إذا كان لليأس درجات، فإن الانتحار هو أقصى درجة تفتت أكباد البشر. ولحسن الحظ، أغلب الأمور القصوى نادرة الحدوث. ولكن تخبرنا مجموعة كبيرة من الإحصائيات الرسمية الصادرة عن هيئات صحية في دول مختلفة أن حالات الانتحار لم تعد نادرة الوقوع. أصبحت أكثر شيوعاً على نحو ملحوظ، بل ومعدل انتشارها يتسارع في الحقيقة وليس العكس.
علاوة على ذلك، بدأت هذا الدرجة القصوى من اليأس تحصد أرواح أشخاص أصغر سناً، وخاصة المراهقين، حيث تكشف أحدث الإحصائيات أن الفتيات أكثر عرضة للخطر. باختصار، ما اعتبرناه لفترة طويلة ماضية حالة استثنائية لمأساة شخصية- ينهي فيها شخص حياته- أصبح سريعاً قضية صحة عامة عاجلة جديرة بأن تطرح أمام فرق وضع السياسات حول العالم.
أعلنت منظمة اليونيسيف، التي دقت ناقوس الخطر بشأن سوء حالة الصحة النفسية بين المراهقين، أن 46.000 طفل ومراهق ما بين 10 و19 عاماً يلجأون إلى الانتحار سنوياً. أي بمعدل حالة كل 11 دقيقة. وبتتبع الأرقام، تشير الإحصائيات إلى زيادة حالات الانتحار بنسبة 57 في المائة بين من يبلغون 10 إلى 24 عاماً فيما بين عامي 2007 و2018. ووفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، في ربيع عام 2021، ارتفعت نسبة محاولات الانتحار بين الفتيات من عمر 12 إلى 17 عاما بمعدل 50 في المائة مقارنة بالعامين السابقين. ووفقاً للمؤسسة الأميركية لمنع الانتحار، يُعد الانتحار ثالث أكثر الأسباب شيوعاً في وفاة الصغار، وثاني أكثر الأسباب شيوعاً في وفاة طلاب الكليات.
والانتحار ليس بالشيء الذي يمكننا «فهمه» من خلال قراءة المقالات. فمن الصعب وصف حالات العقل في أفضل الأحوال؛ من المستحيل تقريباً وصف الحالة العقلية التي يمر بها شخص يوشك على قتل نفسه. عندما يرى شخص ما أن الموت أفضل خيار لديه، كيف تبدو الخيارات الأخرى أمامه؟ استخدم بعض المعلقين مثال شخص يقفز من مبنى محترق، فهو لا يخشى من أن يلقى حتفه إثر سقوطه، لأن الاحتراق حياً أسوأ.
يمكن أن يستغرق المرء وقتاً قليلاً جداً حتى يصل إلى أقصى درجات اليأس، وأن يعتقد أن قتل نفسه هو أقل خياراته سوءاً. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة هذا الصيف، كان من المفترض على أب أن يصطحب طفله الرضيع النائم إلى الروضة قبل ذهابه إلى العمل في يوم قائظ. نسي الأب واتجه إلى المكتب مباشرة وبدأ عمله، وبعدها أدرك أنه ترك طفله في السيارة طيلة ذلك الوقت. بعد أربع ساعات من اكتشاف وفاة طفله بسبب حرارة الطقس، أقدم الأب على قتل نفسه. قد لا يحتاج الوصول إلى أقصى درجات اليأس شهوراً أو أسابيع أو حتى أيام.
إن العمليات الذهنية التي تؤدي إلى الانتحار معقدة ومختلفة، ولكنها قد تتضمن الشعور بفقدان الأمل والإحباط والوحدة وغياب الهدف وشعور المرء بأنه عبء أو حبيس أو فاقد للسيطرة، أو تحت وطأة ألم عاطفي وبدني لا يمكن تحمله أو وسط دوامة مؤذية تحمل مزيجاً من هذه المشاعر.
إن معدلات «محاولة» أو «إتمام» الانتحار في ارتفاع. ويشار إلى أن استخدام كلمة «يرتكب» (تعني commit في اللغة الإنجليزية وتتلازم لفظياً مع الانتحار) ينطوي على أن الفعل غير أخلاقي بل وأيضاً غير قانوني وهو ما لا يساعد الأسر المكلومة. من الممكن أن ينتقل الألم غير المحتمل الذي تعرض له الشخص سريعاً إلى أفراد أسرة المتوفى، الذين عادة ما يواجهون على الفور أسئلة كثيرة، وربما لا يجدون أبداً إجابات تبرد قلوبهم. أحياناً ما يسأل أحباء الشخص المنتحر أنفسهم: هل كان بإمكاني منع ذلك؟ وأحياناً يلقون باللوم كله أو بعضه على أنفسهم. وقد يكون من الصعب عليهم أن يصلوا إلى نهاية ملائمة لهذه الأسئلة يغلقون بها هذه الذكرى.
يعتقد العاملون في المجال الطبي أن الانتحار أحياناً ما يكون نتيجة لسوء حالة الصحة النفسية. وتقدر اليونيسيف أن واحدا من كل سبعة مراهقين يعانون من اضطرابات نفسية، بما فيها الخلل السلوكي و/أو اضطرابات القلق و/أو الاكتئاب، ولكن من الصعب تشخيصها خاصة بالنظر إلى آلام النمو والتقلبات المزاجية «الطبيعية» الشائعة في هذه الفئة العمرية التي تطرأ نتيجة للتغيرات الهرمونية.
كيف نعرف إذا كان المراهق كثير الشكوى والكآبة ومتقلب المزاج يطلق صرخة للمساعدة، أو أنه مجرد مراهق ذي سلوك طبيعي؟ من الصعب للغاية أن نعرف. كذلك ربما يكون الشعور بالنقص مقارنة بالأقران شعوراً طبيعياً أو سببا لمشكلة كبيرة، يتوقف الأمر على كيف يتعامل الشخص مع هذه المشاعر وهذا الضغط.
كانت ولا تزال هناك الكثير من الأسباب وراء غضب المراهقين، الذين يشعرون بالحاجة إلى الاندماج مع أقرانهم، ربما هو الضغط من أجل الإنجاز (سواء في الدرجات أو المكانة الاجتماعية)، أو التعامل مع مسائل تتعلق بالتوجهات الجنسية، أو التغلب على الوحدة أو التنمر أو الأكثر أهمية غياب الدعم في المنزل، أو أسباب أخرى محتملة لا تحصى للإصابة باضطرابات نفسية.
في بعض الأحيان لا تساعد الطبيعة، حيث يمكن أن يكون الاكتئاب وراثيا في العائلة مثلاً. كذلك أيضاً الوباء الذي ضرب العالم لم يتوقف أثره السلبي على النفس. والمراهقون على وجه خاص في حاجة إلى الاختلاط المجتمعي وجهاً لوجه، ولكن الإغلاقات المتكررة حولت هذا التفاعل إلى تواصل إلكتروني مما جعل المراهقين عرضة للسقوط سريعاً فيما يشبه جحر الأرنب الرقمي الخطير.
أصبح منع الانتحار مجالا كبيرا للدراسات التي تضع تركيزها بشكل مفهوم على التشخيص المبكر والصحيح للحالات التي ربما تجعل الأشخاص يشعرون بأن الحياة لا تستحق أن تعاش. يجب أن يهدف أي حل أيضاً إلى نشر الوعي بإشارات التحذير المبكرة، متضمناً ما هي هذه الإشارات وماذا نفعل بشأنها. تحقق بعض المدارس تقدماً في هذا الصدد عبر استعانتها بمتخصصين مدربين لمساعدة الأطفال الذين يعانون ولمساعدة المعلمين على التدخل المبكر. ولكن الممارسات الجيدة متفرقة، وعلى مستوى عام لا يكفي الجهد المبذول. يستقبل المتخصصون الإكلينيكيون العاملون في مجال الصحة النفسية للطفل بالفعل أعداد حالات تفوق قدرتهم، وبالتالي يمكن أن تطول فترة انتظار الأشخاص قبل الحصول على مساعدة مما يمثل خطورة.
تدرك الحكومات أكثر اليوم أنها تستطيع تحقيق تأثير إيجابي على النتائج في هذه القضية. ووجود الصحة النفسية في أجندة عدد من الوزراء مؤشر واضح على ذلك، بالإضافة إلى زيادة مخصصات الميزانية. ولكن يشعر الخبراء بالقلق من أن المال يوجه فقط لحالات اليأس القصوى، لأنهم يعرفون أن الأمر لا يبدأ من هناك. ربما يكون من الأنسب الوقاية في مرحلة مبكرة من درجات اليأس، عندما يكون الشخص في حالة يرى فيها خيارات أخرى متاحة. لأن إقناع شخص بعدم القفز من فوق الجسر مرحلة متأخرة للغاية.