كتب ساطع الحصري (ت 1968)، في كتابه «ما هي القومية»: أن اللغة والتاريخ فقط هما مكونا أصل الأمة، أي لا الدِّين، ولا الدَّولة، ولا الاقتصاد، تدخل في مقومات الأمة. غير أن رأي الحصري هذا يتعارض مع ما طرحه الملك فيصل الأول (ت 1933)، مؤسس الدَّولة العِراقية الحديثة، فالأخير طرح عند وصوله العِراق، ليتولى عرش البلاد، مصطلح «الأمة العراقية»، وأن الحصري كان أحد الموظفين الذين رافقوا فيصلاً مِن سوريا إلى العراق، وأصبح مسؤولاً عن إدارة المعارف، ثم الآثار العراقية.
عندما وصل فيصل إلى العراق شاهد الفروع المختلفة بالبلاد: عشائر ومذاهب وأديان وقوميات، تركتها الدولة العثمانية بلا رابط اجتماعي وسياسي، حسب ما ذكره كُتاب وباحثون مِن الذين نفوا حتى وجود العراق كاسم، لذا حَسب الملك للرابط الجغرافي حساباً، ليصبح قاعدة في تشكيل هذه الأُمة.
لكن هل صحيح أن العراق لم يُعرف في قديم الزمان كمصطلح يُعرف به القاطنون لتلك الجغرافيا؟! كيف ذلك؟! ومصطلح «العراقي» كان معروفاً تاريخياً، ناهيك عن اسم العراق نفسه؟! ومَن يتصفح كتب التاريخ والتراث الإسلامي يجده عميقاً على هذه الأرض.
قد يسأل سائل: ما هذه البدهيات التي تطرحونها، وهل هناك مَن لا يعرف اسم «العراق»؟! وما هو الجديد، الذي يُضاف، عندما تقول للعراقي: أنت عراقي؟! أو يُقال للعربي أنت عربي، وللكُردي أنت كُردي، إلى غير ذلك من التسميات؟! نقول نعم، تبدو في ذهن البعض ليست بداهة، ويصر أن اسم العراق ومصطلحه لم يُطرح إلا بعد (1918)، وأنه مجرد كيان ملفق! فقد طرح ذلك هنري فوستر في كتاب: «نشأة العراق الحديث»، ربَّما عن جهل أو عن قصد. لكن ما لم نحسب حسابه هو سطوة عقدة «الخواجة»، وعلى وجه الخصوص في المعرفة، فينساق عراقيون كان آباؤهم وأجدادهم قد عَرفوا أنفسهم بالعراقيين، وعند تراجعهم يقولون: لا نحن لا نقصد عدم وجود العراق واسمه، إنما العراق الدَّولة!
أرى في الجواب عُذراً أحط من الذنب، وهل كانت أقاليم الإمبراطوريات الكبرى تُقدم إقليمها على أنها دول؟! فالأمر طبيعي أن بوجود الدَّولة الرومانية مثلاً لم تكن هناك دول أوروبية، مثلما هو الحال الآن، إنما أقاليم كانت منضوية تحت سيادتها. فالعراق كان تحت سيادة إمبراطوريات، بمختلف عناوينها، شأنه شأن بقية الدَّول التي ظهرت في عصر ما بعد الإمبراطوريات.
تؤثر تلك الفكرة السلبية عن تاريخ العراق في مزاج العراقي، أن يفهم أن وطنه مجرد مزج بين ولايات ثلاث، مع أن بغداد والبصرة والموصل كانت تلتحم وتنفصل تبعاً للحالة الأمنية والإدارية العثمانية، تحت مؤثر النِّزاع الطويل بين العثمانيين والصفويين، وليست هي الحالة الدَّائمة. أسأل السائرين في هذا الاتجاه: لماذا يهملون تسمية والي بغداد بوزير العراق؟! ولماذا يهملون الكُتب التي صُنفت في أوج قوة العهد العثماني وشخصت القبائل العربية والكردية بالعراقية، مثل كتاب «عنوان المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد»، الذي صنفه إبراهيم صبغة الله الحيدري (ت 1882) في عام (1869)، وقبله كتاب «دوحة الوزراء» لرسول كركوكلي (ت1827)، الصادر (1830) باللغة التُّركية، وكان تصنيفه بتكليف من وزير العراق داود باشا (ت1851).
يتعرض العراق، في الوقت الحاضر، لخطر التقسيم، وعندما نصف السعي إلى التقسيم بالخطر، بدافع الخشية من تصادم الفروع على هذه الرقعة الجغرافية، التي خاطب الملك فيصل القاطنين عليها بـ«الأمة العراقية»، ولم يتقدم بإدخال«السدارة» غطاء الرأس، والذي عُرف نسبةً إليه بالفيصلية، إلا لخلق مزاج جديد يتناغم مع الدولة الحديثة، ورمز لصب الفروع في الأصل، مِن دون أن يلغي بعضها بعضاً.
دعم فيصل شعاره: «الاُمة العراقية» وسدارته التي أخذ يعتمرها موظفو الدَّولة، بمخاطبة زعماء الدَّولة، والغالب منهم، ممَن لم يستطع التخلص مِن آثار السياسة العثمانية تجاه الأديان والمذاهب والقوميات، أي الفروع، قائلاً: «إن البلاد العراقية، هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية. ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدِّينية... يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء، مادة ومعنى، غير مجلوبين لحِسيات أو أغراض شخصية، أو طائفية» (انظر خطاب الملك في تاريخ الوزارات العراقية لعبد الرزاق الحسني).
وأضاف الملك في مذكرته معترفاً بالتَّأثير العثماني على إدارة العراق الجديدة قائلاً: «العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سُنَّية، مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني. وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتَّخلي منها، بدعوى أنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى الحكومة نفسها. إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي، الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التَّمرن عليه، والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي، المنقسم إلى هذين المذهبين...» (المصدر نفسه).
فماذا أراد الملك من هذا الخطاب غير درء السياسة التركية، التي وجد أثرها واضحاً في أدمغة كبار موظفيه. لكن لم يستمر الحال على ما هو عليه، فبعد أن تدرج الكُرد والشيعة وباقي الطوائف في التعليم والتَّأهيل، أخذ ذلك التمييز ينحسر رويداً رويداً، فتسنم الكُردي والشِّيعي وزارات سيادية ورئاسة وزارة ومراكز خطيرة في الدَّولة، ولو استمر العهد الملكي لعالج نفسه بنفسه من التركة العثمانية.
على أية حال، لم يكن العراق مجهولاً، لدى الذين عاشوا من أجدادنا على هذه الرقعة الجغرافية، التي شكل منها مدحت باشا (قُتل 1883)، نظاماً إدارياً قسم العراق بموجبه إلى عشرة سناجق أو ألوية (العام 1869) بداية من الموصل وكركوك (شهرزور) إلى البصرة، والمنتفق، والدليم، والسليمانية، وبقية السناجق أو الألوية، تشكلت منها الدَّولة العراقية الحديثة.
أقول: لو فهمنا تاريخ هذا المكان، واعتبرنا العراق الهوية الأصل، ستجد الهويات الفرعية فيه حقوقها كاملة، في ظل نظام عادل حر. بالمختصر إنها المظلة الواقية مما سيترتب على التقسيم. لذا كيف لا تكون الجغرافيا إحدى دعائم وجود الأمة، والتي عبر عنها فيصل الأول بـ«الأمة العراقية»؟!
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.