لاعب قديم بمشروع جديد... «الدب الروسي» في الشرق الأوسط

العلاقات الروسية- العربية شهدت تحولات غير مسبوقة عام 2017

لاعب قديم بمشروع جديد... «الدب الروسي» في الشرق الأوسط

[caption id="attachment_55262904" align="aligncenter" width="1550"]بوتين والسيسي بوتين والسيسي[/caption]

أنقرة - محمد عبد القادر خليل*


* تتجه السياسة الروسية نحو الشرق الأوسط تأسيساً على مجموعة من الاعتبارات، أهمها تحقيق الأمن للحدود الجنوبية.
* اختارت موسكو أن تغدو شريكاً جديداً لحلفاء آخرين في منطقة الخليج، ولن تنقلب موسكو بمقتضى ذلك على علاقتها مع طهران.
* تعمل موسكو على فتح نطاق للتحرك في ميادين غير تقليدية بهدف تقويض دور حلف شمال الأطلسي بتعزيز دورها في ليبيا، وشمال أفريقيا، والشرق الأوسط.
* تشير العديد من التطورات والمعطيات إلى اتساع نطاق الحضور الروسي في الشرق الأوسط، وقد برز ذلك على نحو خاص مؤخراً.
* ترتكز المقاربة الروسية حيال الشرق الأوسط على البعد الاقتصادي كمحرك حاكم في صوغ المقاربات الروسية.
* يصل معدل التبادل التجاري الروسي مع مصر نحو 4 مليارات دولار.
* على الرغم من أن التبادل التجاري بين السعودية وروسيا بدأ منذ 1992، فإن إجمالي التجارة البينية حتى 2015 (23 عاما) تجاوز 52.96 مليار ريال.
* باتت روسيا حاضرةً في ساحات الشرق الأوسط، ليس انطلاقاً من استراتيجيات الاتحاد السوفياتي السابق ودوافعه، بل تأسيس على حسابات مغايرة وأدوات جديدة.




ثمة مصطلحات علمية توظف لإعادة تقييم أدوار الفواعل الدولية على الساحة العالمية، من بينها مفهوم «القوة الحادة» (Sharp Power)، الذي بات يُستخدم في إطار وصف سياسات الاختراق الروسي للعديد من الأقاليم الجغرافية المجاورة، من بينها إقليم الشرق الأوسط، حيث غدت موسكو تتمتع بعلاقات مركبة مع العديد من دول الإقليم، تتنوع ما بين أطر التعاون الاقتصادي، ونظم التعاقد التسليحي والعسكري، ومسارات الدعم الاستخباراتي المتبادلة.
كما بات الحضور الروسي مركزيا في أغلب الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وعلى نحو يخالف نمط الأدوار التي اضطلع بها الاتحاد السوفياتي السابق، حيث غدت تحظى وريثته بعلاقات متعددة الأوجه مع القوى الرئيسية في الإقليم، مثل المملكة العربية السعودية، ومصر، والإمارات، وتركيا. هذا في وقت لا تزال ترتبط فيه موسكو بعلاقات شبه مستقرة مع إيران، وسوريا، والعراق، وإسرائيل.
لم يرتبط مفهوم القوة الروسية الحادة وحسب بحدود تأثير السياسات والأدوار في الشرق الأوسط، وإنما تعلق أيضا بالقدرة على توظيف أدوات التلاعب والضغط على الحكومة، من خلال استقطاب النخب السياسية أو «التأثير على المؤثرين»، وذلك في إطار محاولة الدمج بين القوتين الناعمة والصلبة، وفق ما تطلق عليه بعض الأدبيات «القوة الذكية». وعلى الرغم مما يحمله المفهوم في ثناياه من انحياز بشأن توصيف واقع لا يغيب في كثير من الأحيان أيضا عند التعرض لدراسة الأدوار الأميركية أو الصينية في العديد من الساحات الإقليمية، إلا أن ثمة تطورات لا تخطئها عين فيما يخص مسارات وسبل الحضور الروسي على مسرح عمليات الشرق الأوسط. وقد أصبح ذلك يرتبط بعدد من المحركات الرئيسية، من ضمنها السياسات الروسية في سوريا، وتطورات علاقات موسكو مع دول مجلس التعاون الخليجي.


«الدب الروسي»... والأجواء الملتهبة في الشرق الأوسط




تشير العديد من التطورات والمعطيات إلى اتساع نطاق الحضور الروسي في الشرق الأوسط، وقد برز ذلك على نحو خاص مؤخراً، وذلك بعد قيام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باستعراض نفوذ بلاده المتنامي في الشرق الأوسط، من خلال زيارة شملت ثلاث دول في يوم واحد (11 ديسمبر/ كانون الأول 2017)، اثنتان منها حليفتان تقليديتان لواشنطن، وهما مصر وتركيا، فيما الأخرى تصنف بحسبانها حليفا تقليديا لموسكو، وهى سوريا. من ذلك يمكن ملاحظة وجود روسيا في أكثر من ساحة جغرافية في نفس الوقت، وذلك مقابل واشنطن، التي لم يعد الأمر كذلك بالنسبة لها.
ففي الوقت الذي تواجه فيه علاقات واشنطن مع أغلب دول الإقليم توترات متصاعدة، بسبب القرار الأميركي بشأن القدس، كان الرئيس الروسي يقوم بجولة سريعة في منطقة الشرق الأوسط، شملت زيارة مفاجئة إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا، أعلن خلالها أن جزءا كبيرا من القوات الروسية سيتم سحبه، لكنه أضاف أنه «إذا رفع الإرهابيون رؤوسهم» في سوريا، ستوجه لهم روسيا ضربات قوية. وقال إنه سيتم خفض عدد القوات الروسية إلى ألفين من سبعة آلاف، مضيفا: «أنتم عائدون إلى وطنكم بنصر... وطنكم في انتظاركم».

وعلى الرغم من أن خطاب بوتين كان موجها أكثر إلى الداخل الروسي، وقد يكون نقطة انطلاق لحملة الانتخابات التي ستجرى في مارس (آذار) 2018، فإن تصريحاته تشير إلى إدراك موسكو أنها صارت أحد أكثر الفواعل التي تمتلك القدرة على التحكم في أوراق اللعب في سوريا، كما أنها غدت فاعلا مركزيا في العديد من الملفات المشتعلة على ساحة إقليم الشرق الأوسط. بيد أن هذا الوجود لم يعد يرتبط وحسب بالرغبة الروسية في مواجهة واشنطن على أكثر من مسرح عمليات إقليمي، وفق ما تشير إليه بعض الأدبيات، وإنما غدا يتعلق بالأساس بنمط المصالح البرغماتية الروسية.
وتشير العديد من التقديرات في هذا السياق إلى أن الجغرافيا فرضت على روسيا الاهتمام بتفاعلات الشرق الأوسط، بحكم كونها تشغل الحيز الأكبر من الكتلة الأوروآسيوية الملاصقة للمنطقة. وقد بقيت السياسة السوفياتية تعطي اهتماما بالغا للشرق الأوسط حتى انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وعادت روسيا الاتحادية في عهد الرئيس بوتين لتولي اهتماما واضحا للإقليم انطلاقا من حسابات اقتصادية ومصالح عسكرية.
وتتجه السياسة الروسية نحو الشرق الأوسط تأسيسا على مجموعة من الاعتبارات، من أهمها تحقيق الأمن للحدود الجنوبية، ومنع امتداد الصراعات الإقليمية إلى المناطق الجنوبية من كومنولث الدول المستقلة الذي نشأ بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، سيما أن موسكو تنظر إلى منطقة آسيا الوسطى والشرق الأوسط على أنهما أصبحتا مشتركتين في تكوين ما يطلق عليه «الفضاء الإسلامي الموحد». فتخشى روسيا من اندلاع صراعات إقليمية متصاعدة تنعكس على نطاق واسع وتمس مصالحها السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية.
بالإضافة إلى ذلك هناك العمل على الاستفادة من القدرات الاقتصادية للمنطقة، إذ ترى وريثة الاتحاد السوفياتي أن هنالك إمكانية لإقامة روابط اقتصادية بين روسيا ودول المنطقة، وهو ما يمثل ضرورة حيوية لإنعاش الاقتصاد الروسي الذي يعتمد على صادرات الغاز والتعاقدات العسكرية، بما يستدعي العمل عبر استراتيجيات متعددة ومركبة لإيجاد شركاء اقتصاديين، وأسواق تجارية، وسوق للسلاح. كما لا ينفصل ذلك عن السعي إلى إيجاد حزام أو كتلة من الدول تقف في وجه القطبية الأحادية، وتسهم في أن يتاح لروسيا الدخول في ملفات لم تكن معنية بها في الشرق الأوسط، وٕإثبات أن لديها قدرة ومكانة على الساحة الدولية، ولذلك فهى تعمل على تنويع أنماط تحالفاتها الإقليمية ما بين شركاء جدد وحلفاء قدامي.

ويحظى الوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط بأهمية قصوى من منظور الرغبة أيضا في الحفاظ على الهيمنة على آسيا الوسطى، بما يستوجبه ذلك من هيكلة سياستها تجاه الشرق الأوسط. فقد وسعت استراتيجيتها السياسية وفق أهدافها الاقتصادية ومصالحها الاستراتيجية، وبذلك تراجعت الأهداف الآيديولوجية التي استندت إليها سياستها في عهد الاتحاد السوفياتي. أما مصالح روسيا لدى الدول العربية، فقامت على جذب المساعدات والاستثمارات العربية ـ خاصة الخليجية ـ لمساعدة روسيا في التغلب على أزمتها الاقتصادية، وتنشيط العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وبلدان العالم العربي، والحصول على المعاملة التفضيلية، سيما مع بلدان الخليج، وتنشيط تجارة السلاح الروسية، حيث تعد الدول العربية سوقا رائجة لهذه التجارة.
ويمكن تحديد ثلاث مصالح كبرى وأساسية تحدد نمط السلوك الروسي في الشرق الأوسط بصفة عامة: ترتبط أولاها بالمزاحمة الاستراتيجية للولايات المتحدة من أجل إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، وإحدى وسائلها إلى ذلك اتخاذ مقاربات مضادة ومُنهِكة للولايات المتحدة، بما يدفع بالقدرة على الضغط والمساومة والمناورة حيال القضايا الأكثر أولوية من منظور القيادة الروسية. فيما ترتبط ثانيتها، بنمط المصالح الأمنية التي تتداخل مع الأمن القومي الروسي، سيما في مرحلة ما بعد الثورات العربية، حيث التحديات الضخمة التي باتت تواجهها دول اتسمت علاقاتها مع موسكو بالاستقرار النسبي. أما ثالث هذه المصالح فيرتبط بالمحرك الاقتصادي، خصوصا مع القوى والفواعل الرئيسية في الإقليم كالسعودية، ومصر، وتركيا، والإمارات، وإيران.
وفي هذا السياق، شهدت العلاقات الروسية مع العديد من الدول العربية تحولات غير مسبوقة خلال الفترة الأخيرة، ويأتي في مقدمة هذه الدول المملكة العربية السعودية التي غدت علاقاتها مع موسكو تشهد تطورات إيجابية متلاحقة، تكللت بزيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا في الفترة ما بين 5-8 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، على نحو أفضى إلى تنسيق روسي – سعودي حيال العديد من ملفات الصراع الإقليمي. فقد أشارت صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والملك سلمان اتفقا على انسحاب القوات الروسية من سوريا خلال لقائهما في موسكو، بما يعني أن تخفيض الوجود العسكري الروسي في سوريا جاء بالتنسيق والتوافق مع المملكة العربية السعودية.
يؤشر ذلك إلى النقلة التي أحدثتها زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو، بحسبانها تمثل الزيارة الأولى لملك سعودي إلى موسكو. هذه الزيارة أفضت إلى التوصل إلى عدد من الاتفاقيات في مجالات مختلفة، منها الاقتصاد والتعاون في مجالات السلاح، والاستثمار، والنفط. وكشفت الصحيفة عن أن التسوية السورية كانت من أهم قضايا المباحثات. ولكن ما تم الاتفاق عليه خلال اللقاء بين قيادات البلدين لم يعلن عنه لا إعلاميا ولا دبلوماسيا. وبدا الهدف الحقيقي من زيارة الملك سلمان جليا بعد مرور شهرين.
وتشير تقديرات مركز كارنيغي إلى أن الرياض تمتلك تأثيرا في الكثير من القطاعات من سوريا. يؤكد ذلك تقديرات غربية أخرى تقول إن سحب جزء من القوات الروسية في سوريا بشكل سريع وسحب مجموعة القاذفات البعيدة المدى في سوريا ليس إلا تنفيذا للاتفاقيات التي تم التوصل إليها مع الرياض في الآونة الأخيرة. وقد تفاعلت الأوساط الروسية الرسمية والشعبية مع الزيارة التاريخية التي قام بها خادم الحرمين الشريفين إلى موسكو، تلبية لدعوة رسمية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقال وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، عقب محادثات أجراها مع فالنتينا ماتفيينكو، رئيس المجلس الأعلى في البرلمان الروسي (المجلس الفيدرالي)، إن الملك سلمان أصدر تعليمات واضحة بشأن تطوير العلاقات مع موسكو في شتى المجالات. وعبَّر عن قناعته بأن التعاون السعودي - الروسي سيرتفع، دون أدنى شك، من مستوى العلاقات الحسنة إلى مستوى العلاقات الممتازة.
من جانبها، أعربت رئيسة مجلس الاتحاد عن أملها في تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات. وعبَّرت عن امتنانها لوزير الخارجية السعودي على تعاونه مع موسكو، وخاصة مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، مثمنة الإسهام الكبير لهذه الاتصالات في تسوية الأزمات الإقليمية واستقرار الأوضاع في الشرق الأوسط. وأكدت أهمية تطوير العلاقات الثنائية، مصرحةً: «إننا ندرك جيدا أن تطوير التعاون بين روسيا والسعودية لا يخدم مصالحنا المشتركة فقط، بل يشكل عاملا أساسيا للاستقرار في المنطقة، لكون السعودية إحدى أكثر الدول تأثيرا في الشرق الأوسط والعالم برمته».







الارتدادات العكسية للمواقف الأميركية




لا تتحرك السياسات الروسية في فراغ، وإنما تستغل التطورات التي تفتح نوافذ للخطى التي تحقق مصالحها ورؤاها. وقد ارتبطت قدرة موسكو على النفاذ إلى مساحات جديدة في الشرق الأوسط، وتوثيق العلاقات مع العديد من الفواعل الإقليمية المتأثرة بارتدادات السياسات الأميركية التي أفضت إلى توترات في العلاقات مع الكثير من الحلفاء التقليديين، سيما خلال السنوات الخالية.
بعض محركات ذلك تعلقت بتوجهات إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، حيال العديد من الدول العربية، سيما بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، والسماح للأخيرة بممارسة أدوار أفضت إلى تداعيات سلبية بالنسبة للأمن الإقليمي. وقد شهدت علاقات العديد من دول الإقليم مع واشنطن توترات غير مسبوقة بعد قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل. فقد أعاد هذا القرار ظلالا كثيفة على العلاقات الإسلامية – الأميركية، سيما في ظل الأدوار القيادية التي تضطلع بها دول عربية رئيسية، مثل المملكة العربية السعودية.
ولا ينفصل عن ذلك غياب المبادرات الأميركية الجادة تجاه الحد من النفوذ الإيراني، ودعم القوى الإقليمية المعتدلة، في مواجهة التيارات المتطرفة والدول التي تدعمها. كما أن عمل بعض القوى الإقليمية العربية على وضع حد للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، شكَّل عاملا ضاغطا على العلاقات العربية – الأميركية، وقد يمثل ذلك أحد محركات التحركات العربية حيال توثيق العلاقات مع موسكو، ذلك أن السنوات الخالية لم تثبت إمكانية أن تضطلع واشنطن بدور «الوسيط النزيه»، بما ضاعف من المزايدات الإيرانية والتركية حيال الكثير من البلدان العربية.
هذه المعطيات تضاف إلى الأدوار السلبية التي اضطلعت بها السياسات الأميركية سابقا، حينما قامت بغزو العراق، ثم حينما سمحت باتساع النفوذ الإيراني على أراضيه، بعد قرار الرئيس جورج بوش بغزو العراق، ثم تضاعف هذا النفوذ بعد قرار باراك أوباما بالانسحاب من العراق، وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، كما سمحت إدارة أوباما بعدم تعاطيها جديا مع التهديدات الإيرانية على الساحة السورية بأن اتسع نطاق هذه التهديدات لتنتقل بعد ذلك إلى الساحة اليمنية.

وعلى الرغم من أن موسكو تتخذ بالمقابل مقاربات ترتكز على تحقيق المصلحة الروسية التي تتعارض في كثير من الأحيان مع المصالح العربية، غير أنها باتت تبتغي إحداث توازن يحقق تعميق علاقاتها مع قوى إقليمية، رئيسية مثل السعودية ومصر، والإمارات. وقد غدا ذلك أحد محددات سياساتها الخارجية حيال الإقليم. فعلى صعيد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أعلنت موسكو عدم اعترافها بقرار الرئيس الأميركي بشأن القدس، على نحو دفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن لإجراء اتصال بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليتوسَّط بينه وبين ترمب، ويثنيه عن قراره المتعلق القدس.
التقى صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين وزير الخارجية الروسي، ناقلا الرسالة نفسها من أبو مازن. هذه الرسالة تقوم على التوافق مع السياسات الروسية التي أعلنت مواقف أقرب ما تكون إلى مبادرة السلام للملك عبد الله عام 2002، الداعية إلى دولتين والقدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية. وتستهدف روسيا من ذلك التأكيد على أن المسافات الدبلوماسية بين روسيا وبلدان الشرق الأوسط لن تحول دون العمل على تقوية العلاقات مع العديد من الشركاء الإقليميين. فعلى سبيل، المثال أبدت الدبلوماسية الروسية جهودا ضخمة لتحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية، كما شهدت العلاقات مع دولة الإمارات تطورات لافتة خلال الفترة الأخيرة، هذا في وقت نشطت فيه الدبلوماسية الروسية حيال العديد من الملفات الإقليمية في ليبيا، ولبنان.
يعكس ذلك، أن ثمة هوة واسعة وتناقضا واضحا بين المقاربات الروسية والسياسات الأميركية التي تشير تقديرات غربية إلى أنها تبتغي أن تسحب التزاماتها حيال حلفائها في الشرق الأوسط من أجل التركيز على قضايا أكثر حيوية بالنسبة للأمن القومي الأميركي، بما يتضمنه ذلك من التوجه تدريجيا نحو القارة الآسيوية خلال السنوات المقبلة، على أن تكتفي بأدوار ما يمكن أن يطلق عليه «رجل المطافي» الذي يقوم بإطفاء الحرائق أو على الأقل الحيلولة دون تفاقمها. هذا مقابل سياسات موسكو التي تعمل على الوجود في العديد من الساحات الإقليمية، وفق تحركات تتسم بالمبادرة والقدرة على المواءمة والقبول النسبي بمصالح الأطراف الأخرى.
يرتبط ذلك بالرغبة أولا في تطوير علاقات عربية – روسية تقفز على حواجز العلاقة الروسية – الإيرانية التي أثارت الشكوك العربية. وثانياً، الاستعداد لملء الفراغ الذي خلّفته السياسات الأميركية، والتي أدت إلى الفتور في العلاقة مع العديد من الدول العربية. يتزامن ذلك مع مسعى روسي نحو استعادة النفوذ في منطقة الشرق الأوسط عبر مفاتيح جديدة، وليس عبر رعاية حل النزاع العربي – الإسرائيلي الذي ابتعدت عنه عمداً.
فقد اختارت موسكو أن تغدو شريكا جديدا لحلفاء آخرين في منطقة الخليج، وبينما لن تنقلب موسكو بمقتضى ذلك على علاقاتها مع طهران، فإن هذه العلاقات الأخيرة لن تكون محرك روابطها مع منطقة الخليج. في مقابل ذلك، فإن الدول العربية لن تتخلى عن علاقاتها مع واشنطن، كما أنها لن تجعل من هذه العلاقات سببا في اتخاذ مقاربات مضادة للسياسات الروسية، وإنما ستبحث معها ممكنات اجتراح حلول مشتركة لأزمات الإقليم، وإيجاد أرضية متزنة للعمل من أجل صوغ نمط من الروابط المغاير لما شهدته العقود الخالية من توترات مكتومة أو اضطرابات مزمنة.



روسيا... الحركة في مساحات مختلفة




تعمل موسكو على فتح نطاق للتحرك في ميادين غير تقليدية بهدف تقويض دور حلف شمال الأطلسي بتعزيز دورها في ليبيا، وشمال أفريقيا، والشرق الأوسط. وقد تناولت الباحثة ماشا كيراسيروفا، في مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، الكتاب الجديد الذي أصدره حديثا ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، تحت عنوان «ماذا تدبّر روسيا في الشرق الأوسط؟» وتعتبر الباحثة أن كتاب ترينين الجديد يطرح رؤية واقعية وشاملة لأهداف الحكومة الروسية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة، وارتباطا بأن ترينين خلال الحرب الباردة كان ضابطاً بالجيش السوفياتي لمدة 21 عاما قضى منها 5 سنوات في الاستخبارات العسكرية كضابط اتصال في «العلاقات الخارجية»، ومنذ تقاعده برتبة عقيد أصبح أول مدير روسي لمركز كارنيغي في موسكو.
ويرى ترينين أن روسيا تعمل على توثيق العلاقات مع العديد من دول الشرق الأوسط، ويأتي في مقدمة هذه الدول مصر وليبيا. وفيما يخص ليبيا، يشير إلى أن السياسة الروسية تتحرك نحوها بشكل تدريجي ارتباطا بأنها احتفظت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بالكثير من العقود مع ليبيا في شأن مبيعات الأسلحة ومشاريع البنية التحتية تجاوزت قيمتها 7 مليارات دولار. لذلك، فهى تريد تعويضها عبر عقود تسلح جديدة، وأطر تعاون اقتصادي واستخباراتي وعسكري يخدم مصالح البلدين، وذلك بالتنسيق مع مصر. ويقول الباحث في مجلس السياسة الخارجية الأميركي ستيفن بلاك، إن روسيا لديها استراتيجية تنفذها، من خلال سياسات مدروسة، إذ عززت علاقاتها مع حلفاء جدد بالشرق الأوسط على عكس واشنطن التي باتت تدخلاتها غير مدروسة وملتبسة.
وقالت مجلة «نيوزويك» الأميركية في هذا الإطار إن روسيا تتحرك بكثافة حيال الدولة الليبية عبر أدوات مختلفة، مشيرة إلى تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لنظيره الليبي خلال زيارة الأخير إلى موسكو، حيث أعلن لافروف استعداد بلاده للمساعدة في التوصل إلى تسوية نهائية للأزمة السياسية في ليبيا. وقال لافروف: «روسيا الاتحادية مستعدة لدعم الاتفاقات النهائية. ومنذ بداية الأزمة الليبية، أقمنا اتصالات مع جميع المجموعات السياسية والقبائل دون استثناء. واليوم، نحافظ على تعاون وثيق مع جميع الأطراف الليبية». وذكرت الصحيفة أنَّ إعراب موسكو عن استعدادها للمشارَكة في عملية التسوية في ليبيا يتزامن مع إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بدء انسحاب القوات الروسية من سوريا عقب هزيمة تنظيم داعش.

ولفتت المجلة إلى أنَّه في إطار هذا النهج الروسي، أكد لافروف دعم بلاده لعملية تعديل اتفاق الصخيرات. وأضاف قائلا: «روسيا ستبذل كل ما يلزم من أجل عودة الأوضاع في ليبيا إلى طبيعتها». بيد أن «نيوزويك» قالت إن الولايات المتحدة وحلفاءها يتشككون في الدور الروسي بمنطقة البحر المتوسط، خصوصا ليبيا. ويلاحظ أيضا إعادة موسكو لعلاقاتها مع الصومال بعد انقطاع ثلاثين عاما، لتفتح بوابة جديدة إلى منطقة القرن الأفريقي، والتعاون المتزايد مع جيبوتي، إضافة إلى العلاقات التاريخية والمتصاعدة مع بلدان المغرب العربي، ليصل النفوذ الروسي إلى ما هو أبعد من حلم المياه الدافئة. وأشار استطلاع لمعهد «بيو» (pew) الأميركي للأبحاث مؤخرا إلى أن 64 في المائة يرون أن روسيا أكثر تأثيرا في الشرق الأوسط من الولايات المتحدة، مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل عقد من الزمن.
ويراهن بوتين على إظهار جديته في الدفاع عن حلفائه، وتعزيز حضوره في مختلف القضايا والتعامل المرن مع تناقضات المنطقة، وهي دروس التقطها حتى حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط الذين رأوا في موسكو أنها الأكثر حضورا وتأثيرا خلال أزمات المنطقة. وإذا كانت روسيا عبر تدخلها في سوريا ودعم النظام سياسيا، ثم عسكريا في السنوات السبع من الأزمة، ووقوفها عموما ضد الثورات العربية، قد أثارت غضبا شعبيا ورفضا لتوجهاتها، فإن مجريات الأحداث في المنطقة، وكشف ترمب لطبيعة سياسة واشنطن غير المتزنة، طرحا رؤية جديدة للدور الروسي، وفق العديد من التقديرات.
وفي الدول الثلاث التي زارها بوتين في 11 ديسمبر 2017، فإن الأهداف الروسية تتناقض مع أهداف الولايات المتحدة الأميركية. كما تتسم الروابط مع الدول الثلاث من منظور المصالح الروسية بالبرغماتية والواقعية القائمة على تحقيق المصالح المشتركة (WIN WIN GAME). كما تعمل روسيا، بالتنسيق مع كل من تركيا، وإيران على تحقيق المصالح المشتركة، وفق مسار الآستانة. كما تجعل من ذلك إحدى أدوات التقارب مع تركيا التي باتت تشهد علاقاتها مع واشنطن توترات غير مسبوقة، سيما في ظل استمرار الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية المسيطر عليها من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وتسعى تركيا في هذا الإطار إلى ضمان أن تكون سوريا دولة اتحادية لا يتمتع فيها الأكراد بوضعية تؤهلهم للانفصال لاحقا عن الدولة السورية.

يعد ذلك أحد محركات السياسة الروسية في سوريا، على النحو الذي يجعل أنقرة مدفوعة، لأكثر من سبب، لتوثيق العلاقات مع موسكو، سواء لموازنة النفوذ الأميركي في سوريا، أو لتوسيع هامش الحركة والمناورة أمام تحركاتها الخارجية، في ظل تعدد ملفات التوتر والخلاف مع الإدارة الأميركية. وبينما تتيح موسكو لأنقرة ذلك، فإنها تبتغي توسيع نطاق التوتر في العلاقات الأميركية – التركية، بما يدفع أنقرة إلى العمل على نحو مستمر لتوثيق العلاقات مع موسكو، سيما أن الأخيرة تبدي حرصا في الوقت ذاته على أن تبدو وسيطا في الصراع السوري، من خلال مسار الآستانة، أو مؤتمر شعوب سوريا في روسيا، هذا فيما لم تنجح واشنطن في طرح نفسها كوسيط، وإنما قدمت نفسها بحسبانها أحد أطراف الصراع في الإقليم.



روابط اقتصادية... موسكو ودول الشرق الأوسط




ترتكز المقاربة الروسية حيال الشرق الأوسط على البعد الاقتصادي كمحرك حاكم في صوغ المقاربات الروسية، وقد كان هذا البعد حاضرا خلال زيارة الرئيس بوتين الأخيرة إلى كل من مصر وتركيا، فخلال زيارته إلى القاهرة طغى الجانب الاقتصادي، إذ وقَّع البلدان اتفاقا من أجل إنشاء روسيا محطة للطاقة النووية مشابهة لتلك المزمع إنشاؤها في أكويو المطلة على ساحل البحر المتوسط في تركيا. وستضم تلك المحطة أربع وحدات، وستتكلف مبلغا مماثلا تقريبا يصل إلى 21 مليار دولار أميركي. ومن المقرر أن يبدأ إنشاء المحطة في 2028-2029.
وجرت مناقشة موضوعات أخرى أيضا خلال زيارة مصر، كان من بينها استئناف الرحلات التجارية المباشرة بين القاهرة وموسكو، والتي جرى تعليقها بعد أن أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن تفجير الطائرة الروسية في الأجواء المصرية عام 2015. يتضح من ذلك أن موسكو لم تعد تتبع ذات الاستراتيجيات القديمة القائمة على دعم حلفائها اقتصاديا أو عسكريا، وإنما تجعل من ذلك محض مدخل لتحقيق المصالح المشتركة. وفي هذا الإطار، فقد تصاعدت أطر التبادل التجاري مع دول المنطقة، وحسب مؤشرات موقع «Russian Trade»، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية نحو 15 مليار دولار العام الماضي.
ويصل معدل التبادل التجاري الروسي مع مصر نحو 4 مليارات دولار. وعلى الرغم من أن التبادل التجاري بين السعودية وروسيا بدأ منذ 1992، فإن إجمالي التجارة البينية خلال 23 عاما (حتى 2015) تجاوز 52.96 مليار ريال، بحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء. ويميل الميزان التجاري لمصلحة الواردات الروسية، حيث تمثل 51.93 مليار ريال، في حين تبلغ الصادرات السعودية لروسيا نحو 1.03 مليار ريال. ووفقا للبيانات، ارتفع التبادل التجاري بمعدلات مرتفعة كان أعلاها في عام 2014، حيث وصل إلى نحو 7.28 مليار ريال.

وقد أبدت الشركات الروسية استعدادًا كبيرًا للنفاذ إلى قطاع النفط والغاز بالإقليم، والذي يتمتع بثروات هائلة. وعلى مدار السنوات الماضية، نشط عدد من الشركات النفطية الروسية في المنطقة، أهمها «لوك أويل» في العراق ومصر، بينما تمثل شركة الغاز الروسية (غازبروم) المورد الرئيسي للغاز الطبيعي للسوق التركية.
وقد وقّعت الشركة السابقة مع إيران مؤخرًا اتفاقًا مبدئيًّا لتطوير حقلي «جنكوله»، و«جشمه خشك» بالقرب من الحدود العراقية، وذلك بعد إلغاء القيود على قطاع النفط بالبلاد في يناير (كانون الثاني) 2016، عقب الوصول للاتفاق النووي مع مجموعة «5+1» في يوليو (تموز) 2015. وتعد الاستثمارات الروسية السابقة جزءًا من حزمة استثمارية تتراوح بين 35 و40 مليار دولار ستضخها روسيا بإيران، بحسب تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

وعلى ما يبدو، فإن الشركات الروسية تسعى بدورها أيضًا إلى استغلال ثروات البحر المتوسط، حيث استحوذت شركة «روسنفت» الروسية على حصة 30 في المائة من شركة «إيني» الإيطالية بامتياز حقل «شروق» البحري المصري، وذلك مقابل 1.125 مليار دولار، بالإضافة إلى خيار شراء حصة إضافية تبلغ 5 في المائة مستقبلا.
وبخلاف الأسواق التقليدية للنفوذ الروسي، تتطلع روسيا إلى النفاذ إلى أسواق جديدة. وتعد تركيا ثاني أكبر مستهلك للغاز الروسي بعد ألمانيا، وتستورد نحو 30 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويا عبر خطي أنابيب «بلو ستريم» الذي يمر تحت البحر الأسود الشرقي، و«الخط الغربي» عبر البلقان. ويعتبر مشروع «السيل» التركي أحد المشروعات الاستراتيجية الأخرى التي تولي الحكومة الروسية اهتمامًا موسعًا بها في الإقليم، وهو المشروع الذي صدَّق عليه مجلس الوزراء الروسي في ديسمبر 2016، والذي يتعلق بمد أنبوبين عبر البحر الأسود من روسيا إلى تركيا بطاقة إجمالية تصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا. إن تنفيذ هذا المشروع سيمنح روسيا ميزة استراتيجية للوصول إلى الأسواق الأوروبية بعيدًا عن التعويل على خطوط الأنابيب ذات المخاطر الجيوسياسية الممتدة عبر أوروبا.



موسكو والإقليم... أطر التعاون العسكري




يرتكز البعد الأمني في علاقات روسيا بالإقليم على رؤية السياسة الخارجية الروسية للقيمة الجغرافية والاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط؛ بحسبانها تمثل مكان الصدارة في سلم الاهتمامات العالمية، وأنه لا يمكن لأي نظام عالمي أن يتشكل بعيدًا عن تلك المنطقة الاستراتيجية؛ لما تمثِّله من قلب العالم، حيث يتقرر فيها مراكز التوازنات والقوى الدولية، وتمثِّل منصة ارتكاز، ورافعة سياسية لأي دور محتمل لأية قوة أميركية كانت، أو روسية، أو أوروبية. والشرق الأوسط يمثل حزامًا غير محكم الأطراف يحيط بجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز اللتين تعتبرهما روسيا مجالا حيويًّا لها، وتُسخِّر كل إمكاناتها لمنع أي تعدٍّ يهدد تلك المناطق.
وقد تعددت الصفقات العسكرية بين روسيا والعديد من دول الإقليم، فقد وقَّعت مع تركيا اتفاقا غير مسبوق لتوريد منظومات «S-400» للدفاع الجوي، كما تعاقدت مصر على شراء العديد من منظومات التسلح الروسية. وفي هذا السياق، شهدت العلاقات العسكرية بين موسكو والرياض تطورات غير مسبوقة، حيث أسفرت زيارة الملك سلمان إلى روسيا عن توقيع اتفاقات بشأن صفقات ذات بعد استراتيجي، تسهم في نقل التقنية والتكنولوجيا الروسية إلى المملكة، وتحول الرياض إلى منتج ومصنّع ومصدّر للصناعات العسكرية، وتمكنها من امتلاك وتوطين الصناعات العسكرية المتطورة، وفق رؤية المملكة الخاصة، في عام 2030، وبرنامج التحول الوطني في عام 2020.
وقد توصلت موسكو إلى اتفاق مع مصر يسمح بالاستخدام المتبادل للقواعد العسكرية، بما يرسخ أهمية مصر للموقف العسكري الروسي في المنطقة، سيما في ظل تعدد أوجه التعاون العسكري والتسليحي والتدريبي بين الجانبين، على مستويات مختلفة.

وفي هذا السياق، قال تقرير لموقع «ذا هيل» الأميركي، إن العملية العسكرية الروسية في سوريا كانت خطوة في مسار دعم الوجود الروسي بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لافتًا إلى أن «موسكو حاولت بقوة بسط نفوذها، من خلال صفقات الأسلحة ومشروعات الطاقة، علاوة على الترويج السياحي، والمفاهيم الدبلوماسية الدافئة بهدف تقويض النفوذ الأميركي تدريجيا في الشرق الأوسط».
وأضاف التقرير أنه منذ وصول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين رسميا إلى السلطة، سعى بشكل ممنهج لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى أن أحد العوامل الرئيسية لدفع موسكو إلى المنطقة هي مبيعات الأسلحة والنفوذ الاقتصادي على نطاق أوسع، كما استخدمت روسيا سوريا للإعلان عن أحدث ما وصلت إليه ترسانتها العسكرية. وأشار التقرير إلى أن العلاقة بين روسيا ومصر شهدت تحسنًا ملحوظًا بعد وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم، حيث تضاعفت أرقام التجارة الثنائية بين البلدين. وكانت روسيا ومصر قد نظمتا أول تدريبات بحرية مشتركة في يونيو (حزيران) 2015، وتدريبات عسكرية في أكتوبر 2016. وأوضح الموقع الأميركي أن الرئيس الروسي يتطلع إلى دور أكبر في ليبيا، وذلك عبر دعم قائد الجيش الليبي، خليفة حفتر، حيث تقدم موسكو دعما دبلوماسيا وعسكريا للقائد الليبي، لافتًا إلى أن المشير حفتر قام بثلاث زيارات إلى روسيا، منذ عام 2016.
وعلى جانب آخر، أعلن وزير الصناعة والتجارة الروسي، دينيس مانتوروف توقيع اتفاقية روسية - إماراتية ستشكل قاعدة للتعاون الثنائي في تطوير مقاتلة خفيفة من الجيل الخامس. وقال مانتوروف للصحافيين في أبوظبي على هامش المعرض الدولي الـ13 للأسلحة (IDEX 2017): «وقعنا اتفاقية خاصة بتطوير التعاون الثنائي في مجال الإنتاج الحربي. ويسمح ذلك بتطوير مشروع المقاتلة الخفيفة من الجيل الخامس، الذي سيتم تصميمه بمشاركة الجانب الإماراتي».

ووقع الاتفاقية من الجانب الروسي الوزير مانتوروف، ومن الجانب الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة. كما وقّعت روسيا والإمارات على هامش المعرض مذكرة تفاهم حول نية الجانب الإماراتي شراء طائرات حربية من شركة «سوخوي» الروسية، فيما أوضح تشيميزوف أن الحديث يدور عن صفقة بيع مقاتلات من طراز «سو-35» للجيش الإماراتي. وكان وزير الصناعة الروسي قد قال إن الإمارات أبدت اهتماما بشراء مقاتلات «سو-35» الحديثة، معربا عن أمله في أن تؤدي هذه المفاوضات التي وصفها بالمفصلة، إلى نتيجة إيجابية.
ربما تؤشر جملة هذه المعطيات إلى أن «الدب الروسي» بات حاضرا في ساحات الشرق الأوسط، ليس انطلاقا من استراتيجيات الاتحاد السوفياتي السابق ودوافعه، وإنما تأسيسا على حسابات مغايرة وأدوات جديدة. وبينما تتزايد التحولات الإيجابية التي تشهدها العلاقات مع العديد من دول الإقليم، فإن عمل موسكو على تطوير أدوارها على مسرح عمليات الشرق الأوسط لا يعني أنه سيكون من اليسير تحقيق ما تبتغيه، ذلك أن السياسات الروسية إلى الآن لا تزال تعتمد على الأداة الاقتصادية والقوة الخشنة، وهى لا تقارن بأي حال من الأحوال مع حجم العلاقات العسكرية التي تربط واشنطن مع العديد من دول الإقليم. كما أن لموسكو تاريخا حديثا في القدرة على استخدام القوة الناعمة لتعزيز حضورها الإقليمي، هذا إضافة إلى أن الوجود العسكري والدبلوماسي الأميركي في جميع أنحاء الشرق الأوسط لا يزال يحد من فاعلية الوجود الروسي على الكثير من الساحات الجغرافية.
وعلى الرغم من ذلك، فمن الواضح أن روسيا تستفيد من محدد عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط، وذلك على عكس الولايات المتحدة التي تبدي حرصا على انتقاد أوضاع حقوق الإنسان والحريات العامة في العديد من دول الإقليم، بما يحمِّل العلاقات معها بملفات خلافية وقضايا صراعية تفضي في كثير من الأحيان إلى توترات متصاعدة الحدة، وهو الأمر الذي لا يتحقق في سياسات روسيا التي تتجاهل مثل هذه القضايا، كونها لا تمثل لها محليا أو خارجيا أولوية من أولويات سياساتها الخارجية، بما يخفف كثيرا من الأعباء عن شركائها الإقليميين.
بناء على ذلك، يمكن القول إن تحركات روسيا على مسرح عمليات الشرق الأوسط تقوم على خطين متوازيين: الأول يتمسك بدور فاعل لموسكو في الأزمات الإقليمية، وأبرزها حالياً الأزمة السورية، والثاني: محاولة ترتيب الأجندة الروسية في المنطقة، وفتح آفاق جديدة لعلاقات مع حلفاء جدد، استجابة لضرورات الواقع على الصعيدين الإقليمي والدولي.
font change