بيروت: رغم نجاح الانتخابات النيابية، والتغيير الذي حصل في تركيبة مجلس النواب الجديد على صعيد التحالفات، حيث فقد الثنائي الشيعي الأكثرية النيابية، ورغم مساعي الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة جديدة تدير البلاد في حال عدم انتخاب رئيس جمهورية جديد خلفاً للرئيس الحالي ميشال عون الذي تنتهي ولايته في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، لا يزال الغموض يسيطر على واقع البلد ومستقبله وإمكانية وقف الانهيار المالي والاقتصادي الذي يقلق الجميع ويدفع العديد من العائلات والأفراد للتفكير في الهجرة.
الأزمة الاقتصادية الحادة التي بدأت منذ أواخر العام 2019 دفعت 80 في المائة من اللبنانيين، إلى الوقوع تحت خط الفقر، وهو ما يدفع بالشباب إلى التقاط فرصتهم الوحيدة للنجاة من خلال الهجرة إلى بلاد أخرى للعمل وربما للإقامة الدائمة أو الحصول على جنسية أخرى.
وحسب إحصائية نشرتها منظمة اليونيسيف مطلع العام الحالي، فإن 3 من بين كل 10 شبان وشابات في لبنان توقفوا عن التعليم، ويعتقدون أن الحياة ستزداد سوءاً، مفندة في دراسة عن واقع ومستقبل الشباب اللبناني «معطيات بالغة السلبية حيال الصحة النفسية لجيل الشباب. فمع غياب الإرادة السياسية بمعالجة المأزق، تشتد وطأة الأزمة الاقتصادية، وتواصل البلاد هبوطها الحر إلى قعر الانهيار، فيما بات أمل الشباب الوحيد بالخلاص الخروج من وطن يشعرون أنهم قيد الإقامة الجبرية فيه.
وبحسب الإحصائية فإن نحو 41 في المائة من الشباب اللبناني يجدون أن فرصة النجاة الوحيدة أمامهم هي البحث عن فرص في الخارج وخصوصأ أفراد الجسم الطبي والمهندسين.
اللبناني والهجرة
اعتاد الشعب اللبناني على الهجرة منذ منتصف القرن التاسع عشر بتأثير من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في جبل لبنان. وتوجهت هذه الهجرة بصورة خاصة نحو مصر والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، ثم بلغت أستراليا وأفريقيا وجنوب الصحراء الأفريقية. وهي تسارعت عشية الحرب العالمية الأولى، فبلغ مجموع المهاجرين اللبنانيين حوالي ربع سكان متصرفية جبل لبنان عندما كانت تحويلات هؤلاء المهاجرين المالية تشكل 40 في المائة من مداخيل المقيمين.
في عهد الانتداب الفرنسي 1918-1943 تباطأت الهجرة اللبنانية وسجلت عودة بعض المهاجرين ولكنها استأنفت وتيرتها السابقة في أواخر العشرينات بفعل أزمة الكساد الكبير في الولايات المتحدة وانعكاس ذلك على العالم.
أما بعد الاستقلال (1943) ونهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الحرب الأهلية في لبنان 1975 فكانت وجهة الهجرة اللبنانية إلى دول الخليج العربي، إضافة إلى بلدان أفريقيا وأستراليا. وقد لعبت هذه الموجة من الهجرة خصوصاً إلى البلدان النفطية وأبرزها المملكة العربية السعودية والكويت دوراً مهماً في نمو الاقتصاد اللبناني.
وفي سنوات الحرب اللبنانية 1975-1990 تسارعت الهجرة بقوة وطاولت حوالي 30 في المائة من اللبنانيين المقيمين وكانت وجهتها فرنسا والسويد والولايات المتحدة وكندا، إضافة إلى دول الهجرات السابقة.
لكن الدور الأهم اقتصادياً هو ذاك الذي لعبته الهجرة إلى البلدان العربية النفطية وأفريقيا، إذ إن تحويلات المهاجرين في هذه البلدان أسهمت في صمود (وأحيانا رخاء) اللبنانيين الذين بقوا في بلدهم المشلول والمدمَّر اقتصاديا.
اليوم يكاد يكون العاملان، الاقتصادي والمالي، هما أبرز العوامل، إضافة إلى الوضع السياسي المتأزم الذي يدفع الناس للهجرة، وأخطر أنواعها شيوعا، تلك الهجرة غير الشرعية، بما تمثله من خطر على حياة الشباب الذي يقدم عليها، إذ لا يكاد يمر شهر دون ورود أخبار عن غرق مجموعات من الشباب والعائلات ، فيما بات يعرف بقوارب الموت، وهي في طريقها بحرا، إلى سواحل أوروبا، أو محاولات التسلل عبر الجبال والطرق البرية بين الدول الأوروبية كما حصل على الحدود الفاصلة بين بولندا وبيلاروسيا وألمانيا.
ورغم الإجراءات التي اتخذها الجيش بتشديد المراقبة على الطرق الساحلية والإجراءات الإدارية التي اتخذها الأمن العام لإصدار جوازات السفر الجديدة، لم تهدأ الحركة أمام أبواب السفارات الأجنبية، فالكل يريد الحصول على تأشيرة تخوله الهروب من الحالة المتردية في البلد بعد الانهيار الكبير في العملة الوطنية وانعدام فرص العمل أمام الشباب.
وعن هذا الواقع كان لـ«المجلة» بعض اللقاءات مع بعض الأشخاص الذين اتخذوا قرارهم بالرحيل بعد أن ضاقت بهم الحياة.
الإعلامية ندين صموئيل شلهوب كانت قبل عامين تتنقل يومياً بين التلفزيون والإذاعة ومجلة «صوت الاغتراب»، وفجأة وجدت نفسها في أزمةٍ جدّيةٍ وحقيقية بعد الانهيار الذي حصل في الوطن على الأصعدة برمتها لا سيما القطاع الاقتصادي والصحي والتعليمي، وبخاصةٍ مع تدهور العملة الوطنية وسعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، كلها عوامل انعكست سلباً على وسائل الإعلام اللبنانية والصحافة، من انخفاض المداخيل الإعلانية، وشح الموارد الأخرى عنها.
اليوم، وبعد ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، بدءاً من صفيحة البنزين التي تخطى سعرها 700 ألف ليرة، وإشتراك مولد الكهرباء والاتصالات، وشراء المياه، وكل المواد الغذائية الضرورية، باتت العائلة المؤلفة من خمسة أشخاص بحاجةٍ إلى أكثر من ستة ملايين ليرة شهرياً للعيش بمستوى أقل من الطبقة الوسطى إن وجدت.
وتتابع ندين بحسرةٍ وأسف: «أحببت وطني، ولم أفكر لحظة في أنه سيأتي اليوم الذي أقرر فيه مغادرته، والافتراق عن عائلتي والأصدقاء، وترك الذكريات من الطفولة إلى المراهقة إلى مرحلة النضج، حتى بعد انفجار الرابع من أغسطس (آب) 2020، عدلت عن التفكير بالهجرة، على الرغم من حالات الإحباط واليأس يومها، لكن الظروف اليوم باتت صعبة إذا لم نقل مستحيلة، على كل الأصعدة المالية الاجتماعية والمهنية، وبالأخص على صعيد التربية والتعليم تحديداً، والصعيد الصحي الذي هو أساس وله الأولوية في الحياة، خصوصاً أن مدخراتنا احتجزت في البنوك، والطبقة السياسية تتحدث كل يوم، أن همها الأساسي هو حماية أموال المودعين، والحقيقة أو بالأحرى ما بات ظاهراً ومعلناً عنه ربما بطريقةٍ غير مباشرة، هو عكس ذلك، إذ منذ أكثر من عامين يماطلون في إصدار قانون الكابيتال كونترول وغيرها من خطط التعافي، التي بقيت أقوال من دون أفعال، وهذه الذرائع أتاحت الفرصة للمصارف لإذلال الناس، وللتجار في احتكار كرامة المواطن وضربها في عرض المناكفات الرخيصة.
وأضافت: «لذلك بدأت أفكر في الهجرة جدياً، وقد أجريت سلسلة اتصالات مع زملاء وزميلات لي يعيشون في الخارج، للاطلاع منهم على طريقة الحياة ونظام المدارس حتى أضمن مستقبل أولادي المهدد في لبنان لأننا بكل بساطة صرنا عاجزين عن دفع الأقساط المدرسية بالدولار الأميركي، وغير قادرين على تحمل كل هذه الأعباء، وكل من وما حولنا يسرح من دون حسيب أو رقيب».
وأشارت شلهوب: «إن مدخول زوجي محدود، والهاجس الأكبر هو الاستغناء عن خدماته كما حال الكثيرين من الموظفين، وبالتالي، صعوبة الاستمرار بهذا الشكل بات نوعا من أنواع الانتحار، لأن مستقبل البلد للأسف غير مضمون وضبابي جداً في ظل هذه الطبقة السياسية الفاشلة التي تحكمنا».
خسرت كل أحلامي
يقول أستاذ التعليم الثانوي حسين ركان: «نصف قرن أمضيتُها في سلك التعليم بجناحيه الرسمي والخاص. وهي مهنة عشقتُها منذ كنتُ فتًى يافعًا، فالتحقتُ بدار المعلّمين مفتخرًا بمنحة شهريّة مقدارها مائة ليرة لبنانية، شرعتُ باستلامها وأنا في الخامسة عشرة من عمري، وكانت ذات قيمة وازنة ساهمتْ في تخفيف أعباء العائلة».
وأَضاف: «كنتُ، كسائر زملائي في التعليم، أحلم منذ اليوم الأول لخدمتي بتقاعدٍ شريف، وبتغطية صحيّة دائمة، وبشيخوخة آمنة. وشتّان بين الأمس واليوم! فبعد بلوغي السنّ القانونية كان راتبي التقاعديّ كأستاذ تعليم ثانوي يفوق الألفي دولار شهريّا، وكان كافيًا لتأمين حياة كريمة وآمنة. ولكن بعد أربع سنوات انقلب الحلم الجميل كابوسًا مريعًا، وأصبح راتبي التقاعديّ يتراجع بسرعة فائقة، حتى بلغ اليوم ما يوازي مائة وعشرين دولارًا شهريا، أي كلفة اشتراك المولّد الكهربائيّ. أضفْ إلى ذلك تراجع التغطية الصحية لتعاونية موظفي الدولة، فموازنتها أصبحت هزيلة جدّا، ولا تلبّي حاجات الموظّفين والمتقاعدين».
وقال ركان: «أصبح المتقاعد قلقًا على حياته ومصيره. فقد ارتفعت الأسعار بشكل خياليّ، وأصبح الدواء باهظ الثمن ومفقودًا في معظم الأحيان، ودخول المستشفى يتطلّب المعجزات وآلاف الدولارات عدًّا ونقدًا. وأمام هذا الواقع البائس، لا يتعجّب المرء حين يرى المتقاعد يفكّر بالهجرة ومغادرة لبنان كسائر الشّبّان والشّابات الساعين أيضًا إلى حياة كريمة وآمنة في ديار الغربة».
وأشار: «هكذا غادرتُ منذ فترة مع زوجتي لبنان والتحقنا بأولادنا في بولندا، فرارًا من العتمة والوضع المعيشيّ اليائس، وغياب الرعاية الصحيّة والاجتماعيّة وأنا عدت اليوم لأتابع في الدوائر الرسمية بعض المعاملات للحصول على ما تبقى من تعويضاتي. أعلمُ أنّ الانسلاخ عن الوطن صعب وشاقّ، ولكنّ إرادة الحياة أقوى حتّى لدى الذين غزا الشّيبُ رؤوسهم».
فقدت الأمل
وتقول السيدة ماجدة مسعود الخوري: «لو سألتني لماذا أريد الهجرة من لبنان بعد أن تجاوزت العقد الخامس من عمري؟ فجوابي هو أنني لم أشعر بالاكتئاب أو اليأس مثلما أشعر اليوم، لقد فقدت وأنا أم لثلاثة شبان الأمل من حصولي كمواطنة على حياة كريمة يكون حدها الأدنى أن نبقى على قيد الحياة، نأكل ونشرب وننام تحت سقف يؤوينا. هذه الأمور باتت شبه مستحيلة، فكيف وبالأحرى إن كنا نطمح بأن يكون لنا وطن ديمقراطي حر متقدم وحضاري، ينعم أهله بحياة سعيدة تتضمن كل متطلبات الحياة ونضمن لأولادنا إن خرجوا من البيت البقاء على قيد الحياة بعد أن أصبحت شريعة الغاب هي السائدة في لبنان بسبب انتشار السلاح المتفلت بين الناس والعصابات والشبيحة وتجار المخدرات لقد خسرنا لبنان بلد الحضارة الذي كان يطلق عليه اسم سويسرا الشرق».
وأضافت الخوري: «إذا كنت أسمح لنفسي بأن أتكلم بصيغة الجمع، فذلك لأنني على يقين بأنني أعبر عن فئة واسعة من العائلات اللبنانية، إن لم تكن كل هذه العائلات فعلى الأقل القسم الأكبر منهم الذين يصطفون على أبواب السفارات الأجنبية لساعات طويلة تبدأ من بزوغ الفجر لعلهم يحصلون على تأشيرة الرحيل «من دون رجعة»، حالمين بحياة أفضل ومستقبل «مضمون» أكثر، إلى بلاد ربما أكثر ما يميزها حكومات صادقة، أنظمة عادلة، قوانين تضمن الحريات، الحق فيها لكل إنسان في التعلم بشكل لائق واحترام شروط العمل وتأمين الضمانات الضرورية للصحة والسلامة العامة».
وتساءلت: «فماذا إذن يمكن أن يعطينا الأمل في البقاء؟ وإلى من نلجأ في ظل غياب الدولة عن واجباتها تجاه مقوّمات بقائنا، وحقوقنا المهدورة، وتجاه الإهمال اللاحق بنا وبأحلامنا وبمستقبلنا؟ نحن في وطن وكأننا في سجن، أسرى الواقع، نحاول الهروب إلى أرض ليست أرضنا، لأن نعمل لإنماء دول أخرى، فالطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة بحياتنا لا هم لها سوى مصالحها الشخصية ومصالح الدول التي تمولها».
وتتساءل السيدة مينار هاشم أيضا، وتقول: «ماذا أفعل؟ أنا خريجة كلية الإعلام من الجامعة اللبنانية وحائزة على دبلوم في تعليم اللغة الفرنسية، وعملت في مجلة الجيش كسكرتيرة تحرير، ومن ثم عملت في تدريس اللغة الفرنسية لمدة 20 عاما في مدارس مرموقة، وها أنا اليوم عاطلة عن العمل. منذ عام 2019 وكذلك زوجي بسبب إقفال الشركة التي كان يعمل لديها، ولدينا ولدان أنهيا دراستيهما الجامعية منذ 3 سنوات وهما أيضا عاطلان عن العمل والسبب البطالة المتفشية في البلد».
وأضافت: «بسبب هذا الواقع أفكر في الهجرة، بل وأتمناها، إلى أي بلد أوروبي يمنحنا الأمان والسلام وكرامة العيش. حاولت قبل فترةٍ السفر إلى ألمانيا وفرنسا، لكن لم تنجح المحاولة لعدم حصولي على فيزا عمل ولأن أبواب اللجوء مقفلة في وجه اللبنانيين. وبالطبع لا نفكر في اللجوء بطريقة غير شرعية.. آمل أن أستطيع الهجرة مع عائلتي إلى بلد أوروبي مثل إنجلترا أو فرنسا ليتمكن ابني وابنتي من أن يحققا ما يطمحان إليه ويبنيا مستقبليهما في دولة تحترم الإنسان وتحفظ حقوقه».
أما السيدة أماني حداد (35عامًا) فتقول: «منذ خمس سنوات راودتني فكرة الهجرة من لبنان إلى كندا بعد سفر العديد من الأقارب والأصحاب، لكنني فضلت البقاء في لبنان؛ لأنّي أحظى بوظيفة تؤمن قيمة إيجار البيت وبعض مستلزمات الحياة».
وتابعت أماني: «في مطلع العام الحالي حُسم أكثر من نصف راتبي.. بحسرة طلبت من أصدقائي أن يؤمنوا لي وظيفة ثانية حتى أدفع من خلالها تكاليف الهجرة إلى مونتريال بكندا».
وأردفت: «كنت أنتظر أوراق الهجرة منذ مدة، وقبل أيام اتصلت بي الجهة التي تؤمن الهجرة لتؤكد لي أن الأوراق شارفت على الانتهاء، وسأنتقل إلى كندا في شهر أغسطس المقبل».