ندرتها في عواقب اقتصادية وعسكرية وخيمة. واليوم تصنع شركة TSMC التايوانية أكثر من 90 في المائة من الرقائق الأكثر تقدمًا في العالم، هي تخطط لبناء مصانع في أميركا واليابان، وقد تصبح أوروبا التالية.
وقد شهد ربيع العام 2021 إغلاق بعض مصانع هذه الرقائق، فقلصت شركات صناعة سيارات يابانية إنتاجها بمعدل كبير، ونقص هذه الرقائق- على حد تعبير يوشيهيرو سيكي، المشرع الذي يقود مجموعة دراسة حولها- هو ضربة في رأس الاقتصاد الياباني. ومع التصعيد في أوكرانيا ولاحقًا في تايوان تحركت اليابان وأميركا والاتحاد الأوروبي لبناء قدرات ذاتية في صناعة أشباه الموصلات بتمويل ضخم. وبالنسبة لليابان، التي كانت أكبر صانعيها بنسبة تجاوزت يومًا نصف الإنتاج العالمي، وبالنسبة لأميركا التي اخترعتها، فإن تآكل قدرات تصنيع الرقائق خطر. وقد أقر الكونغرس مشروع قانون ضخم للسياسة الصناعية خصص 52 مليار دولار من الإعانات والحوافز لتنشيط صناعة الرقائق الأميركية. وفي قطيعة مع نزوعها القومي في الاقتصاد، تسعى اليابان أيضًا إلى تشكيل تحالف مع أميركا والاتحاد الأوروبي لبناء سلسلة توريد لهذه الرقائق ذات الأهمية الاستراتيجية، وهذه الجهود المشتركة سوف تخلق مشهدًا جيوسياسيًا عالميًا جديدًا.
وفي أوروبا، وكما ورد في تقرير رسمي لإحدى لجان البرلمان الأوروبي (يوليو/ تموز 2022) يهدف مقترح قانون قدمته المفوضية الأوروبية في فبراير (شباط) 2022، إلى تخصيص 43 مليار يورو في استثمار مدفوع بالسياسة لقطاع أشباه الموصلات الأوروبي بحلول عام 2030. وفي مسودة القانون الصادرة في 8 فبراير 2022 أنه يستهدف تعزيز السيادة الرقمية لأوروبا. وما يلفت النظر بشدة في لغة التقرير استخدامه مفرادات «صراع القيم» التي ارتبطت بنشوء جبهتي الحرب العالمية الثانية، ثم نشوء حلفي: وارسو والأطلسي. وبحسب التقرير الأوروبي يستند المخطط إلى الشراكة مع شركاء متشابهين في التفكير (يتشاركون القيم الأساسية: مثل احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والديمقراطية). ويشدد التقرير على أن «تعزيز القدرات القيادية لأوروبا في مجال أشباه الموصلات شرط مسبق لقدرتها التنافسية مستقبلًا، ومسألة تتعلق بالسيادة التكنولوجية والأمن».
حقبة ما بعد الصمت
اليابان التي كانت صورتها في العلاقات الدولية مؤطرة بإطار من التحفظ الشديد والخطاب الهادئ، بل أحيانًا تفضيل الصمت في العديد من لحظات المواجهة في العلاقات الدولية، تغيرت خلال سنوات قليلة على نو درامي. أجرت اليابان بعض التغييرات الحاسمة على السياسات التي يقوم عليها التحالف بين الولايات المتحدة واليابان. وفي عام 2015، أقرت اليابان قانون السلام والأمن لتمكين البلاد من لعب دور أكثر شمولًا في الاستجابة للتحديات الأمنية العالمية. وأصبح بإمكان اليابان- للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية- ممارسة الدفاع الجماعي عن النفس، ما يمكّن أي دولة من اعتبار الهجوم على دولة أخرى هجومًا على أراضيها، حتى لو لم تتعرض هي نفسها لهجوم مباشر.
وفي سبتمبر (أيلول) 2021 تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن ورؤساء حكومات: أستراليا واليابان والهند، بجعل منطقة المحيطين الهندى والهادي حرة ومفتوحة ردًا على مخاطر تنامي النفوذ الصيني. وجاء التحرك متعدد الأطراف بعد قليل من إعلان أميركا وبريطانيا وأستراليا عن «حلف أوكوس» لمواجهة الصين. البيان المشترك لتحالف «كودا» تضمن تعهد الزعماء بجعل منطقة المحيطين الهندى والهادي حرة ومفتوحة، «ندعم حكم القانون، وحرية الملاحة والطيران، والحل السلمي للنزاعات، والقيم الديمقراطية، ووحدة أراضي الدول». ويعتبر «كودا» منتدى حوار أمنيا رباعيا تشكل بعد تسونامي المدمر فى 2004 وبقي لسنوات غير ناشط.
وفي 29 أبريل (نيسان) 2022 نشر مركز الدراسات الآسيوية في مؤسسة هيراتدج الأميركية تقريرًا مهمًا لبروس كلينجنر، وفيه رصد للتحول في لغة الدبلوماسية اليابانية، حيث البيانات الأكثر جرأة تطور مهم في السياسة الخارجية اليابانية. ولسنوات، كان المسؤولون اليابانيون قلقين بشأن التهديد الصيني المتزايد، لكنهم تجنبوا مناقشته علنًا، وتغير ذلك مع تزايد قلق طوكيو بسبب ارتفاع نفقات الدفاع الصينية، والتوسع السريع لقدراتها العسكرية. وفي تحول متوقع، قال رئيس الوزراء السابق شينزو آبي إن الصين لا يمكنها مهاجمة تايوان دون انتهاك السيادة اليابانية أو المياه الإقليمية أو المجال الجوي الياباني، ومن المرجح أن «أي عمل صيني ضد تايوان سيشكل أيضًا هجومًا مسلحًا ضد اليابان». وفي اجتماع قمته في أبريل 2021 مع الرئيس جو بايدن، رئيس الوزراء الياباني، آنذاك، سوجا يوشيهيدي أكد «أهمية السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان»، وكانت هذه أول إشارة إلى تايوان في وثيقة قمة أميركية يابانية منذ عام 1969. وأظهر استطلاع ياباني بعد اجتماع القمة أن 74 في المائة من اليابانيين يؤيدون تأكيد سوجا دعم تايوان، ولاحقًا أظهر استطلاع رأي في مارس (آذار) 2022 أن 77 في المائة من اليابانيين قلقون من خطر أزمة تايوان.
وهكذا اتسع نطاق التغيير الذي طرأ على سيدة الباسيفيكي الصامتة، وستحدد التطورات المتلاحقة في العلاقات الدولية مصير هذا التحول الكبير.
* باحثة في العلوم السياسية، مصر.