في ختام الجولة التي قادته إلى كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن استمرار واشنطن في القيام بدور قيادي ومحوري في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدا إصرارها على عدم ترك ما سماه «الفراغ» الذي يمكن أن تبادر كل من روسيا والصين إلى ملئه ضد مصالح كل من الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها إسرائيل.
ولم تكد وكالات الأنباء العالمية تنهي عملية بث تصريحات الرئيس بايدن، التي جاءت في ختام لقاء جمعه بقادة دول الخليج الستة وكل من العاهل الأردني، والرئيس المصري، ورئيس وزراء العراق، فيما سمي قمة الأمن والتنمية، حتى سارعت قوى دولية وإقليمية وتنظيمات ميليشياوية عديدة إلى إبداء ردود فعلها إزاء مضمون تلك التصريحات إما مرحبة بها أو مهاجمة لها حسب الحالات.
وبإجماع العديد من المراقبين، فإن أقوى رد فعل منتقد ومهاجم لما تفوه به الرئيس الأميركي هو الصادر مباشرة من الصين، التي لم تكتف بهاجمة التصريحات الأميركية، وإنما شخصت واقع منطقة الشرق الأوسط واحتياجاتها الحقيقية انطلاقا من إدراك تبلور لدى صانع القرار السياسي الصيني بأن أي ترسيخ وتكريس للوجود الأميركي في العالم العربي هو لقطع الطريق على الصين والإضرار مباشرة بمصالحها.
ففي الوقت الذي نفت فيه بكين أن تكون منطقة الشرق الأوسط تعاني من الفراغ، واستهجنت الموقف الغربي عموما والموقف الأميركي على وجه الخصوص، الذي تقول إنه يعتبر المنطقة العربية مجرد باحة خلفية له، أكدت على أن سادة الشرق الأوسط هم شعوبه، التي تحتاج، في وضعها الحالي المضطرب، إلى الأمن والتنمية والحصول على مساعدات دولية بناءة، منوهة بما لدى قادة المنطقة من قدرة، وحكمة «للحفاظ على الاستقرار العام وحل المشاكل التي خلفها التاريخ».
وفيما يبدو تعبيرا عن طبيعة علاقاتها الجيدة مع كافة الدول العربية، أعربت الصين في سياق الرد على واشنطن عن استعدادها للمساهمة في تلبية احتياجات شعوب المنطقة، وفي تسوية القضايا الساخنة في المنطقة تسوية عادلة ومعقولة، داعية الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية إلى احترام سيادة دول المنطقة، والقيام بما يفيد في تحقيق التنمية السلمية المنشودة.
لم يكن ما سبق مفاجئا، فكما هو معهود في الدبلوماسية الصينية، فإنها تحسن انتهاز الظروف التي تحتم عليها اتخاذ موقف ما فتبادر إلى تضمين ردها أكثر من رسالة ولأكثر من جهة إذا تطلب الأمر. لذلك لم تكتف في البيانات الصادرة عنها ضد تصريحات الرئيس الأميركي بتوجيه انتقادات لاذعة للسياسة الأميركية، وإنما عبرت أيضا وبشكل إيجابي وبناء عن طبيعة علاقاتها مع البلدان العربية، مؤكدة تفهمها لاحتياجات العرب في الاستقرار والتنمية، ومعربة مجددا عن دعمها لقضاياهم السياسية العادلة، وخاصة القضية الفلسطينية.
إن هذا الموقف غير جديد بالمرة على الصين التي عملت على استبعاد الاعتبارات الآيديولوجية في تعاملها مع كافة الدول العربية منذ أن ارتبطت معها بعلاقات دبلوماسية كاملة، مفضلة التركيز على تطوير التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري والاستثماري، كما يمكن أن يستشف من مشروعها الضخم الخاص ببناء طريق حرير جديد بمعطيات ومفاهيم مواكبة للعصر الراهن وتطوراته التكنولوجية الفائقة السرعة والدقة.
ومما لا شك فيه، فإن تفعيل وتنفيذ هذا المشروع، الذي تمثل معظم الدول العربية قطب الرحى فيه، باعتبارها إما دولا غنية بموارد الطاقة من النفط والغاز وإما ذات موقع جغرافي واستراتيجي مهم، ناهيك عن كونها أسواقا كبيرة ومقتدرة هو من أملى على بكين مضاعفة جرعات الحذر والتروي في سياستها العربية، وأن تكون أكثر مراعاة للأوضاع القائمة، وبمنأى عن التدخل علانية في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
وكما يلاحظ فإن لأهمية وقوة العوامل الاقتصادية والتجارية والاستثمارية دورا كبيرا في الموقف الصيني البالغ التقدير والاحترام للأنظمة العربية، وهي عوامل ساهمت مثلا في رفع نسبة التبادل التجاري بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي من 2 في المائة من حجم التجارة الخارجية لدول المجلس في مطلع هذه الألفية إلى حوالي 15 في المائة قبيل انتشار جائحة كورونا. ولكن البعض يعزو ذلك أيضا إلى ما يسمى «المبدأ الصيني المقدس لسيادة الدول» المرتكز على معاداة التدخل الخارجي المفرط، وتفضيل سياسة الخطوة خطوة في التعامل عبر تقديم حوافز مادية إيجابية بدلا من تشديد العقوبات أو استخدام القوة الخشنة.
اتضح هذا التوجه الذي يميز السياسة الخارجية الصينية عموما إبان ثورات الربيع العربي، إذ اتسمت مواقف بكين بالتريث وبالاعتدال وإمساك العصا من الوسط وخاصة في الأزمة السورية. ففي الوقت الذي نددت بكين وعارضت التهديد باستخدام القوة لإسقاط النظام انتقدت ما وصفته بالجمود السياسي في سوريا، وسعت إلى تقديم مبادرة متدرجة للمصالحة الوطنية، معززة ذلك بموافقتها على قراري مجلس الأمن الدولي 2042 و2043 اللذين أدانا لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الثقيلة في الأماكن السكنية.
ولا شك أن هذه المواقف الصينية إزاء التعامل مع العرب وقضاياهم لعبت دورا أساسيا في أن تحظى خطوات الانفتاح القادمة من بكين بترحيب كبير وبخطوات مماثلة من كافة العواصم العربية التي تسجل للصين حرصها على احترام الخصوصيات والبعد عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والبحث فقط عن المنفعة المتبادلة في كل مجالات التعاون بين الطرفين.
اعتاد الدبلوماسيون الصينيون الترويج للفرق بين الأسلوب الغربي وخاصة الأميركي، والأسلوب الصيني، في التعامل مع القضايا الدولية الساخنة، بالإشارة إلى أنه فرق حضاري وثقافي يظهر أيضا في اختلاف طرق العلاج الطبية بين الطرفين، فبينما يحبذ الغربيون العلاج بالجراحة الموضعية المؤلمة، يفضل الصينيون استخدام الوخز الناعم بالإبر.
واللبيب بالإشارة يفهم.