القاهرة: لعل فترة الجمود القصيرة التي طالت علاقات يمتد تاريخها إلى قرن تقريبا بين الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط كانت ضرورية حتى يدرك جميع الأطراف ويقدروا حجم ترابطهم وتوافقهم. في أول زيارة له بصفته رئيسا للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط في منتصف يوليو (تموز) الحالي، أبدى جوزيف بايدن حكمة وشجاعة في اعترافه بوضوح أن سياسته الأولى «بالتحول بعيدا عن الشرق الأوسط كانت خاطئة». وبذلك لم يُعد بايدن بناء الثقة لدى زعماء المنطقة فحسب، ولكنه استعاد سريعاً صورة أميركا الديمقراطية في قلوب وعقول عامة شعوب المنطقة.
على مدار الأعوام الستة الماضية، مكَّن غياب الصورة التقليدية لأميركا من صعود النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، وتسبب في وقف زخم التحول الديمقراطي الذي اجتاح المنطقة منذ عقد مضى. إن عودة الرئيس بايدن إلى التزامه تجاه الشرق الأوسط باستيعاب منصف للواقع الجديد في المنطقة في ظل إعادة ترتيب النظام العالمي تبشر بمستقبل أفضل لدول الشرق الأوسط إلى جانب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
وفي تصريحاته أمام قمة مجلس التعاون الخليجي+3 التي أقيمت في جدة، أكد الرئيس بايدن على أن الولايات المتحدة سوف تستمر في التعاون في شؤون الشرق الأوسط بصفتها شريكا أساسيا. وقال: «بينما يزداد توجه العالم إلى التنافسية ويزداد تعقيد التحديات التي نواجهها، يتضح لي أكثر فأكثر كم تتداخل المصالح الأميركية مع نجاحات الشرق الأوسط». مضيفاً: «لن نغادر ونترك فراغاً لتملأه الصين أو روسيا أو إيران. وسوف نسعى إلى البناء على هذه اللحظة بقيادة أميركية نشطة وذات مبادئ».
وعلى مدار التاريخ، كان نجاح السياسة الخارجية الأميركية بالإضافة إلى قدر كبير من سياستها الداخلية، يعتمد في الأغلب على الانخراط الإيجابي مع حلفاء الشرق الأوسط، خاصة هؤلاء الذين يتمتعون بميزة جغرافية سياسية مثل مصر وإسرائيل، أو تفوق اقتصادي مثل دول الخليج العربي. ويعد اجتياح أزمة الطاقة للعالم منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في فبراير (شباط) دليلا حيّا على ذلك. ولا يخفى أن تأمين موارد الطاقة من القضايا الرئيسية التي أجبرت الرئيس الأميركي الحالي على العودة إلى المنطقة. وفي الأسبوع الماضي وقعت مصر وإسرائيل اتفاقاً تاريخياً للتجارة والنقل وتصدير الغاز الطبيعي مع الاتحاد الأوروبي.
الالتزام بمحاربة المنظمات الإرهابية
موازاة لذلك، كانت زاوية أمن الشرق الأوسط، سواء على المستوى الإقليمي أو المحلي، تُرسم دائمًا ببوصلة السياسات الدفاعية التي تبناها سكان البيت الأبيض المتعاقبون. أكد الرئيس بايدن في لقائه مع القادة العرب في جدة أنه «لأول مرة منذ 11 سبتمبر (أيلول)، يقوم رئيس أميركي بزيارة (الشرق الأوسط) دون مشاركة القوات الأميركية في مهمة قتالية في المنطقة». ومع ذلك، كرر بايدن التزام الولايات المتحدة المستمر بمحاربة المنظمات الإرهابية التي كانت تعيث فسادا في جميع أنحاء المنطقة منذ سنوات.
وكرر بايدن للقادة العرب: «نحافظ على القدرة والتصميم المطلق على قمع التهديد الإرهابي أينما وجدناه، وسنواصل جهودنا لمكافحة الإرهاب بالعمل مع تحالف عريض من البلدان، بما في ذلك كل من حول هذه الطاولة». كان هذا البيان المهم من النقاط المبكرة التي سجلها بايدن بنجاح في سعيه لإحياء أواصر الثقة مع القادة الإقليميين. ويفسر السبب وراء انسحاب القوات الأميركية المتسرع من أفغانستان بعد ستة أشهر فقط من تولي بايدن الحكم، مما يعرض الدول العربية في الخليج والشام لتهديدات أمنية ضخمة.
إنقاذ الشعبية المفقودة
هناك قضية مهمة أخرى حفزت زيارة بايدن إلى المنطقة وهي إنقاذ الشعبية المفقودة لإدارته وحزبه الديمقراطي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني). كان منحنى معدلات تأييد بايدن يتراجع، خلال الأشهر الأخيرة، مما يهدد بسقوط خطير للحزب الديمقراطي في انتخابات مجلس النواب والانتخابات الرئاسية المقبلة.
وعلى الرغم من أن بايدن وفريقه، على ما يبدو، لم يسمحوا لمخاوفهم بشأن موقف الحزب في الانتخابات بإلهائهم عن التركيز على الهدف الرئيسي للزيارة، والذي سيخدم الأمة الأميركية على المدى الطويل- أي؛ الفوز بقادة الشرق الأوسط، وكل الخير الذي يمكنهم تقديمه، إلى جانبه، مع إعادة ترسيخ مكانة الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الأكثر نفوذاً في العالم.
وعلى عكس ما أراده اليساريون المتطرفون، الذين يشكلون غالبية الدوائر الانتخابية لبايدن، اختار بايدن التعامل مع قادة المملكة العربية السعودية ومصر، بدلاً من تهميشهم أو معاقبتهم. وفي مقال رأي نُشر في صحيفة «واشنطن بوست»، قبل أسبوع واحد من قدومه إلى الشرق الأوسط، أوضح الرئيس بايدن لمنتقديه أنه من غير الممكن للولايات المتحدة أن تتقدم في أهدافها الدولية، دون التعامل بشكل إيجابي مع الشرق الأوسط.
وكان بايدن قد أوضح: «كرئيس، وظيفتي هي الحفاظ على بلدنا قويًا وآمنًا، وللقيام بهذه الأشياء، علينا التعامل مباشرة مع البلدان التي يمكن أن تؤثر على تلك النتائج. المملكة العربية السعودية واحدة منها، وعندما ألتقي بالقادة السعوديين، سيكون هدفي هو تعزيز شراكة استراتيجية للمضي قدمًا تستند إلى المصالح والمسؤوليات المشتركة، مع التمسك أيضًا بالقيم الأميركية الأساسية».
اليساريون المتطرفون، الذين ذهبوا إلى حد وصف رحلة بايدن إلى المملكة العربية السعودية بأنها «خيانة للقيم الأميركية»، هم أكثر غضبًا بعد انتهاء زيارة بايدن. جهود الضغط التي بذلوها ضد قادة عرب معينين ذهبت سدى، وما أثار غضبهم أكثر هو ضحك الرئيس بايدن مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ووصف الرئيس المصري، السيسي، بـ«الصديق الغالي». علاوة على تقديمه مساعدات مالية ودعم استراتيجي لتعزيز أداء الدولة المصرية في معالجة الأزمة الاقتصادية والصراعات الإقليمية ذات الصلة.
لقد أعمى جزءا كبيرا من أعضاء جماعات الضغط هؤلاء بشكل يبعث على السخرية خطاب مثالي منفصل للغاية عن واقع الشرق الأوسط. إن حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي أمران في غاية الأهمية بالنسبة للشعب العربي. لهذا اندلعت ثورات الربيع العربي في المقام الأول. ومع ذلك، فإن الدعوات لإضعاف الدول العربية ومعاقبة القادة العرب لن تخدم غرض تحسين أوضاع حقوق الإنسان في المنطقة على الإطلاق. على العكس من ذلك، فقد يأتي بنتائج عكسية بطريقة تضر بالولايات المتحدة والغرب بنفس القدر.
وعلى عكس الادعاءات التي روج لها منتقدو بايدن على نطاق واسع في وسائل الإعلام، فإن العلاقات الجديدة التي أقامها مع القادة العرب ستمكنه من العمل بشكل أفضل معهم في تحسين أوضاع حقوق الإنسان واتخاذ إجراءات فعلية وليست مصطنعة نحو السماح لإرساء الديمقراطية بالتقدم في بلدانهم. بايدن رئيس ديمقراطي، مما يجعل التشكيك في التزامه غير المشروط بحقوق الإنسان والديمقراطية مزحة سخيفة.
وفي هذا الصدد، لا ينبغي أن نتجاهل حقيقة أنه على مدى السنوات الخمس الماضية، تسللت الجماعات الإسلامية السياسية العاملة في الولايات المتحدة بعمق إلى الجماعات اليسارية المتطرفة الأميركية، تحت راية حقوق الإنسان. ومن بينهم العديد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والمتعاطفين معها، الذين لجأوا إلى الولايات المتحدة بعد تطهيرهم من مصر ودول عربية أخرى في عام 2013. إنهم يسيئون استخدام القوة السياسية لليسار المتطرف في أميركا، للانتقام من بعض القادة العرب، الذين كانوا ناشطين في سحق جماعة الإخوان المسلمين في السنوات القليلة الماضية- خاصة القادة المصريين والسعوديين والإماراتيين.
التخلص من النهج غير المربح
النبأ السار هو أن الرئيس بايدن وفريقه قررا، أخيرًا، التخلص من هذا النهج غير المربح تجاه دول الشرق الأوسط، والتركيز بدلاً من ذلك على إعادة الانخراط وإعادة التعاون من أجل مصلحة الجميع. كان بايدن قد كتب في مقال رأي في «واشنطن بوست»: «منذ البداية، كان هدفي هو إعادة توجيه- ولكن ليس قطع- العلاقات مع [المملكة العربية السعودية] التي كانت شريكًا استراتيجيًا لمدة 80 عامًا».
كان الإنجاز الأكبر الذي حققه بايدن في الشرق الأوسط، في وقت سابق من هذا الشهر، هو وضع أساس متين لديناميكية «الدبلوماسية الشخصية» التي تعمل بشكل مثالي مع عقلية قادة المنطقة، وخاصة العرب. لا بد أن أزمتي الطاقة والغذاء العالميتين، وتهديد إيران للعرب وإسرائيل، والتنافس الأميركي مع روسيا والصين، كانت موضوعات لا مفر منها على جدول أعمال قمة دول مجلس التعاون الخليجي+ 3 في جدة. ومع ذلك، كان من الواضح أن الهدف الرئيسي لبايدن من الزيارة هو استعادة ثقة القادة الإقليميين في إدارته، وبالتالي كسبهم إلى جانب بلاده، حتى يستفيد الغرب مما يمكن أن يقدمه لحل مشاكل العالم الحالية، وخاصة أزمة الطاقة المتصاعدة.
كان هذا واضحًا بشكل خاص في المحادثات الودية الفردية التي عقدها بايدن مع قادة المملكة العربية السعودية والإمارات والعراق ومصر وإسرائيل وحتى الفلسطينيين. لقد حقق الرئيس بايدن هذا الهدف بنجاح. وللتعويض عن غيابه لمدة ثمانية عشر شهرًا، نجح بايدن في فتح أكثر من قضية في أول جولة له في الشرق الأوسط لإظهار أن الولايات المتحدة لا تزال الشريك الأكثر نفوذاً في المنطقة.