حدود برية وبحرية وجوية موصدة بين الجزائر والمغرب تؤشر على وصول الطرفين إلى قطيعة كاملة وشاملة امتدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، نزاع سياسي واجتماعي يرتدي أبعادا قانونية وحقوقية ينخر جسد الوحدة الوطنية في تونس، تشظٍ سياسي وطني وجهوي في ليبيا يغذيه تناحر أطماع شخصية وأنانية لقيادات لا تجد غضاضة من أجل السلطة في الاستقواء على بعضها البعض بميليشيات محلية أو بتدخلات أجنبية، استقرار سياسي وأمني هش في موريتانيا ما يزال يجتر أذيال نزاعات دارت رحاها حول الاستئثار بالسلطة، ولكنه استقرار مشوب بالتوجس والحذر خشية أي ارتدادات سلبية للصراعات الإقليمية المحيطة بالبلاد شمالا وشرقا، والتي لا قدرة لها على تحمل تبعاتها.
هذه هي صورة الواقع الراهن على صعيد اتحاد دول المغرب العربي، صورة مهما حاول البعض تجميلها كاملة أو تجميل جزء منها حسب انتمائه القطري، فهي سوداوية يزيدها قتامة استشراء التذمر المجتمعي العام، والحراك الاحتجاجي السياسي والنقابي الذي ما انفك يتصاعد جراء استفحال تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وحلكة الظلام في النفق الذي دخلته دول المنطقة بدرجات متفاوتة.
لم يكن هذا هو الواقع الذي كان رواد الوحدة المغاربية في الأحزاب التاريخية آنذاك (الاستقلال المغربي، الاشتراكي الدستوري التونسي، جبهة التحرير الوطني الجزائرية) يطمحون إليه كما عبر عنه بيان مؤتمر طنجة سنة 1958 قبل استقلال بعض دول المنطقة؛ بل إن هذا الواقع لا يمت بصلة إطلاقا إلى ما اتفق عليه قادة الدول الخمس في القمة التأسيسية لاتحاد دول المغرب العربي التي احتضنتها مدينة مراكش في 17 فبراير (شباط) سنة 1989، والذين بلوروا ميثاقا وحدويا طموحا يسعى إلى تمتين أواصر الأخوة بين بلدانهم من خلال التشجيع على نهج سياسة مشتركة في مختلف الميادين، ويعمل على تحقيق تقدم ورفاهية الشعوب في أفق الوصول إلى تجاوز كافة الخلافات، وإنجاز التكامل الشامل.
لمتعش أحلام الرواد الحزبيين الأوائل سوى خمس سنوات من 1958 إلى 1963، شهدت خلالها المنطقة أفراح استقلال الجزائر. كما أن إرادة القادة المعبر عنها في الميثاق التأسيسي لاتحاد دول المغرب العربي، وفي توجيهاتهم للسلطات الحكومية التنفيذية بالبدء في إرساء لبنات التعاون المشترك على كافة الأصعدة لم تصمد أكثر من خمس سنوات هي الأخرى من 1989 إلى 1994 عرفت فيها المنطقة تهدئة كبيرة لمستوى التنافس المغربي الجزائري توجها قبول البلدين لقرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار، والانطلاق للبحث عن حل سياسي للمشكل المفتعل بينهما حول مغربية الصحراء.
وإذا كانت أحلام الرواد قد اصطدمت بالصراع المندلع تحت اسم حرب الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963 بسبب تنكر القيادة الجزائرية آنذاك لتعهدات الحكومة المؤقتة للثورة بإعادة النظر في ترسيم الحدود مع المغرب بمجرد نيل الاستقلال، فإن أجواء الانفتاح التي أفرزتها قمة مراكش سرعان ما تلاشت ليبلغ التلاشي ذروته بالعودة إلى إغلاق الحدود البرية بين المغرب والجزائر سنة 1994 نتيجة القرارات والهجمات الإعلامية المتبادلة التي رافقت الحادث الإرهابي الذي تعرضت له إحدى المنشآت الفندقية في مراكش في تلك السنة، ومن ثم تجميد مختلف مؤسسات اتحاد دول المغرب العربي التي أصابها الشلل فتوقفت عن متابعة تنفيذ ما تم الاتفاق على إنجازه في العديد من القطاعات.
إن إرادة السعي إلى التكامل المأمول مغاربيا استطاعت تجاوز الحزازات التي خلفتها حرب الرمال سنة 1963، إذ سرعان ما عادت عجلة البحث عن التعاون الشامل بين أقطار المنطقة للدوران بالاتفاق في اجتماع لوزراء الاقتصاد والمالية بتونس في أكتوبر (تشرين الأول) 1964 على إحداث ما سمي اللجنة الاقتصادية الاستشارية التي لم تتوقف عن العمل إلا في سنة 1975 بعد اندلاع الأزمة المفتعلة حول الصحراء المغربية، وعودة أجواء القطيعة الكاملة بين المغرب والجزائر بما في ذلك التمثيل الدبلوماسي، الذي لم يستأنف إلا سنة 1988.
ولكن يبدو أن هذه الإرادة قد فترت إن لم تكن قد أسلمت الروح نهائيا، لأنها لم تستطع لحد الآن تجاوز ما حدث سنة 1994، ولم تتمكن رياح ثورات الربيع العربي واحتجاجاته التي اجتثت نظامين اثنين في المنطقة (نظام الرئيس بن علي في تونس، ونظام العقيد القذافي في ليبيا) أن تدفع قادة المنطقة إلى التكاتف مجددا لمواجهة هذا الزائر الثقيل، وإعادة قطار اتحادهم إلى سكته الصحيحة باعتباره «خيارا استراتيجيا لا مندوحة عنه بالنسبة للجميع»، كما يتردد دوما في البرقيات التي يتم تبادلها في ذكرى تأسيسه.
وبدورها لم تستطع التحديات المستجدة على دول المنطقة اقتصاديا واجتماعيا مع ارتفاع عدد السكان وتزايد متطلبات الصحة والتعليم والغذاء والسكن والشغل، ثم أمنيا مع استشراء ظاهرة الإرهاب التي باتت تؤرق الجميع من أن تحرك المياه الآسنة في بركة مؤسسات الاتحاد المغاربي، الذي غدا ضرورة قصوى لكل شعوب المنطقة وكياناتها إن هي أرادت أن تجد لها مكانا محترما في عالم الغد، الذي أصبحت الكلمة العليا في قراراته الاستراتيجية والمصيرية بأيدي التكتلات الكبرى وحدها.
فهل ترتقي النخب السياسية والفكرية وقوى المجتمع المدني في المنطقة إلى مستوى هذه التحديات الضاغطة على دولها وشعوبها، والمهددة لمصائر بلدانها، فتسعى إلى رأب التصدعات وجمع الشمل مجددا، أم إنها استلذت حالة الكسل والخمول التي تسود العمل الجماعي المشترك، واستطابت هذا الوضع الشاذ، وبات يطربها من الناحية السياسية ما جادت به قريحة ابن زيدون منذ زمن بعيد:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا/ وناب عن طيب لقيانا تجافينا.