لا يختلف اثنان على أن جولة الرئيس الأميركي جو بايدن المرتقبة لمنطقة الشرق الأوسط واقتصارها على زيارة كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وكثافة لقاءاته المنتظرة في الرياض جاءت لتبرهن على الأهمية القصوى التي تمثلها العلاقات مع المملكة لصانع القرار الأميركي، ومن ورائه كل المؤسسات الأميركية السياسية والاقتصادية والصناعية والعسكرية الكبرى.
واستعدادا لاستقبال الرئيس الأميركي، والتأكيد له على أهمية المملكة ودورها الطليعي ليس فقط على صعيد الطاقة والتجارة والمال، وإنما أيضا على صعيد القدرة على التأثير في مجريات الأحداث على الساحة الإقليمية، قامت الرياض بتحركات دبلوماسية واسعة ولافتة في نفس الوقت، كانت أبرزها جولة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التي قادته إلى كل من مصر والأردن وتركيا، واستقباله لرئيس الوزراء العراقي، فضلا عن الحرص على عقد اجتماعات اللجنة المشتركة مع المغرب بالرباط في دورتها الـ13 بعد تسع سنوات من آخر اجتماع لهذه اللجنة.
وبعيدا عن العلاقات الثنائية السعودية مع الدول المذكورة التي ثبت أن هنالك إرادة مشتركة لتطويرها وتنويع مجالاتها والرفع من حجم المبادلات التجارية في إطارها وتكثيف التواصل بشأنها، فإن التحركات الدبلوماسية السعودية الأخيرة عكست مدى سعة الاهتمام السعودي بقضايا المنطقة ومشاكلها الكبيرة والمتعددة من المحيط إلى الخليج، كما أثبتت وجود إرادة راسخة لدى الرياض في تحمل مسؤولياتها الإقليمية كقوة اعتدال وسلام، وكعنصر فعال في أمن واستقرار المنطقة لا يمكن لأي أحد تجاوزه.
وبالاطلاع على النتائج المعلنة لهذه التحركات الدبلوماسية المكثفة لم يكن مستغربا أن تتطابق وجهات نظر الرياض مع كل من القاهرة وعمان والرباط بشأن أهمية تأمين مناخ سلام حقيقي وبناء على توجيه إمكانيات المنطقة إلى البناء والتنمية بدلا من الدخول في سباق تسلح مستنزف للجميع؛ وذلك من خلال مضاعفة الجهود الإقليمية والدولية لحل معظم القضايا العالقة، وأهمها:
* المأساة اليمنية التي تلعب فيها السعودية دورا محوريا يسعى إلى حلها بشكل شمولي وفق قرار مجلس الأمن 2216، والمبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني، بما يحفظ لليمن وحدته الترابية، ويجنبه السقوط في الصراعات المذهبية، وبما يؤمن لشعبه الحق في حياة كريمة.
* القضية الفلسطينية، التي ما فتئ الجانب العربي يطالب بضرورة استئناف المفاوضات الخاصة بها بروح جدية وإيجابية لتحقيق السلام العادل والدائم والشامل وفق مبدأ حل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ومبادرة السلام العربية، التي أقرتها قمة بيروت 2002.
* الأزمة السورية، التي تحظى باهتمام عربي يسعى إلى التوصل لحلول سلمية وفق قرار مجلس الأمن 2254 تحفظ لسوريا وحدة وسلامة أراضيها، وتراعي تطلعات كافة مكونات الشعب السوري في الحرية والعدالة والمساواة، وتوقف زخم التدخلات الأجنبية التي حولت التراب السوري إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية.
المشكلة الليبية، التي غدت تدور في متاهة مغلقة، ممثلة قلقا متزايدا لمعظم الدول العربية الساعية إلى تجاوز كافة العراقيل التي تحول دون تواصل الأطراف الليبية فيما بينها من أجل إيجاد تسوية محلية تسمح بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية بعيدا عن التدخلات الأجنبية المتضاربة المصالح على التراب الليبي.
ولهذا، فإن زيارة تركيا والحفاوة التي استقبل بها الأمير محمد بن سلمان هي التي استأثرت بالاهتمام الأكبر في جولة ولي العهد السعودي، الذي استقبل مباشرة بعد عودته إلى الرياض رئيس الوزراء العراقي، الذي اتضح أنه قادم لاستكشاف إمكانية استئناف مساعيه الحميدة لتضييق هوة الخلافات بين الرياض وطهران، التي لا شك في أن العراق يعاني بعضا من تبعات استمرارها.
لقد كانت محطة أنقرة الأخيرة في الاتصالات السعودية التركية المكثفة مفصلية للغاية، فهي لم تكتف بإعادة قطار التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري والاستثماري بين البلدين إلى سكته المعهودة، كما كان يأمل الأتراك؛ ولكنها جسدت قرارا تركيا اتخذ على أعلى مستوى يقضي بإغلاق موضوع الابتزاز بحقوق الإنسان، وإقبار المشاركة في بعض المحاولات اليائسة التي كانت تريد الضغط على الرياض من زاوية تعبئة الرأي العام الإسلامي ضدها للمطالبة بتدويل الحرمين الشريفين، ونقل الإشراف على إجراءات أداء مناسك الحج والعمرة إلى منظمة التعاون الإسلامي.
إن الروح الإيجابية والمنفتحة التي ميزت التحركات الدبلوماسية السعودية مؤخرا هي نفسها التي سادت تعاطي الرياض مع كافة الملفات الشائكة والمتشابكة مع إيران. وحسب مصادر دبلوماسية عربية، فإن المملكة العربية السعودية حملت رئيس الوزراء العراقي رسالة إلى طهران مفادها أن الرياض ليست في وارد الانسياق وراء دعوات التحريض ضد إيران أو تأسيس تحالفات عسكرية لمواجهتها؛ بل بالعكس هي مستعدة لحوار بناء كفيل بتحقيق منافع متبادلة بين الطرفين، وبمعالجة كافة بؤر التوتر بعيدا عن التخندق والتعصب والغلو المذهبي.
ولا شك أن لدى إيران مصلحة مؤكدة في تفويت الفرصة على محاولات بناء تحالفات عسكرية ضدها لا تخفي أطراف إقليمية غير عربية تطلعها لتحقيقها، وفي قطع الطريق على أي ضغوط تمارس عليها بشأن أدوارها الإقليمية المزعجة في إطار المفاوضات الخاصة ببرنامجها النووي. ومن الواضح أن ذلك لن يتأتى إلا بالتجاوب بشكل إيجابي مع يد السلام السعودية الممدودة لها، والسعي إلى حل قضايا المنطقة الشائكة مع القوى الإقليمية العربية الفاعلة وعلى رأسها المملكة.
إذن الكرة الآن في ملعب طهران، فهل تتغلب الحكمة على التهور هناك؟ أما الرياض فيبدو أنها تستعد لاستقبال الرئيس الأميركي من موقع القوة الإقليمية البناءة، الواثقة من نفسها، المعتدلة في أطروحاتها، والمسموعة كلمتها في كل عواصم القوى الدولية الكبرى، والعواصم الإقليمية على حد سواء.