دمشق: في دمشق، ثاني مدينة بنيت على الأرض بعد طوفان نوح، حسبما ذُكر في كتاب «تاريخ دمشق» للمؤرخ ابن عساكر، من يقف تحت جسر الرئيس الممتد على طول 400م في منتصف العاصمة، يجد نفسه محاطاً ببوصلة لأربع جهات، أربعة أحياء، لتظهر أربع حكايات، فمن الشمال يتمركز شارع المالكي، المكنّى باسم العقيد الركن عدنان المالكي، وفي الشرق يقطن أهل الصلاح والفلاح كما تم وصفهم في حي الصالحية، وإذا أراد أن يذهب جنوباً ليرى حي كفرسوسة الشاب، وكيف تحول من طفلة مزارعة، لشابة مليئة بالمتغيرات، فليس أمامه إلا هذا الحي، كالحسناوات العاديّات دون غواية، أما إذا أراد أن يذهب نحو الغرب فيجد أمامه امتداد أوتوستراد المزة، لتسحر شوارع دمشق، وأحياءها، كل من مر فيها، ببساطة فنها العمراني، وتغلٌّب طابع حياة قاطنيها في الماضي، والحاضر، على تاريخها، وسبب نشأتها، وبين هذا الحي وذاك، تقبع قصة في دمشق لكل منها، كحي الصالحية، والمالكي، وغيرها من الأحياء التي وضعت بصمتها في التاريخ العمراني الدمشقي.
حي العقيد
هو أحد الأحياء الراقية في دمشق، وسمي بهذا الاسم نسبة للعقيد الركن عدنان المالكي، الذي اغتيل عام 1955، على أرض الملعب البلدي في العاصمة، عندما كان يرعى إحدى المباريات.
هكذا عبر أبو عمر أحد القاطنين في هذا الحي، يقول لـ«المجلة»: «لقد ولدت في هذا الحي منذ 57 عاماً، وقد سمي بهذا الاسم نسبة للعقيد عدنان المالكي، وتعتبر عائلة المالكي من أعرق الأسر الدمشقية التي تنحدر من أصول مغربية، منذ 300 عام، فكانوا يملكون أرضاً زراعية في منطقة الغوطة الدمشقية ويشرف على زراعتها والده، وقد ولد عدنان المالكي في حي المهاجرين عام 1919م، وتخرج من الكلية العسكرية في حمص برتبة مرشح ضابط وترقى لرتبة ملازم ثانٍ عام 1940، وهو الذي عُرف بموقفه المعادي للاحتلال الفرنسي آنذاك، وأثناء جلاء المستعمر الفرنسي عن المنطقة، كان عدنان أول من حمل العلم السوري 17 أبريل (نيسان) عام 1946، وهو تاريخ مميز لدى السوريين، يحتفلون به حتى اليوم من كل عام».
يتابع أبو عمر سرد قصة حي المالكي فيقول: «يعتبر هذا الحي هو امتداد لحي أبو رمانة، الذي تم الاختلاف على تسميته، فقد كان يسمى حي أبو رمانة بعدة أسماء منها شارع بريطانيا وذلك بعد تدخل الجيش البريطاني لوقف العدوان الفرنسي على دمشق عام 1945م، وبعد جلاء العدو تمت تسميته بشارع الجلاء، لكن قاطنيه أصروا على تسميته بحي أبو رمانة، وبعد جلاء المستعمر، نشطت الحركة العمرانية في دمشق ليمتد من شارع أبو رمانة حي المالكي، والذي اشتهر بساحته الكبيرة، وقد كانت تسمى ساحة دوحة الوليد، لكنها تغيرت تيمناُ بالعقيد عدنان وسميت بساحة العقيد الشهيد عدنان المالكي، وتم إنشاء تمثال له عام 1958، وتحيط بها حديقة الجاحظ المشهورة في دمشق، والتي تعتبر من المعالم المعروفة في ذلك الحي، بالإضافة لاستقطاب المنطقة لفئة الشباب، وتطور النشاط العمراني فيها، أدى إلى إنشاء ساحة المطاعم، في منتصف الثمانينات، والتي تحتوي على أشهر المطاعم في دمشق، بالإضافة إلى نشوء العديد من المباني والعمارات، والتي استقطبت العائلات الراقية في دمشق، نسبة لارتفاع ثمنها».
كفر سوسية
هذه المنطقة التي تقع في جنوب العاصمة دمشق، وتبعد عن مركز المدينة 3 كيلومترات، والتي أصبحت اليوم من الأحياء الراقية في دمشق، بعد أن كانت حيا زراعيا بسيطا، مليئا بالعشوائيات، اشتهرت عبر التاريخ بزيت الزيتون الذي كان يُرسل إلى مكة المكرمة، كما استدل الباحث أحمد بقلة على ما ذهب إليه من بناء جامعها الكبير الذي يشابه في بنائه المسجد الأموي، ومن قاعدة مئذنة الجامع التي تشابه في بنائها أبراج معبد حدد ثوجوبيتر الدمشقي، الذي تحول فيما بعد إلى المسجد الأموي، مؤكداً أن هذا الجامع كان كالجامع الأموي معبداٞ للإله حدد وجوبيتر ثم كنيسة ثم مسجداً دشنه عمر بن الخطاب.
وقد بنيت كفرسوسة بالتزامن مع مدينة دمشق بعقود قليلة، وهي لفظ بالسريانية، إحدى اللغات المشتقة من الآرامية، وأصلها كُفرسوسية، وهو من شقين كفر وتعني المزرعة والشق الثاني سوسية وتعني الخيل وبذلك يكون المعنى مزرعة الخيل وقد ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان باسم كفر سوسية، وتقسم كفر سوسة إلى ثلاثة أحياء وهي البلد، والواحة، واللوان، وجزء من حي الإخلاص، وبها أمكنة تسمى القصر والبرج، ومع التطور العمراني الذي حدث في الآونة الأخيرة، فقد أصبحت تضم العديد من الأبراج السكنية، والأسواق الضخمة، منها مركز تسوق شام سيتي سنتر، كما تشتهر بالعديد من المعالم منها الجامع الكبير، وموقف الحمالة، حيث كانت تشتهر المنطقة بتربية الجمال والتجارة لها، والمعصرة نسبة لاشتهارها بمعاصر الزيتون، وزراعته، لكن مع التطور العمراني، ورفض المخططات التنظيمية للأحياء العشوائية، فقد تحولت هذه المنطقة، من حي زراعي بسيط، إلى أحد الأحياء الراقية في دمشق، والمستقطبة للعائلات الثرية في العاصمة، إلا أنها ما تزال تحتوي، أو ربما تحافظ على جزء من عشوائيتها التي استطاعت من خلالها صنع تلك الصورة عن هذا الحي.
أهل الصلاح والفلاح
تعود قصة حي الصالحية، إلى ما قبل 961 عاما، عند احتلال الصليبيين لبيت المقدس عام 1156م، حينها كان هناك في قرية تدعى جمّاعين، عالم وخطيب يدعى أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، والذي كان غير راضٍ عن احتلال الصليبيين، وذلك من خلال دروسه في بيته، وخطاباته التي وصفها الصليبيون بالخطابات التحريضية، فسعوا لقتله، وعندما علم أحمد بذلك، سارع بالهرب نحو دمشق، ودعا رواده، وأهله للحاق به، وبعد وصولهم لدمشق، وضعوا رحالهم عند جامع أبي صالح الحنبلي في باب شرقي، وبعد أن كثر المهاجرون، والذين كان منهم بنو قدامة، وكانوا حسبما نقلته كتب التاريخ من الصالحين والشرفاء، في المنطقة، مما أدى إلى تجمعهم وازدياد قوتهم، فعظم شأنهم، حيث أثناء رحلة للشيخ أحمد بن قدامة إلى أرض على سفح جبل قاسيون، أُعجب بتلك المنطقة، وقرر بناء دير على تلك الأرض، حتى الآن تسمى بحارة الدير، وتعتبر أول مكان تم إنشاؤه في حي الصالحية، حينها اتسعت شهرة بنو قدامة في المنطقة، وذاع صيت الشيخ أحمد في المنطقة، مما جعل أهل دمشق يلتفون حوله، فكثرت الدور، ونشط العمران في المنطقة، وسميت بحي الصالحية، نسبة لأن أهلها كانوا أهل صلاح وفلاح.
وهذا ما أكده المؤرخ الدمشقي أبا شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بقوله في كتابه المحقق «تاريخ الصالحية»: «بهم سميت الصالحية لصلاحهم»، ويقول جورج فاروق، أحد سكان الصالحية لـ«المجلة»: «لا يمكنك أن تجد حياً كحي الصالحية، جمع بين العلم والدين، والسحر والشعوذة، وتُباع فيه جميع أصناف البضائع، لكن لم يلغ ذلك الحي على الرغم من تطوره، تراثه وتاريخه، فهو حتى الآن طريق معبد بالحجارة القديمة، فيمكنك عند المرور به أن تشعر بالغرابة، فإذا نظرت إلى أرضه تشعر وكأنك في دمشق القديمة، وإذا رفعت أعينك نحو محالها ترى التطور في الصناعات على اختلاف أنواعها، وتكاثرها، وترى الجموع من أهلها، وزوارها المختلفين، لتشعر بالتناقض، ويضم عدداُ من مكاتب المحامين، وعيادات الأطباء، التي يقطن فوقها أناس عاديون، وعلى مقربة منه يمكنك أن تشاهد مجلس الشعب، ومقهى الروضة، الذي يعتبر محطة انتظار واستراحة، وتجمعات التجار والشباب، إلا أنهم ما زالوا يحافظون على ما وضعه التاريخ في تلك المنطقة من دمشق».
المِزة وليست المَزة
هو المِزة، بكسر الميم، وليست المَزة، بفتح الميم. وهو حي يقع في الجهة الغربية من دمشق، كان عبارة عن حي بسيط وهو في الأصل قرية من قرى غوطة دمشق، ضمت العديد من الصحابة، والعلماء، منهم أسامة بن زيد، حسبما ذكر المؤرخ شمس الدين محمد بن طولون في كتابه «تاريخ المزة وآثارها»، والمِزة هو اسم يوناني الأصل ويعني الرابية، نسبة لارتفاع سطحه عن سوية دمشق، الذي يلحظه كل من قدم من جهة ساحة الأمويين، واشتهرت الروايات والقصص حول سبب التسمية، أنها كانت تشتهر بطعم الصبار الحلو (التين الشوكي)، كما تم تناقل رواية أخرى تقول إنه كان كل من يمر بالمزة، ويتذوق الصبار الحلو من بساتينها يقول إنها (مِزة) أي إنها ذات مذاق رائع، أما الرواية الأخيرة، فقد قيل إنها سُميت بالمزة نسبة إلى الآرامية من مزونا والتي تعني الغلال والمؤونة، وعلى الرغم من اختلاف القصص والحكايات حول التسمية، فقد اكتسبت المنطقة أهميتها من مطار مزة العسكري الذي بناه الفرنسيون جنوب غربي دمشق، وقد ازدادت حركة العمران في المنطقة فترة الستينات، حيث تم بناء حي المزة، وحي الفيلات الشرقية، وتم إنشاء أوتوستراد المزة في أوائل السبعينات، وتحتوي على العديد من الوزارات منها العدل، والإعلام، كما السفارات أيضاً، كالسفارة الإيرانية، والأردنية، فأصبحت بذلك من أشهر الأحياء الدمشقية، كغيرها من الأحياء، التي وعلى الرغم من مرور آلاف العقود عليها، ما تزال تحافظ على بصمة أولئك الغائبين الحاضرين في أذهان أزقتها، وحاراتها، وربما أبنائها.