بيروت: منذ أن أحيل مشروع قانون الشراء العام وبدء مناقشته في المجلس النيابي في مارس (آذار) عام 2020، وصولًا لإقراره في 30 يونيو (حزيران) 2021، ووضعه حيّز التنفيذ في 29 يوليو (تموز) 2022، في احتفال كبير في السراي الحكومي برعاية رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، كان هناك تشديدٌ على أهميّة هذا القانون، لدرجة وضعه ضمن المشاريع الإصلاحيّة التي اشترطتها المؤسسات الدولية، وتتمثل في إصلاح قطاع الكهرباء، وإقرار قانون السلطة القضائيّة المستقلّة وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وإقرار قانون الشراء العام.
لماذا كل هذا التركيز على قانون الشراء العام؟ هل بمقدروه أن ينزل لبنان من أعلى هرميّة مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافيّة الدوليّة؟ وهل يمكن له أن ينهي عهد الصفقات المشبوهة التي كلّفت الخزينة مليارات الدولارات، والتي تتربع وزارة الطاقة ومؤسسة الكهرباء على عرشها، بعدما كلّفت الخزينة ما يقارب نصف الدين العام؟
يوم سيذكره التاريخ
إصلاح منظومة الشراء العام كما وصفه الرئيس ميقاتي هو من الإصلاحات الهيكلية المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي وقد تكرر ذكره في معظم المحطات والوثائق الأساسيّة مثل توصيات مجموعة الدعم الدولية للبنان، والمبادرة الفرنسية، وتوصيات إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، وطبعاً مؤتمر «سيدر».
وبرأي ميقاتي، فإن هذا اليوم سيذكره التاريخ الإداري كنقطة تحوّل كبير في ممارساتٍ عفى عليها الزمن، والمرحلة المقبلة مليئة بالتحديات، وهناك الكثير من الإجراءات الإصلاحية الضرورية التي توجِب العمل بشكل منسّق بين كافة الجهات المعنيّة على المستوى الوطني، ومع الشركاء الدوليين والجهات المانحة.
القانون هو ثمرة عمل مشترك بين معهد باسل فليحان، والمجلس النيابي، لا سيّما النائب ياسين جابر الذي رأس لجنة فرعية لدرسه وصولًا لإقراره، وإدارة المناقصات. ويُعد من أبرز القوانين الإصلاحيّة، كونه يخضع كلّ مشتريات الدولة الكبيرة منها والصغيرة لهيئة مركزيّة واحدة، ويجبر كل الإدارات على إجراء مناقصة عموميّة علنيّة، باستثناء الاتفاقيات السريّة المتعلّقة بالأمن. ويشكّل بالتالي مدماكًا أساسيّا في إنهاء تفلّت النفقات العامة من الرقابة، ووضع حدٍّ للصفقات بالتراضي التي تتم ترسيتها على عارض واحد.
تتمتع هيئة الشراء العام بصلاحية تراقب كافة المشتريات العامة بما فيها المنفذة من قبل المؤسسات والهيئات والمجالس والصناديق وغيرها، والتي كانت تستثنى من المرور بإدارة المناقصات، ما سمح بلجوء الوزراء إليها لتفصيل دفاتر شروط على قياس عارضين محددين دون حسيب أو رقيب.
ويُعاقب قانون الشراء العام كل من يتدخّل في أعمال هيئة الشراء العام أيًا تكن صفته والحد من المشاريع غير المجدية. يضمن قانون الشراء العام، في حال الالتزام بأحكامه، مبادئ المردودية والفعالية والقيمة مقابل المال، فيحد من مشكلة الإنفاق على مشاريع دون مردودية أو إقراض جهات عاجزة عن سداد ديونها كما يحصل اليوم في ظل القانون الحالي. فعلى سبيل المثال، تُعطى في كل سنة سلفة خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان، علما بأن هذه المؤسسة غير قادرة على ردّ السلفة، وراحت تراكم ديونها سنة بعد أخرى. وفي القانون الجديد، ينبغي على وزارة الطاقة الإنفاق من هذه السلفة لشراء الفيول في ظل رقابة هيئة الشراء العام. ويُلزِم قانون الشراء العام نشر الإجراءات على الموقع الإلكتروني فيصبح بمقدور الشعب والمنظمات والأكاديميين والإعلام الاطلاع عليه دون الحاجة إلى التقدّم بطلب وانتظار المعاملات، مما يحسن القدرة على الرقابة. ويتضمن سجل إجراءات الشراء العام المعايير لتقييم أسس المفاضلة مع أخذ الأسعار المقدمة بعين الاعتبار، إلى جانب المعلومات عن العارضين، الفائزين منهم والخاسرين، وتعليل سبب رفض العارض أو فوزه ومهلة التنفيذ والمُشرِف على المناقصة. ورغم أن قانون الشراء العام لم يذكر قانون حق الوصول إلى المعلومات، إلا أنه تطرق له بطريقة غير مباشرة في الفقرة 2 من المادة 6 حين تحدث عن النشر والقوانين النافذة.
بساط: ما أُنجز كافٍ للمباشرة بالتنفيذ
وكرّس هذا القانون المناقصة كقاعدةً عامة يتوجب تطبيقها في حين لم يكن القانون القديم يتطلب احترامَ مبدأ التنافسية في الصفقات. كما أدخل مبدأ المناقصة على مرحلتين، ولكنه فرض الحصول على موافقة هيئة الشراء العام قبل اللجوء إليها. وقد حصر طلب استدراج العروض في صفقات تقل قيمتها عن 100 مليار ليرة لبنانية. وألغى قانون الشراء العام مبدأ الاتفاق بالتراضي وحصره بالضرورة القصوى فقط. فقد كانت كل الصفقات تُعقد بالتراضي بذريعة أنّها تُعرض في الموازنة.
وللإضاءة على دور المعهد المالي في إعداد مشروع القانون التقت «المجلة» رئيسة المعهد الدكتورة لمياء المبيّض بساط التي أشارت في حديثها إلى أن الظروف التي يمرّ بها لبنان ومؤسساته أثرت على سرعة التحضيرات اللوجستية والإدارية في العام الذي تلا نشر القانون في الجريدة الرسمية، ومنها جائحة كورونا وانخفاض قيمة العملة والتضخّم والأزمة الماليّة الخانقة، لكنها اعتبرت أن «ما أُنجز كافٍ للمباشرة بالتنفيذ».
وذكّرت بأن «الاستراتيجيّة الوطنيّة أقرّت في 20 مايو (أيار) الماضي، وشُكّلت لجنة وزاريّة لمتابعة مسار إصلاح الشراء العام برئاسة وزير الماليّة»، مشيرة إلى أن «المُنسق الوطني المُكلّف من مجلس الوزراء، وهو معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، نظّم العمل على سبعة محاور».
وشددت على أن «المرحلة الثانية من تنفيذ الاستراتيجيّة تتطلب مجموعة من الخطوات، أوّلها: مساندة هيئة الشراء العام في عملها وفي وضعها المنصة الإلكترونيّة المركزيّة موضع التنفيذ وتشكيل هيئة الاعتراضات إلى جانب المسارات الأخرى».
وتابعت: «نحن واعون إلى أن ثمة صعوبات كثيرة أمام تطبيق هذا القانون وأن الجهات المعنية لديها الكثير من التساؤلات حول دقائق التطبيق، وكيفية استخدام المنصة الإلكترونية، ودفاتر الشروط النموذجيّة.. إلخ. ولكن نحن نعمل مع هيئة الشراء العام على تذليل هذه العقبات».
وأكّدت أن «القانون، بعكس ما تتخوّف منه بعض الجهات الشارية، إذ يسهّل عمل هذه الجهات إن لناحية إدخال طرق شراء جديدة تتناسب مع حجم الشراء أو لناحية التشجيع على الشراء المشترك، أو لناحية اعتماد أسقف مالية متناسبة مع الواقع الحالي للتضخّم الحاصل، وكذلك اعتماد طريقة مرنة لتعديل الأسقف المالية بحيث يُقرّ التعديل بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء بناء على توصية هيئة الشراء العام».
هذه هي النظرة الرسمية لقانون الشراء العام، فما هو رأي الخبراء، خصوصاً أنه قديماً كانت الوزارات تنشئ المناقصات التي تريدها وتفرض شروطها، أما الآن فقد أصبحت مجبرة على أن تنشر المناقصة على المنصة الرئيسية عبر هيئة الشراء العام، وبالتالي إذا لم يتم نشرها على هذه المنصة فسيتم إلغاء المناقصة. بالإضافة إلى أن ناشر الدعوة مجبر على أن ينشر التفاصيل والنتيجة لمعرفة من ربح المناقصة لكي لا تتكرر تجربة سوناطراك التي دامت 15 سنة في العقد. كما أن هناك إلزامية بإعلان النتائج خلال فترة لتسهيل عملية الشركات الأجنبية ومن دون تضييع وقتها وبالتالي على العملية كلها أن تكون شفافة.
علامة: أهم القوانين الإصلاحية
الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور بلال علامة اعتبر في حديثه لـ«المجلة» أن قانون الشراء العام بعد إقراره يشكل أحد أهمّ القوانين الإصلاحية التي التزم لبنان بالعمل عليها وإقرارها وفقاً للمعايير الدولية المعتمدة، بهدف تحقيق النتيجة الأمثل والمنهجية الفضلى في إنفاق المال العام، وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة عبر تكافؤ الفرص لا سيما بعد إقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، علماً بأن وضع القانون موضع التنفيذ سيساهم في تعزيز الشفافية والنزاهة والمساءلة، واستعادة ثقة المجتمعين المحلي والدولي.
وأضاف: «لطالما اعتبرت مسألة الشراء والمناقصات إحدى أهم المشاكل التي بقيت تواجه المؤسسات والإدارة اللبنانية، نظراً للغموض الذي يلف عملية الشراء العام والشبهة التي أحاطت بعملية التلزيمات والمناقصات»، مشيراً إلى أن الخلل في منظومة الشراء العام والآليات المعتمدة في إجراء المناقصات، وغياب الشفافيّة والرقابة ومبدأ المحاسبة، فضلاً عن صيغة «التراضي» التي اعتمدت في قسم كبير من القطاعات، رفعت الأصوات المطالبة بمعايير واضحة ودفاتر شروط منظّمة وعلنيّة المناقصات والمنافسة المشروعة والمساءلة وتعزيز دور إدارة المناقصات بعيداً عن المحسوبيّات والصفقات المشبوهة.
وأكد أن هذا الملف ما كان ليُفتح، لولا الهدر وشبهات الفساد التي شابت منظومة الشراء والتلزيمات، وما تردد عن صفقات تحيط بها، وضعت لبنان في المرتبة 137 من أصل 180 بلداً على مؤشر مدركات الفساد للعام 2019.
سابقاً، اعتبرت «منظومة الشراء العام في لبنان ذات جودة متدنيّة، إذ بلغ المؤشر العام لجودة دورة الشراء 48/100»، وفقاً لموجز إصلاح الشراء العام في لبنان الصادر عن «معهد باسل فليحان الماليّ والاقتصاديّ في مايو 2020. وهذه النتيجة المتدنية تعود لعدّة أسباب من أبرزها تبعثر الأطر القانونيّة التي ترعى الشراء العام في لبنان وعدم تطابقها مع معايير الشفافيّة المطلوبة لتعزيز الحوكمة الرشيدة».
وأشار علامة إلى أن أوّل ما ينصّ عليه القانون لمعالجة الثغرات من ناحية الشفافيّة والنزاهة والمساءلة هو «اعتماد منصّة إلكترونية مركزية لإدارة الشراء العام وإلزام الجهات الشارية نشر المعلومات الأساسية المتعلقة بمراحل الشراء على هذه المنصة»، لتكون معظم المعلومات متوفرة ومتاحة باستثناء الحالات السريّة التي ينصّ عليها القانون،. وبحسب القانون فإنّ المنصّة هي «أساس لنظام إفصاح ورقابة فعليّة» ويسمح بالوصول إلى البيانات والمعلومات.
بيضون: المطار نافذة لبنان الوحيدة إلى الخارج
المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه الدكتور غسان بيضون الذي دخل في نزاع مع وزراء الطاقة المتعاقبين، حيث كان يحرص على إبداء اعتراضه على أي معاملة، يرى فيها مخالفة للقانون، حيث أشار في حديثه لـ«المجلة» إلى أن القانون يولي إدارة المناقصات صلاحية إجراء المناقصات لتأمين حاجات الوزارات وحاجات إدارات الدولة من اللوازم والأشغال والخدمات عن طريق المناقصات العمومية عندما تتجاوز قيمة كل منها مبلغاً معيناً وتترك المجال لتأمين هذه الحاجات.
وقال: «تعتمد في إجراء المناقصات أصول وأسس وإجراءات وقواعد المنافسة والعلنية والمساواة لضمان حصول الدولة على أفضل نوعية بأقل سعر وأفضل الظروف. ويسمح القانون بتأمين حاجات الوزارات والإدارات بطرق أخرى مثل استدراج العروض أو التراضي ويحدد لكل منها شروطاً خاصة؛ غير أن هذه الأصول والقواعد لا تشمل مؤسسات الدولة والبلديات غير الخاضعة لقانون المحاسبة العمومية. وبالتالي فإن نسبة ضئيلة من مجموع إنفاق الدولة كانت تخضع لإدارة المناقصات التي تتولى إجراء المناقصات العمومية. ويحاول الوزراء عادة انتهاك أصول هذه المناقصات بشتى الطرق ومنها اختصار المهل بطلب من الوزير الذي يوليه القانون هامشاً من التقدير والتقرير بهذا الشأن، وعن طريق تفصيل دفاتر الشروط على قياس شركات معينة تكون للوزير مصالح معها وله منها منافع وفوائد».
وبرأي بيضون فإن إدارة المناقصات تستمد أهمية دورها من صلاحياتها في وضع الملاحظات على دفاتر الشروط والتحقق من توفر مختلف الشروط القانونية للمناقصة والمنافسة وعدد العروض، وقد استمر الوضع على هذه الحال حتى صدور قانون الشراء العام الذي يسري اعتباراً من 29 يوليو (تموز) 2022، بحيث باتت مناقصات جميع إدارات الدولة ومؤسساتها والبلديات تخضع لرقابة وإشراف «إدارة المناقصات»، التي تتحول بموجب القانون الجديد وتنتقل بموظفيها إلى «هيئة الشراء العام».
وأكد بيضون أنه «كانت لرئيس إدارة المناقصات الدكتور جان العلية صولات وجولات في مواجهة محاولات تهريب مناقصات مفصلة على القياس وأشهرها مناقصة البواخر خلال العام 2017، ولكن جرى الطعن بعدة مواد من قانون الشراء العام أمام المجلس الدستوري. ومن هذه المواد بقاء مدير عام إدارة المناقصات على رأس الهيئة انتقاماً من الدكتورعلية ولتحييده والسيطرة على أعضاء الهيئة المفترض تعيينهم تطبيقاً للقانون الجديد».
وأشار: «بناءً على متابعتي لموضوع إبطال مناقصة السوق الحرة بعد 5 سنوات من إجرائها وقبل فترة قصيرة من انتهاء مدة التلزيم، بالرغم من حصول الدولة على إضعاف إيرادات المزايدة السابقة، استنتجت أنها محاولة لإثارة الشبهة على الدكتور علية وتعطيل تطبيق قانون الشراء العام لتستمر هيمنة بعض الوزراء على مناقصات وزاراتهم والتحكم بمجرياتها ونتائجها والانتفاع منها. أما بالنسبة لمنفعة الاقتصاد من هذا الإبطال المشبوه فهو غير صحيح؛ وإنما هناك ضرر معنوي يمكن أن ينال من ثقة الشركات الأجنبية بالدولة ومؤسساتها وهذا بالطبع يلحق الضرر بمصالح الدولة خاصة في هذه الظروف الصعبة، التي وصل إليها لبنان وهو بأمس الحاجة لتشجيع الاستثمار فيه ودخول تمويل من الخارج يساهم في تحريك اقتصاده».
وختم بيضون: «إن المطار هو المنفذ شبه الوحيد لاتصال وتواصل لبنان مع الخارج، لاسيما في قدوم السياح والمغتربين في مواسم الأعياد إليه، والتي تشكل مواردها أهم مصادر لبنان من العملة الأجنبية التي تساهم في تخفيض عجز ميزان المدفوعات، الذي يعاني من تفاقم تصاعدي منذ عدة سنوات. وكان هذا التفاقم من أهم عوامل الانهيار المالي الذي ما زال لبنان يعيش ارتداداته وانعكاساته السلبية على اقتصاد البلاد وموارد الدولة ومختلف قطاعات الاقتصاد والنظام المصرفي وسعر الصرف وقيمة الليرة».