بيروت: لا يُشبه ليل اللبنانيين نهارهم، فالتناقضات تحكم «بلد العجائب» حيث الفوضى تفرد جناحيها في يوميات زاخرة بالأزمات، يلهث خلالها المواطن لتأمين احتياجاته الأساسية من خبز ودواء ومحروقات وحتى المياه، ناهيك عن مشكلة التقنين بالكهرباء، فيما يعجّ مساءً بالسهرات حيث المقاهي والمطاعم ممتلئة بالروّاد وأجواء الصخب، في مشهد متناقض لا يحدث إلا في لبنان.
يعيش اللبنانيون في حفلة من الجنون، ففي وقت تحكم الضائقة المعيشيّة بقبضتها على شريحة كبرى من فئاته حيث بؤرة الفقر تتعمّق بفعل الانهيار المعيشي غير المسبوق، تتوالى فصول استسهال عمليات القتل والعنف والتصفية الجسدية والاغتصاب كما الانتحار بشكل كبير، في مؤشر خطير عن التحلّل الأخلاقي والاجتماعي، إذ يواجه لبنان شبح الانفلات الأمني في مختلف المناطق، مع مخاوف عدم قدرة القوى الأمنية على فرض سيطرتها الكاملة.
في المقلب الآخر، تشهد البلاد حركة انتعاش سياحية وكأنها تجاوزت تداعيات حياة ملغومة بالمشاكل وأمن اجتماعيمهزوز، فالحياة الليلية تمحو ويلات معاناة الحصول على أبسط الاحتياجات الشخصية للبنانيين، في مشهد مغاير ولكنه يحصل في رقعة واحدة حيث الديون فاقت الـ100 مليار دولار، والبطالة تخطّت الـ40 في المائة، أما الفقر فقد شمل قرابة 75 في المائة من اللبنانيين، حيث اختفت الطبقة الوسطى التي تشكّل غالبية الشعب اللبناني، لا سيما مع فقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية ما يقارب الـ90 في المائة من قدرتها أمام العملات الأجنبية.
تفاوت في السلوكيات.. وفوضى في التعبير عن الإحباط!
غابت الحلول وتعمّقت الأزمة، وباتت أسعار السلع أشبه بالكابوس، فيما البلد مقسوم إلى شطرين، الأول بين مطاعم وسهر وسياحة، والثاني بين فقر ومعدّلات مرتفعة لجرائم القتل والخطف والسرقة والاغتصاب، في ظاهرة تعكس رقص اللبنانيين على أنغام أزمات باتت تلازمهم كما الماء والهواء، وفي قراءة للحالة التي يعيشها لبنان، أكدت أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتورة أديبة حمدان لـ«المجلة» أنها «تعكس حالة الفوضى التي يعيشها اللبنانيون اقتصادياً أو سياسياً، وفي غياب الأمن الاجتماعي عن التصرفات والسلوك اليومي».
جزمت حمدان بأن «المجتمع اللبناني يشهد تفاوتا حادّاً بين الفقراء والأغنياء، فالطبقة الوسطى اختفت، ونسبة الفقراء باتت كبيرة، وهذا التفاوت الحادّ اقتصاديّاً انعكس تفاوتاً في السلوكيات التي تُترجم بمشاهد أشخاص يبحثون عن قوتهم أمام مكبّات النفايات، وأخرى بوجود فئات من أصحاب السيارات الفخمة وروّاد السهر والفنادق والمطاعم».
وفي تفسير لهذا التناقض، لفتت إلى أنه «شكل من أشكال الإحباط، فالميسور محبط ولكنه يذهب للسهر فقط لأنه يمتلك المال، فيما الفقير يهرب بطريقته من الإحباط الذي يحاصره بالسهر في الأماكن التي تتناسب مع قدرته»، مشدّدة على أن «الطبقتين تحت ضغط كمّ هائل من المشاكل ويتعرضان للضغوط بشكل متساوٍ، ولكن الفقير يعبّر بأسلوب مغاير عن الميسور».
وأوضحت حمدان أن «هناك لامبالاة حادّة من قبل الميسور، فهو لا يعترف بالواقع بكل بساطة، ولكنه يهرب من الوضع المأزوم وتساعده قدرته الشرائية في الاختباء خلفها، بدليل أنه حتى المغترب اللبناني أصبح سائحاً في بلده، فهو يأتي لفترة زمنية محدّدة وغير قادر على العيش بشكل دائم في لبنان، لذلك فهو يأتي للسياحة فقط، وكل هذه المظاهر التي يشهدها البلد حالياً هي غير سوية وتعكس مظاهر مرضية في المجتمع».
لحق لبنان بالدول التي تعاني من تراكم هائل للمشاكل وأصبح اللبنانيون، كغيرهم من سكان الدول التي ترزح تحت وطأة واقع متردٍ، لكنهم يمتلكون القدرة على التحمّل وفق حمدان التي أشارت إلى أن «اللبناني يبحث بموازاة ذلك عن ترفيه معيّن وفرصة للهروب والتنفيس عن معاناته، فمن يمتلك المال يُعبّر عن ذلك عبر السهر والإنفاق، فيما يُترجم بعض الأفراد من الطبقة الفقيرة غضبهم بالانحراف والمخالفات، لأن الجائع سيسرق وسيقتل، ليس لأنه محترف بالجريمة بل لأنه يرى الفرصة سانحة له في ظل التراخي الأمني، من دون إغفال أنه تم تسجيل ارتكابات من قبل الميسورين في فترة الأزمات جراء عدم وجود أي رادع يمنعهم من التمادي على القانون».
واعتبرت أن «الفقير يسرق من باب النقمة، أما المجرم المحترف فيستغل الظروف والفوضى والانهيار الحاصل فيلجأ إلى الجريمة، وكل ذلك للأسف صور لعدم التكيّف أو التكيّف السلبي مع الأوضاع، فالفقير والغني كما المنحرف والمجرم يستغلّون الظروف الحالية بطريقة ما، وحتى التجار يستغلّون الأوضاع ويتلاعبون بالأسعار، وهم غير آبهين بالمواطن وبالحالة التي وصل إليها جراء الفوضى على مستوى شراء الغذاء والدواء»، لافتة إلى أن «هؤلاء أيضاً من المساهمين في الفوضى وازديادها و في تفاقم المشكلة وتعقيد الأمور».
وخلصت حمدان إلى أن «استمرار الأمور على حالها والانفلات الحاصل سيؤدي إلى تدهور الأوضاع بشكل أكثر، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل لأن ما يحصل أبعد بكثير من ذلك، وهناك في المجتمع اللبناني بؤر مقلقة ومخيفة قد تنفجر في أي لحظة وسينتج عن هذا الانهيار الشامل اقتصادياً وأمنياً وسياسياً ما لا تُحمد عقباه».
تناقض بين صورتين.. والحقيقة بالأرقام!
تتواصل الانهيارات على كل الأصعدة، فيما لا تتّخذ السلطات المعنية أي تدابير لوقف هذا الانحدار، كما يتصدّر ملف الأمن الواجهة، في ظل الأوضاع الاجتماعية المتردّية كما السلاح المتفلّت، فيما تبدو الجهات المعنية عاجزة عن ضبطه، ما ينعكس خللاً في الممارسات داخل المجتمع.
كان لبنان تقليديّاً وتاريخيّاً متوازناً من الناحية الاجتماعيّة، بحسب ما كشفه الباحث محمد شمس الدين لـ«المجلة»، إذ لفت إلى أنه «كان يوجد طبقة ثريّة تُمثّل 5 في المائة من الشعب اللبناني، وطبقة متوسطة تُشكّل 70 في المائة، وأخرى فقيرة نسبتها 25 في المائة، وبالتالي كانت الطبقة الوسطى هي صمّام أمان اقتصادي واجتماعي للبنان».
وأوضح أنه «منذ بداية الانهيار عام 2019، وتفاقم الأزمة بين 2020 و2021 وبداية العام 2022، وفقدان الليرة اللبنانية 95 في المائة من قيمتها وتقاضي 95 في المائة من اللبنانيين رواتبهم بالليرة، بات الوضع الاقتصادي والمعيشي صعباً، مما أدى إلى تراجع الطبقة الوسطى من 70 في المائة إلى ما بين 30 و40 في المائة، لتزداد نسبة الفقراء في لبنان إلى 55 في المائة وأكثر، فيما بقيت الطبقة الثرية بحدود 5 في المائة».
واعتبر أن «أكثر من 55 من الشعب اللبناني هم من الفقراء، ما يعني أنهم يحتاجون إلى مساعدات أو إلى زيادة الدخل، وهذا الأمر غير متوافر في ظل انهيار الدولة وتراجع القطاع الخاص، إذ إن أي زيادة للأجور بالنسبة للدولة تعني زيادة الضرائب والرسوم والتضخّم، وأي زيادة للقطاع الخاص تعني ارتفاع الكلفة وبالتالي إفلاس القطاع الخاص»، مشيراً إلى أنه «في المقابل هناك نحو 250 ألف أسرة لبنانية أي ما يعادل مليون لبناني (إذا اعتبرنا أن متوسط الأسرة 4 أفراد) لديهم تحويلات من الخارج من أقارب وأهل يعملون في الخارج يُرسلون إليهم الأموال، وبالتالي هؤلاء لديهم دخل بالعملة الأجنبية، ما يُمكّنهم من أن يكون مستوى حياتهم أعلى من مستوى بقية اللبنانيين ولا يتأثرون بانهيار سعر صرف الليرة لأن دخلهم بالدولار».
وفنّد شمس الدين التناقض بين صورتين، «صورة الـ55 في المائة من الفقراء، وصورة الـ25 في المائة الذين يأتيهم تحويلات من الخارج، والـ5 في المائة من الطبقة الثرية أي تقريباً 30 في المائة من الشعب اللبناني، أي ما يعادل مليونا و300 ألف لبناني هم الذين يعكسون مظاهر الثراء».
وشدّد على أن «هناك نقطة أساسيّة لا يجب إغفالها، وهي أن الأزمة الاقتصادية أدّت إلى إقفال العديد من المطاعم والفنادق والمحلات، وأصبح الضغط يرتكز على تلك الموجودة حالياً، فمثلاً في بيروت هناك 10 من أكبر الفنادق في العاصمة أقفلت أبوابها، وبالتالي الضغط قائم على الفنادق التي لا تزال موجودة، كما أن العديد من المطاعم أقفلت، والوجهة باتت نحو تلك المستمرة»، لافتاً إلى أن «الارتفاع في أعداد الروّاد في الحقيقة هو نتيجة الإقفال وليس نتيجة زيادة عدد اللبنانيين الميسورين، لذا يجب التمييز بين هذه الصور المختلفة».
وخلص إلى القول بأن «تراجع المداخيل سيؤدي إلى البطالة والفقر حكماً، وسيُولّد بيئة حاضنة لارتفاع جرائم القتل والسلب، خصوصاً من قبل مجموعات من الأجانب المقيمين في لبنان الذين هم بحاجة للأموال من أجل الاستمرارية، لذلك فإن نسبة الجرائم ارتفعت بين عامي 2021 و2022 نحو 25 في المائة، على الرغم من أنه في الأشهر الأخيرة اقتصر ارتفاعها على 1 إلى 1.5 في المائة، ولكن مقارنةً بالسنوات الماضية لا تزال النسبة مرتفعة».