عالم يحلق عالياً فوق حداثة التكنولوجيا ولهيب صيف أوروبا الأكثر حرارة تجدونه في تيسينو بجبال الألب السويسرية. إنه عالم ينأى منذ أجيال عديدة عن حرارة وصلت إلى الأربعين مئوية وعن اضطرابات السفر الجوي التي تصدرت أخبار الصحف.
من بين 26 كانتون سويسري (مقاطعة سويسرية)، يضم هذا الكانتون بيوتاً قديمة بنيت من الأحجار، ووديانا عتيقة، وشلالات وأنهارا، وأحجار الغرانيت والإردواز، وكنائس وقرى صغيرة، ومشاهد خلابة. هنا تصل حياة المرء إلى مرحلة السلام والمتعة والهدوء.
تقع مقاطعة تيسينو في جنوب سويسرا، بالقرب من الحدود الإيطالية، ويبلغ عدد سكانها حوالي 350 ألف نسمة، أي ثلاثة في المائة من إجمالي عدد سكان الدولة. ومن المعروف عنها، إضافة إلى أمور أخرى، نهرها الذي يتدفق من جبال الألب هبوطاً إلى بحيرة ماغيوري متجهاً إلى الجنوب مروراً بميلانو. وكما تتوقع، تشتهر تيسينو لكونها مقصدا سياحيا شهيرا بفضل مناخها وحدودها الشمالية، تحديداً جبال سان غوتهارد ماسيف التي يبلغ ارتفاعها ثلاثة آلاف متر.
بالتأكيد تركت التكنولوجيا والحداثة بصمتها هنا، ليس أقلها نفق السكك الحديدية الأطول والأعمق في العالم (57 كم أو 35 ميلا) والذي تمر عبره قطارات سريعة تحت الجبال لتصل بين شمال أوروبا وجنوبها. يمكن أن يتوقع من يتجهون إلى الجنوب رؤية الميادين الحيوية وأشجار الليمون والتين، والشواطئ، في أثناء مرورهم بأفضل مواقع التنزه حول العالم.
أما من يبقون ويتجولون، فربما يجدون قرية منعزلة لم تتغير منذ 150 عاماً، تطل على بحيرة في جبال الألب لا يمكن أن تصل إليها بالسيارة، حيث يسري الهواء النقي والمنعش، وتأتي المياه الصالحة للشرب من النهر القريب، وتبدو الكهرباء كأسطورة شائعة. مثل هذا المكان موجود بالفعل. وينعم بهدوء تحده الطبيعة فحسب. فيما يتعلق بالمسافة، فهو ليس بعيداً للغاية عن سويسرا بالغة التطور والتقدم الصناعي التي نعرفها. أما عن وضعه فهو من كوكب آخر تماماً.
يمكن الوصول إلى أقرب قرية في ساعة واحدة سيراً على الأقدام، والبيوت هناك قائمة عنيدة حيث بنيت من الحجارة المحلية التي لم تتغير. أغلبها أكواخ صغيرة ذات ملكية خاصة تسمى «راستيكو» بالإيطالية. أحدها نقشت سنة بنائها على حجر من الغرانيت: 1698. في الماضي، كان مزارعو القرية الواقعة بالأسفل يستخدمون هذا المكان لقضاء شهر أو شهري الصيف الحار مع حيواناتهم قبل أن يعودوا إلى الأسفل. وفي هذه الأيام، تظل هذه البيوت خالية طوال أسابيع الشتاء القارس قبل أن تصبح متحفاً حياً كما كانت في العام السابق عندما يصبح الجو دافئاً.
أن تعيش هنا، ولو لفترة وجيزة، يعني أن تجرب حياة بسيطة وبطيئة الوتيرة مع بعض العزلة. وهذه البساطة البطيئة وسط المشاهد الخلابة هي ما تجذب السياح. بدأت الأكواخ واحداً تلو الآخر تتحول إلى الحداثة ببطء، عن طريق ربطها بشبكة المياه، وربما تركيب ألواح طاقة شمسية. لا تزال أيام حمل المياه من الينبوع أو استخدام الشموع ومصابيح الزيت في الذاكرة القريبة هنا. ولا تزال أغلب الأكواخ تحصل على التدفئة عن طريق المدفأة التقليدية. كما يستخدم الحطب في إشعال الأفران التي تستخدم في الطهي.
في منتصف الشتاء، لا يعيش هنا سوى شخص واحد فقط، مزارع في العشرينات من عمره. وقد استلم بدوره المسؤولية من مزارع متقاعد في عام 2020، بعد أن عمل في القرية منذ 45 عاماً. كوَّن ذلك الرجل أسرة في القرية. وكان على أبنائه أن يقطعوا يومياً السير لمدة ساعة كاملة للنزول من الجبل واللحاق بحافلة المدرسة، ثم السير لساعة أخرى عودة إلى المنزل. قبل أعوام، كان هناك عدد أكبر من الأسر، ولكن الفقر والفرص شجعوا على الهجرة في القرن التاسع عشر، فاتجه المزارعون إلى البلدات والمدن أولاً في إيطاليا ثم عبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين. وأنطفأت مصابيح أكواخهم واحداً بعد الآخر.
والآن في كل صيف، يهاجر السياح إلى المكان الذي غادره سكان الجبال. في النهار، ينشغلون بالمشاهد البديعة، وفي الليل يجلسون حول طاولة حجرية كبيرة في مدخل القرية، يحتسون الشراب ويتشاركون الطعام ويلعبون ويستمعون إلى الموسيقى ويقابلون رفاقهم المسافرين. ومن اللغات التي يتحدث بها الناس هنا الألمانية السويسرية، والألمانية، والفرنسية، والأسبانية، والبولندية، والإنجليزية. أما المهن التي يعود إليها السياح بعد انتهاء عطلاتهم فهي التمويل والهندسة والأمن والسينما والمجال الأكاديمي والموسيقى. هذا مكان يجذب كل الفئات. وهنا أيضاً القس والعمدة.
غادر المزارعون السابقون المكان من أجل الاتصال بالعالم. أما السياح الذين يعتبرون المكان منزلهم لفترة أسبوع أو اثنين، فقد جاءوا إلى هنا للانفصال عن الحياة الحديثة، وإعادة الاتصال مع الطبيعة بوتيرة حياة أهدأ خارج المضمار المحموم. ربما بدت الطبيعة الثابتة منفرة في الماضي، إلا أنها أصبحت اليوم منحة ومكافأة. أن تطهو على نار مشتعلة بالحطب، وتظل أقرب شبكة واي فاي وتلفاز بعيدة خلف السلسلة الجبلية، يعني أن تحتضن الماضي والحقيقي، وتنعم بالسلام والطمأنينة. يعني هذا أن تنسى الأخبار ودرجات الحرارة، وصفوف ما بعد البريكست وحالات الفوضى في المطارات. في عالمنا المجنون سريع الدوران، أصبحت المناطق القروية النادرة كهذه تمثل رفاهية حديثة، مثل الجنة التي لم تطأها قدم. أما عن المناظر الخلابة، فيمكنك أن تلقي نظرة عليها...