دمشق: ينتظرون الانحناء، وشارة البداية، للمشاركة في سباق ماراثوني خلف وسائل النقل، حيث مئات من المواطنين السوريين يعانون يومياً من الهرولة خلف وسائل النقل العامة، من أجل الحصول على موقع قدم لهم في إحدى الوسائل، والوصول إلى منازلهم، فمنذ أكثر من أسبوعين، تشهد سوريا أزمة مواصلات غير مسبوقة جراء نقص وقود السيارات، وتخفيض، وإلغاء المخصصات للباصات يومي الجمعة والسبت، في وقت تعترف فيه الحكومة السورية بعجزها عن حل تلك المشكلة، وقد بات مشهد انتظار المئات من السكان في دمشق قدوم إحدى وسائل النقل منظراً مألوفاً خلال الأيام الماضية بين المواطنين، دون أن يلوح أي حل في الأفق.
عطلة خاصة لوسائل النقل
في التاسع من يونيو (حزيران) من العام الجاري، أصدرت محافظة دمشق قراراً بعدم تزويد سيارات السيرفيس بمادة المازوت يومي الجمعة والسبت، معتبرة أن يوم السبت هو عطلة، ولتبقى مخصصاتهم كما هي 30 لترا للسرفيس، و40 لتراً للآليات ذات الـ20 راكباً، وتعليقاً على إلغاء مخصصات المحروقات ليوم السبت يقول المدير العام لشركة النقل الداخلي بدمشق، موريس حداد، إنه «نظراً لعدم تزود السرافيس بالمازوت يوم السبت، ستعمل الحافلات بطاقتها القصوى خلال هذا اليوم، مضيفاً أنه خلال السبت سنسير من 90 لـ95 حافلة بدلاً من 60 حافلة كانت تعمل خلال هذا اليوم قبل صدور القرار الجديد بحسب واقع المحروقات»، وهذا ما يحدث فعلاً في سوريا يوم السبت، فتكون الشوارع مليئة بباصات النقل الداخلي التي لا تعمل معظمها، إما بسبب اصطدام بين الركاب حول من سيصعد أولاً، وإما أن هذه الباصات لا تريد العمل في الريف.
وسيلة الأقدام هبة من الرب
«يمكنك الذهاب لعملك يوم السبت مشياً على الأقدام، فقدماك أيضاً هي وسيلة نقل لكن محروقاتها ربانية»، هكذا يبدأ حديثه مع «المجلة»، موظف القطاع الخاص شحادة عمرة العامل في إحدى الشركات الخاصة بسوريا، يقول شحادة: «أنا موظف قطاع خاص، أعمل بالبرمجة وتطوير المواقع، ويوم السبت ليس يوم عطلة، على العكس تماماً، فحتى يوم الجمعة اضطر للدوام أحياناً، وهنا أمامي إما الوقوف على الطريق ليرق قلب صاحب إحدى السيارات الخاصة وينقلني في طريقه، وإما الصعود مع سائق تاكسي ركاب، والذي يتقاضى في هذا اليوم على الراكب الواحد 7000 ليرة سورية، أو الخيار الأمثل هو أن أكمل طريقي سيراً على الأقدام، ولا أدري ما هو الحل في هذا اليوم، لقد بت أكره يوم السبت لما فيه من معاناة في السير، وقرار إلغاء المخصصات واعتبار يوم السبت عطلة ليس في صالح المواطن، فسوريا ليست فقط طلاب علم وموظفين حكوميين، هناك ملايين الموظفين في القطاع الخاص وغيرها من القطاعات الأخرى التي لا تعتبر حتى يوم الجمعة يوم عطلة، فكيف إن اعتبرت الحكومة يومين من الأسبوع عطلة؟! يوم السبت ليس يوم عطلة».
بدائل استثنائية
داخل سوريا، تشاهد العديد من وسائل النقل التي لم يكن يخطر لبال أحد في يوم من الأيام، أن يستقلها المواطنون، أحمد أبو فخر، طالب جامعي في كلية الفنون الجميلة، من محافظة السويداء، يقطن في منزل بمنطقة جرمانا بريف دمشق، يتحدث عن معاناته لـ«المجلة»: «عندما ينتهي دوامي الجامعي، أدرك حينها رحلتي مع المواصلات التي ستبدأ، وأنا طالب يقطن في جرمانا لدي الخيارات العديدة للوصول لمنزلي، منها باصات النقل الداخلي التي من المستحيل الركوب فيها والجلوس على أحد الكراسي، فهي رحلة الوقوف لمدة ساعتين، أو الاشتراك بالباص الجامعي الذي يصل إلى 55 ألفا شهريا وهو مبلغ ليس بالبسيط إلى جانب إيجار منزلي واحتياجاتي ومتطلبات جامعتي المتعارف عليها، والتي هي قصة أخرى، وهناك وسيلة أخرى هي تاكسي الركاب والذي يتقاضى على الراكب الواحد 4000 ليرة سورية (دولار واحد)، أو الصعود في صندوق إحدى الشاحنات الصغيرة، والتي تأخذ على الراكب الواحد 2000 ليرة سورية (نصف دولار)، وهناك خيار جديد طرحته الأزمة السورية أمام المواطن السوري، هو الدراجة النارية (الموتور) الذي يتسع لشخصين فقط، وهي وسيلة سمحت بها الحكومة السورية نتيجة أزمة المواصلات التي تعيشها البلاد اليوم، وأنا علي أن أختار بين تلك الوسائل، وطبعاً أنا أختار باص النقل الداخلي، فهو الوحيد الذي يتناسب مع دخلي كطالب جامعي من بين كل تلك الوسائل المتوفرة في البلاد».
عجز وفشل
إن اعتراف رئيس فرع مرور دمشق خالد الخطيب، لوسائل الإعلام السورية، بأن جهود الجهات المعنية بالمواصلات، والمرور، قد فشلت في حل مشكلات قطاع المواصلات، والنقل، خصوصاً عجزها عن مكافحة ظاهرة سيارات الأجرة، إلى باصات ركاب، لاقى هجوماً شديداً من قبل المواطنين السوريين، متسائلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي: «إذا لم تستطيعوا حل مشكلة النقل وتعترفوا بالفشل، لماذا أنتم في مناصبكم حتى الآن؟».
وتعليقاً على هذا القرار يقول سائق أحد باصات النقل الداخلي في العاصمة دمشق (رفض ذكر اسمه): «ما يثير الضحك والحزن بداخلي في آن واحد، هو أن الباص لم يعد ينقل الطلاب أو الموظفين فقط، هناك أطباء، وهيئات تعليمية جامعية، ومهندسون، تجدهم يركنون سياراتهم ويصعدون إلى الباص بمنتهى الخوف من أن يراهم أحد، أو يعرف أحد الركاب أنهم أطباء، أو أنهم يملكون سياراتهم الخاصة التي لم تعد تنفع إلا لتزيين الكراج».
وعلى ضوء هذا الاعتراف الذي وصفه المواطنون صادراً من الحكومة بأكملها على اعتبار أن شرطة المرور هي جزء من الحكومة، طرحت محافظة دمشق حلاً يتمثل في إعلان كل من يملك سيارة أن يسجل على خط سرفيس خدمة، لكنها لم تل أي تجاوب أو قبول من قبل السائقين، لأن ذلك يعني أنه سوف يصبح هناك تعريفة ركوب لتلك السيارات، وهذا ما لا يريده هؤلاء السائقون.
رفع دعم
بعد أن كانت توزع مخصصات السيارات الخاصة في سوريا، كل 6 أو 7 أيام، أعلنت الشركة السورية لتخزين وتوزيع المحروقات، عن تمديد الفترة لتصل إلى 10 أيام ظاهرياً، و15 يوما، حسبما قال المحامي عاطف جاويش لـ«المجلة»، يقول: «المخصصات هي عبارة عن 25 لترا كل 15 يوما، وهذه الكمية لا تكفي لأسبوع هذا إذا لم أستخدم سيارتي بشكل يومي، واقتصر عملي على المدينة فقط دون الريف، أما إذا كان لدي عمل في إحدى مناطق ريف دمشق، فهنا تكمن مشكلة كبيرة، حيث لم يعد بإمكاني بعدها الذهاب لعملي بسيارتي الخاصة، وعلي التوجه حينها نحو سيارات الأجرة، والتي هي أيضاً لديها ذات المعاناة، لكنها تتعامل مع (البنزين الحر)، والذي يصل سعره إلى 6500 ل.س (دولار ونصف)، والذي يستخرج السائق ثمنه من عنق المواطن الذي أصلاً لا يملك أي سيارة خاصة، لكن قرار الحكومة برفع الدعم عن كل محامٍ زاول المهنة أكثر من 10 سنوات، كان هو الضربة القاضية، للمحامين الذين لم تترك الحكومة لهم طريقا سوى السوق السوداء والبنزين الحر، ومن جانب آخر فتحت منفذا للسائقين لبيع مخصصاتهم، وترك المواطن لباص النقل الداخلي الذي يتسع في سوريا فقط لـ200 راكب وأكثر».
وينهي حديثه بقوله: «لكن الحكومة يبدو أنها تعول على تطبيق نظام الـ(GPS)، الذي يتعقب حركة سير الحافلات لمنع أصحابها من بيع مخصصاتهم، وفرض الالتزام عليهم».
بيع المخصصات هو الحل
محافظة دمشق عللت سبب تخفيض نسبة المحروقات الموزعة، نتيجة قيام سائقي حافلات النقل ببيع مخصصاتهم بشكل حر لأصحاب السيارات الخاصة، بسعر مرتفع، مما سبب أزمة في المواصلات، وهذا هو ما يسمى البنزين الحر، فيما أكد خبراء اقتصاديون أن أزمة المحروقات في سوريا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتراجع الإمداد الروسي لسوريا بالنفط، بعد غزو أوكرانيا، بالإضافة إلى توقف خط الائتمان الإيراني الذي يوفر النفط الخام للحكومة السورية لمدة طويلة، وخلو الخزينة العامة من القطع الأجنبي، إلى جانب ارتفاع أسعار النفط عالمياً، والحصار الحدودي من دول الجوار الذي يمنع حتى وصول المحروقات، حتى ولو بشكل غير نظامي، ويعلق على ذلك لـ«المجلة» سائق الميكروباص عبد الله والذي يعمل على أحد الخطوط في العاصمة دمشق: «لقد كنت أمتلك (فان) وهو عبارة عن وسيلة نقل أصغر من الميكروباص تتسع لـ7 ركاب فقط، لكن شرطة المرور في كل سفرة لي، كانت تتقاضى مني نصف المبلغ الذي كنت أتقاضاه من الركاب، حينها قررت بيعه واستبداله بميكروباص، لكن المخصصات لا تكفي للعمل الذي يكفي لإعالة عائلتي، وخصوصاً في ظل الغلاء المعيشي الذي نعيشه اليوم، مما يدفعني لبيعه بشكل حر، فهو يكفيني، وفي المقابل أقل تعبا وأكثر توفيراً من المخالفات التي نحصل عليها من شرطة المرور يومياً».
ومع بداية العام الجاري، تم طرح إمكانية توريد 500 باص من الجانب الإيراني إلى سوريا، واعتبرت الحكومة السورية أن المشكلة في عدد الباصات وليست في الوقود لتلك الباصات، لكنها لم تلوح بأي أخبار تؤكد جدية هذا الطرح، حتى الخامس من يوليو (تموز) الجاري، حيث صرّح معاون وزير الإدارة المحلية والبيئة في سوريا، معتز قطان، بأن إجراء التعاقد مع إيران لاستيراد 500 باص نقل داخلي، قيد التنفيذ، والذي سيكون تمويلها من الخط الائتماني الإيراني، بالإضافة إلى استيراد 100 باص من الصين خلال الأسبوع الماضي، والتي سيتم تشغيلها خلال أيام عيد الأضحى، على اعتبار أن الصين من الدول الصديقة، بعكس إيران التي أقرت اقتطاع ثمن الباصات من اتفاق خط الائتمان المخصص للنفط، وبرأي الحكومة السورية أن تلك الباصات هي التي ستحل المشكلة، دون معرفة من أين ستزود تلك الباصات بالمحروقات، في ظل الأزمة الكبيرة التي تطال جميع وسائل النقل في سوريا.