بيروت: يبدو أن مهمّة الرئيس المكلف نجيب ميقاتي في تشكيل الحكومة اللبنانية لن تكون سهلة، فبوادر المطبّات بدأت تتكشّف تباعاً، والطريق أمامه ملغم وفتح الباب أمام معركة محتدمة مع صهر العهد رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الذي باشر سيناريو التعطيل بإتقان، ليأتيه الردّ سريعاً بمواقف حادة وجَّهها ميقاتي للفريق الرئاسي من مقرّ البطريركية المارونية في الديمان حيث صرّح بأنه «لا يمكن لفريق القول أريد هذا وذاك وفرض شروطه، وهو أعلن أنه لم يسمِّ رئيس الحكومة ولا يريد المشاركة في الحكومة ولا يريد منحها الثقة».
تفجّرت «القلوب المليانة» بحرب بيانات بين الطرفين بعد أن وجّه ميقاتي سهامه بالمباشر باتجاه التعطيل الباسيلي لتشكيلته الحكومية بعد إعادة تكليفه في 23 يونيو (حزيران) الماضي للمرة الثانية خلال عهد رئيس الجمهورية ميشال عون، وذلك عقب تسريب التشكيلة الوزارية، ليأتي الرد من التيار الوطني الحر باتهام ميقاتي بعدم وجود نية لديه بتأليف الحكومة.
عقب القصف المتبادل بين الجبهتين بعد تسريب التشكيلة التي قدّمها ميقاتي لعون، تسود حالة من الهدوء والترقّب بانتظار لقاء ثالث بين عون وميقاتي بعد أن تم سحب فتيل التفجير في الساعات القليلة الماضية وآثر طرفا الخلاف الصمت، إلا أن ميقاتي لم يرضخ حتى الآن لشروط عون وباسيل الهادفة إلى إجهاض تشكيلته الحكومية الأخيرة، والتي تترجمت بجملة تسريبات ضد الرئيس المكلّف استدعت ردوداً متبادلة بين الطرفين، ليدخل التشكيل في دوّامة الصلاحيات والدستور، والكباش على توزيع الحقائب الوزارية، وسط تقاذف اتهامات حول الطرف الذي أقدم على ذلك ونواياه.
وكانت التشكيلة الأخيرة تضمّنت، إلى جانب ميقاتي، 23 وزيراً مع الإبقاء على غالبية الموجودين حالياً في حكومة تصريف الأعمال، وتبديل بعض الوزراء على رأسهم وزير الطاقة وليد فياض الذي يُصرّ ميقاتي على استبداله بآخر محسوب عليه، ليس من باب الاستفزاز أو التعطيل، بل لأن التيار أعلن أنه لا يريد المشاركة في الحكومة ولا منحها الثقة، وكذلك لأن وزارة الطاقة التي كانت ممسوكة من التيار منذ سنين ولم يفلح في إدارتها بل العكس، ساهم في إهدار أكثر من 40 مليار دولار من المال العام الذي كان عاملاً أساسياً في الانهيار.
بالتوازي، يحاول التيار التأكيد أنه مع المداورة في كل الحقائب الوزارية، وليس متمسكاً بوزارة الطاقة، ولكن شرط أن يحصل على وزارات أساسية وسيادية كالداخلية التي يعتبرها ميقاتي حصّته، ما يعني أن عاصفة التأليف قد تطول مع تمسّك باسيل بـسيمفونية التعطيل المرتكزة على تحقيق حوائجه بحجّة صلاحية رئيس الجمهورية وحقه في إبداء الرأي في كل الوزارات، فيما يواصل ميقاتي مشاوراته بحذر في تفاصيل التشكيل، ليبقى السؤال هل سيزور الأخير القصر الجمهوري بتشكيلة جديدة تلتزم سقف الـ24 وزيراً من دون تغيير؟ أم سيكون اتّجاه الأمور إلى مزيد من التأزيم؟!
لا حكومة.. والأمور ستبقى «راوح مكانك»!
يجزم المتابعون بأن حكومة تصريف الأعمال الحالية ستستمر في عملها كحكومة تصريف الوقت حتى انتخابات رئاسة الجمهورية المحدّدة في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، فزيارات ميقاتي إلى بعبدا ستستمر، ولكنها ستكون مصحوبة بالمناوشات إلى حين الموعد أعلاه، إذ وإن تم تشكيل الحكومة، على الرغم من أن تسهيل ولادتها مستبعد، فسيكون مخاض إعداد بيانها الوزاري كما نيلها الثقة من مجلس النواب طويلاً.
في ظل العلاقة غير الإيجابية بين باسيل وميقاتي، أكد المحلّل السياسي جوني منيّر لـ«المجلة» أن «هناك استحالة تفاهم بين الطرفين على إنجاز حكومة، فميقاتي لن يرضخ لمطلب باسيل وإعطائه ما يريد، والأخير لن يرضى إلا بحكومة تحاكي نقاط قوته في مرحلة الفراغ الرئاسي».
ولفت إلى «أنه كل يوم سيكون هناك حجّة والأمور ستبقى راوح مكانك حتى الأول من سبتمبر (أيلول) بدء المهلة الدستورية الخاصة بالانتخابات الرئاسية»، مرجّحاً أن «انتخابات رئاسة الجمهورية لن تحصل في موعدها الدستوري».
«احتمال تشكيل الحكومة ضئيل جداً لا يتخطى 1 في المائة»، وفق منيّر الذي اعتبر أن «زيارات بعبدا واللقاءات مع رئيس الجمهورية هي لتعبئة الوقت لأنه لا تفاهم بين الفريقين، وهذا بالتأكيد يعني بأن لا حكومة جديدة، بدليل تصريحات ميقاتي التي وجّه خلالها رسائل لباسيل بيّنت أنه لن يكون مرناً وأسلوبه الهجومي والجامد دليل إضافي على أنه لا ولادة للحكومة في الوقت القريب، من دون إغفال بأن باسيل لن يقبل بشروط ميقاتي».
«كسر جليد».. والأمور مقفلة!
يُدرك المتابعون للوضع اللبناني أن المشاورات بشأن تشكيل حكومة ستنتهي في نهاية المطاف إلى استمرار حكومة تصريف الأعمال حتى نهاية العهد، وهذا ما يدفع بالطرفين المتنازعين إلى عدم تقديم تنازلات لتشكيل حكومة لن تكون قادرة على معالجة الملفات العالقة.
يرتبط المشهد اللبناني بسلسلة تطورات داخلية وخارجية تجعله يتبدّل باستمرار، بحسب ما أوضحه المحامي والمحلّل السياسي جوزيف أبو فاضل لـ«المجلة» إذ ربط ذلك بأن «الدولة في لبنان قد تحلّلت منذ تسلّم عون رئاسة الجمهورية، وخصوصاً عندما سلّم دفة الحكم إلى صهره باسيل».
وأشار إلى أن ذلك «سيؤدي دائماً تطورات داخلية في البلد، والاتجاه الحاصل اليوم هو عملية كسر الجليد بين الرئيسين عون وميقاتي الذي يحمل التكليف في جيب وتصريف الأعمال في جيب آخر، ويعي أن القرار الأخير عند باسيل، وهذا لبّ المشكلة، لذلك فهو يتمهّل ولا يتسرّع بتشكيل الحكومة لأنه يريد حكومة جديّة يستطيع الاستمرار فيها في حال حصول الفراغ الرئاسي».
جزم أبو فاضل بأنه «بالنسبة للثنائي الشيعي، يعتبر ميقاتي أن طلبهم بحصّة من الحقائب الوزارية مُحقّ لأنهم قاموا بتسميته، أما الذين لم يُسمّوه كباسيل، فلا يحق لهم وضع شروطهم للدخول إلى الحكومة بهذه الوزارة أو تلك»، لافتاً إلى أن «ميقاتي يرى أن هناك فشلا ذريعا في وزارة الطاقة ويجب أن تنتقل من حصّة التيار الوطني الحر لتتوقّف معاناة الشعب اللبناني مع مشكلة الكهرباء».
أما في قضية المبادلة في وزارة الداخلية، فاعتبر أبو فاضل أن «وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال القاضي بسام مولوي نجح في إدارتها في أحلك الظروف»، مشيراً إلى أن «ميقاتي يرفض أي مساومة عليها مع باسيل الذي يريد أن يطرح الداخلية مقابل الطاقة».
وأكد أن «الأفرقاء يعملون على إزالة الحواجز بينهم، وبالتالي من المبكر تشكيل الحكومة في حال استمر العمل على هذا المنوال».
وعن الغاية من التسريبات ومهاجمة ميقاتي، أوضح أبو فاضل أن «جماعة التيار الوطني الحر تتولّى توزيع الاتهامات على الجميع، فالخلافات مستحكمة بين العهد وحلفائه، إن مع قائد الجيش جوزيف عون أو مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود، أو مدعي عام التمييز غسان عويدات أو مع مدير المناقصات جان العلية، وهم يقومون بذلك لغايات في أنفسهم»، مشيراً إلى أنهم «بدأوا القصف باتجاه ميقاتي، وما حصل ليس إلا بداية لمعارك ستستمر خلال المرحلة المقبلة، وهذا الأمر مرفوض عند ميقاتي الذي وقف بوجههم وأبلغ عون أنه يشكل حكومة كما يريدون».
وقال: «ميقاتي اجتمع مع عون ولم تتعد مدّة اللقاء 12 دقيقة، لذلك فالفريق الذي يطلق النار هو الفريق الذي يعارض ميقاتي ولم يسمه، أي فريق العهد فقط، فالثنائي الشيعي وبعض القوى المسيحية والإسلامية الأخرى قاموا بتسميته، وهو وإن وصل بميثاقية ضعيفة ولكنه في النهاية تم تكليفه وأصبح رئيساً للحكومة، وهذا الشيء لا يستطيع فريق العهد إلغاءه أو التهويل عليه به وهدفهم إيصال رسالة بأنه غير ميثاقي لا أكثر ولا أقل».
وعلى الرغم من نفي دوائر القصر تسريب التشكيلة الحكومية الجديدة، لفت أبو فاضل إلى أن «عملية التسريب كانت مقصودة بعد تصريح ميقاتي الذي أزعج العهد».
وقال: «هناك تباطؤ في الكلام فيما بينهم وعندما يكون هناك عمل للحكومة فوراً ينتقل رئيس الحكومة ويلاقي رئيس الجمهورية، وطالما هذا لم يحدث ولم يتم تحديد موعد اللقاء الجديد بعد، هذا يعني أنه ليس هناك أية مستجدات قد تؤدي إلى انفراج في موضوع ولادة الحكومة، وبالتالي لا تزال الأمور مقفلة في لبنان لأن البلاد مفتوحة على كل الاحتمالات، وخصوصاً بانتظار نتائج التسوية الإقليمية وزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة، وخصوصاً إلى المملكة العربية السعودية».
واعتبر أبو فاضل أن «هناك مرحلة انتظار معينة يجب ترقّبها ليتبلوّر مسار المشهد الحكومي ولمعرفة منحى الأمور»، مشدّداً على أن «الذين يديرون هذه اللعبة الحكومية يُدركون الأسباب التي تحول دون إبصارها النور بالسرعة المطلوبة وربما يتغاضون عنها بانتظار أي طارئ قد يقلب المعادلة، وبالتالي فالوضع رهن التطورات المرتقبة».
تجدر الإشارة إلى أنه يقع على عاتق الحكومة الجديدة استكمال الجهود لإخراج البلاد من دوامة الانهيار الاقتصادي المتواصل منذ 3 سنوات، والبدء بتنفيذ إجراءات وضعها صندوق النقد الدولي شرطاً لتقديم مساعدة للبنان، ومن المتوقع أن يواصل ميقاتي، في حال تعثّر مهمته في التأليف الجديد، مهمة تصريف الأعمال إلى حين تشكيل حكومة جديدة، وهي عملية قد تستمر شهوراً مع قيام الأطراف السياسية المختلفة بالتفاوض على توزيع الأدوار في الحكومة المنتظرة وخارجها.