لبعض الوقت ظن بوريس جونسون أنه مارغريت تاتشر، ونسي أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا في الكوارث، فبادر بدق طبول الحرب في أوكرانيا، وحث أميركا على التدخل، ودعا كبار قادة القارة العجوز للاصطفاف في وجه روسيا، وهو يضع قناعا من البطولة الزائفة، ويدخل عرين الأسد، دون أن يدري إلى أين تأخذه خطواته الطاووسية؛ فارسل وزيرة خارجيته عشية الحرب لتقابل مهندس الخارجية الروسية المخضرم، ورغم عدم خبرتها إلا أن خطابها في الكرملين كان أشبه بإنذارات الأسطول البريطاني في القرن التاسع عشر، ولم تفهم أن روسيا- وإن كانت قد فقدت دورها كقوة عظمى- فلا زالت قوة إقليمية مؤثرة أكثر من تأثير أميركا أحيانا، ناهيك عن ترسانتها النوويه.
ولكنه الغباء السياسي أو المناورات السياسية الخاسرة، فقد أراد بوريس أن يتغلب على أزمته الداخلية بالهروب للأمام، حيث كانت لديه أزمة في مصداقيته وكذبه المفضوح وتدليسه على الشعب الإنجليزي الذي لا يغفر ولا ينسى الكذاب.
لقد كذب على شعبه ليخرج من الاتحاد الأوروبي لمجرد إسقاط رئيسته السابقة تريزاماي، واعتلائه كرسي الرئاسة، دون أن يكون مؤمنا أو غير مؤمن بالخروج من الاتحاد الأوروبي، واضطر للقبول باتفاق مبهم حول أيرلندا، يعاني منه الإنجليز الآن، وكأي برغماتي عتيد كان هدفه الخروج من أوروبا مهما كان الثمن، ليرأس الحكومة، فلم يهتم بالتفاصيل التي باتت تهدد بحرب اقتصادية بين أوروبا وبريطانيا مع ازدياد المخاوف من انفصال اسكتلندا عن التاج البريطاني، وما كان هناك شيء يهمه سوى اعتلاء دكة رئيس الحكومة ليقيم فيها الحفلات وقتما كانت البلاد تعاني من الإغلاق التام بأوامر من حكومته ليخضع لاحقاً لتحقيق جنائي وسياسي، وظل يكذب ويراوغ مستغلا خفة دمه ومقدرته على السخرية وتحمل الإهانات، مما أنقذه أكثر من مرة من سحب الثقة منه، سواء في البرلمان أو في حزب المحافظين.
كل هذا وهو يمضي في غيه في الحرب الأوكرانية متبنياً رئيسها الذي كان ممثلا لا يعرف عالم السياسة حتى ترشيحه ونجاحه في الانتخابات التي لا تشترط الخبرة ولكن فقط إجادة اللعب على أوتار وسائل الإعلام التقليدية والافتراضية، مما أفرز جيلا من الرؤساء لا يفقهون شيئا سوى خطف الأضواء، أما الواقع المعاش فلا يهم، ولا عزاء للشعوب التي واجهت أزمات بسبب الحرب الأوكرانية، مهما بعدت المسافات.
وللأسف حاول بوريس جونسون أن يكون بشجاعة تاتشر، ونسي أو تناسى أن تاتشر كانت تحمل شهادتين من الدكتوراه، واحدة في القانون والأخرى في الكيمياء، وأنها حكمت من أواخر السبعينات وحتى أوائل التسعينات، وهو زمن الآيديولويجيات والقطبية ونتائج رياح التغيير التي بشر بها ماكميلان خليفة تشرشل، وإيدن، والذي عُرف بمقولته الشهيرة مخاطبا الشعب البريطاني: «إنكم لن تروا خيرا مثل هذه الأيام»، وصدق الرجل، فكان منتصف ستينات القرن الماضي هو الفصل السعيد الأخير من عصر الرخاء الاستعماري، لذا فإن تاتشر نتاج ومحصلة هذه الحقبة، فلم تتوان في استنفار أميركا لطرد صدام من الكويت، وهو النموذج الذي حلم به بوريس دون أن يملك الإمكانيات المادية والاقتصادية والعسكرية ظنا منه أن التاريخ سيعيد نفسه، ولم يفهم أن العالم اليوم غير تسعينات القرن الماضي، وأن الدب الروسي خرج من بياته الشتوي، فكان الرقم الصعب في الأزمة السورية والليبية، وبدرجة ما الكورية، في الوقت الذي تبنت فيه أميركا سياسة التخلي عن حلف الأطلنطي وترك القارة الأوروبية العجوز تدير شؤونها بنفسها بعد 75 عاما من آخر حرب كونية، ولا يتعدى مشاركتها في هذا الحلف بأكثر من الأعراض الانسحابية لمدمني المخدرات، هذا بالإضافة إلى أن جميع الدول الأوروبية لم تعد تحتفظ بأعداد كبيرة من الجيوش لأسباب اقتصادية، بالإضافة لاقتناعها الخفي باستحالة قيام حروب أممية جديدة وأصبحت الجيوش لاستعراض حرس الشرف.
فأميركا في حربها على العراق لطرد صدام من الكويت احتاجت لأكثر من سبعة أشهر لتجميع قوات دولية قدرت بنصف مليون، وهو عدد أقل بكثير من الجيش الروسي حاليا، ومع ذلك لا تتوقف أميركا عن ممارسة السخاء المالي والعسكري لأوكرانيا لأن هدفها الاستراتيجي هو تغيير البيئة الأمنية والاستراتيجية في أوروبا أولا، والعالم كله ثانيا. وتعتبر أوكرانيا هي البوابة الرئيسية لهذا التغيير كما أنه إنذار بإعادة القطبية الثنائية في إدارة العالم بعدما سقطت بسقوط حائط برلين 1989، ولكن من هو القطب الثاني؟
هل روسيا أم التنين الصيني الذي ظهرت المخاوف منه في مؤتمر صحافي لمديري «FBI» الأميركي، و«M15» البريطاني، الذين أعلنوا على الملأ بأن الأنشطة التجسسية للصين في الغرب تضاعفت بأكثر من سبع مرات عما كانت عليه عام 2018، وتم هذا في مؤتمر صحافي علني، وليس خلف الكواليس، مما يعكس مخاوف حقيقية تزامنا مع تسريبات ظهرت في صحيفة «دي فليت» الألمانية التي كشفت عن مناقشات سرية للبحث عن سبل دبلوماسية لإنهاء الحرب الأوكرانية، وهو ما يؤيده غالبية الأوروبيين، نظرا لسحب الأزمات الاقتصادية التي تتجمع فوق سماء القارة العجوز بسبب حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.
لذا فمن المتوقع أن رحيل بوريس جونسون سيفتح أبواب الحلول السياسية مع خسارة أوكرانيا لإقليم الدونباس أو حكمه الذاتي المضمون من روسيا. أما القرم فلا أمل لأوكرانيا فيها وسيظل بوريس يعض على أنامله لأنه لم يعتبر من التاريخ الذي لم ولن يسمح باستعارة سياسة القرن الماضي لمعالجة مشاكل هذا القرن. وعزاء بوريس أنه ذهب غير مأسوف عليه ليس بنيران أعدائه ولكن بنيران أوكرانيا الصديقة.