دمشق: في السادس عشر من يونيو (حزيران) الجاري، عثر أطباء في مشفى المواساة بالعاصمة السورية دمشق، على مقص جراحي، تم نسيانه داخل بطن مريضة منذ 12 عاما، حيث شعرت السيدة بألم شديد في البطن راجعت بسببه مشفى المواساة، وبعد إجراء الفحوصات الطبية، تم اكتشاف المقص، دون ذكر معلومات عن مكان العملية السابقة أو ظروف إجرائها.
هذه الحادثة جاءت بعد يوم واحد فقط من صدور تعميم من قبل وزارة العدل السوري، حول إعطاء حصانة للطبيب ضد أي شكوى تقدم ضده، حتى تثبت إدانته، لكن تطبيق هذا القانون يختلف في الواقع عما يتداوله الإعلام، فالأخطاء الطبية في الآونة الأخيرة في سوريا كثرت بشكل كبير، منها ما أودى بحياة المرضى، وأخطاء أخرى تسببت بإعاقات دائمة، أو مؤقتة.
الجريمة الأولى
دعاء هي أم لطفل لم تنعم بأمومتها سوى لخمسة أشهر، وذلك بسبب تشخيص طبي خاطئ، أودى بحياة طفلها، تروي قصتها لـ«المجلة»، تقول: «أصاب طفلي التهاب رئوي حاد، ولم يكن بوسعي إسعافه لمشفى خاص بسبب التكاليف الباهظة لتلك المشافي، ولم أجد أمامي سوى مشفى الأطفال في العاصمة.. ذهبت به إلى هناك وتم وضعه في غرفة مليئة بالأطفال الرضع الذين يعانون من آلام مختلفة مجهولة السبب، والأعظم أن هؤلاء الأطفال يقعون تحت أيدي طلاب طب ما زالوا تحت التدريب. مكث طفلي 4 أيام وحالته تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فاتصلت بطبيب أطفال وطلب مني أن آتي بالطفل إليه، وعندما رآه قال لي إن الطفل يحتاج لعناية مشددة سريعاً، هناك جرثومة دخلت إلى دمه، ذهبت به إلى مشفى المواساة ومكث بالعناية المشدة ثلاثة أيام، ليغادر الحياة بسبب خطأ تشخيص الطبيب».
«طفلي لم يعان من التهاب رئوي، وكل ما كان لديه هو ربو أطفال فقط»، تتابع دعاء قصتها وتقول: «قررت تقديم شكوى ضد الطبيب، لكنها لم تؤخذ بعين الاعتبار، وسُجلت وفاة طفلي بأنها وفاة طبيعية، دون ذكر أي سبب، لكن ما حدث لي هو أنني لم أعد أجرؤ على التوجه نحو تلك المشافي خطوة واحدة حتى ولو كلفني ذلك كل ما أملك، فمهما كلفني، لن يكلفني خسارة روح كانت جزءاً من روحي».
الجريمة الثانية
ياسمين أحمد هي أم لطفل توفي في الربيع الأول من عمره بسبب تلوث دمه بأدوات غير معقمة بمشفى الأطفال أيضاً. وتقول ياسمين لـ«المجلة»: «عام 2018، وفي شهر مايو (أيار) تحديداً، قام أحد الأقرباء بإطعام طفلي وليد معكرونة لتعصى في أمعائه، فأصابني الذعر وهرعت به الى مشفى الأطفال لقربه مني.. وأخبروني هناك أنه يجب إجراء عملية لإخراج حبة المعكرونة من أمعائه، وهذا ما حدث بالفعل! لكن ما حدث لدم طفلي هو تلوثه بالكامل بسبب أدواتهم الملوثة، وتوفي بعد يومين من العملية، ولم يعترف أحد بجريمته، ولم يكترث أي طبيب لطفلي الأول الذي توفي بسبب إهمالهم وأخطائهم التي لا تعد ولا تحصى، وتم اعتبار ما حدث وفاة طبيعية، وهذا طبيعي بنظرهم، فكل ما يحدث داخل هذا البناء الكائن في دمشق هو طبيعي، وإرادة رب العالمين، ولا يد لأي بشري في زهق أرواح هؤلاء الأطفال».
أخلاقيات المهنة أولاً
الدكتور حسان حسين، وهو طبيب أسنان سوري، مؤيد للتعميم الذي أصدرته وزارة العدل، أوضح لـ«المجلة» أن «هذا القرار كان صائباً، فليس من المعقول أن أي شخص يقدم شكوى ضد طبيب، يمحو تاريخه الطبي بجرّة قلم. فالأجدر الحفاظ على سمعة الطبيب المهنية، ومكانته الاجتماعية ريثما يتم التأكد من صحة الشكوى أو عدمها، وخير مثال القصة الأخيرة التي صدرت فيما يخص المريضة التي عثروا بداخل بطنها على مقص منسي منذ 12 عاما، هذا يؤكد صعوبة اتهام طبيب معين، وأنا مع هذا القرار وبشدة، ولكن في المقابل الطبيب عليه أن يتحلى بأخلاقيات المهنة، على اعتبار أنها تمثل أكثر من 40 في المائة من عمله أثناء مزاولته للمهنة».
الطرفان خاسران
من جهة ثانية اعتبر المحامي المدني لؤي محروس، أن هذا القرار إجحاف بحق المريض أو الشخص الذي تم إيذاؤه.
وقال لـ«المجلة»: «لو كانت القصة فقط متوقفة على الشكوى، فهناك مئات الشكاوى على الأطباء، والأخطاء لا تعد ولا تحصى، ولكن لا أحد يقوم بتحريك دعوى كهذه، ولا تعود بالفائدة على المواطن، ولا حتى الطبيب، فالأول خاسر للدعوى أو الشكوى التي لم ولن يتم تحريكها أصلاً، والثاني يخسر سمعته مقابل لا شيء، فلم تقع التهمة عليه، ولم ترفع عنه، ولم يجن من هذه الشكاوى سوى السمعة السيئة، وخصوصاً في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، التي بات خلالها يقوم أي شخص بتشويه سمعة أي طبيب وبسهولة، دون أي عناء، لذلك لا يعد القرار صائباً، وخصوصاً في هذا الوقت الذي أتعب كاهل الشعب السوري أجمع».
حصانة للطبيب السوري
وأصدرت وزارة العدل تعميماً تضمن عدم اتخاذ أي إجراء بحق الطبيب ومنها توقيفه بالجرم الذي يتصل بالمهنة إلا بعد الاستعانة بخبرة طبية جماعية اختصاصية لتحديد سبب الوفاة أو الإيذاء المنسوب إلى الطبيب في معرض قيامه بعمله ليصار على ضوء الخبرة اتخاذ الإجراء القانوني المناسب.
وطلب التعميم من جميع القضاة، خصوصاً قضاة النيابة والتحقيق مراعاة النصوص الخاصة في قانون التنظيم النقابي لنقابة الأطباء المتعلقة بملاحقة أعضاء نقابة الأطباء، بجرم يتصل بالمهنة سواء لجهة إبلاغ النقابة أم لجهة حضور ممثل النقابة التحقيقات، وجاء ذلك في ضوء اعتبار مهنة الطب، مهنة إنسانية اجتماعية يجب حماية القائمين بها، وعدم معاقبة الطبيب، حتى تثبت إدانته، بحكم قضائي، والذي اعتبره رئيس فرع نقابة الأطباء في ريف دمشق خالد موسى، شيئا إيجابيا يخفف الضغوط على الطبيب، وحصانة له ليخدم المريض، وعدم إيقاف الطبيب لمجرد الشكوى.
الخطأ الطبي؟
وأثبت أرشيف القصر العدلي وجود 700 دعوى مصنفة بين عامي ( 2014 و2017)، حول التسبب بالإيذاء أو الوفاة، بسبب الأخطاء الطبية، وعلى الرغم من كل تلك الدعاوى المغلقة والمؤرشفة، إلا أن نقيب أطباء دمشق السابق الدكتور يوسف أسعد عبر عن استيائه من انعدام ثقافة الشكوى لدى المواطن، حيث كشف عام 2019، عن إحالة ثلاثة أطباء إلى مجلس التأديب بسبب ارتكابهم أخطاء طبية، معتبراً أن السبب في الأخطاء الطبية هو ضعف ثقافة الشكوى لدى المواطن، وذلك بسبب جهلهم بالخطأ الطبي.
ويعرف دكتور عماد السعادات، الخطأ الطبي على أنه «الخطأ الذي تقرر لجنة ذات خبرة واسعة أن هذا العمل مخالف لأصول الأعمال الطبية، كأن يجري عمل جراحي بطريقة مختلفة عما هو متفق عليه، وهذا ما يسمى خطأ طبي»، وأنه عندما يتم اتخاذ القرار بعقوبة ما، أو بإحالة طبيب وإيقافه عن العمل، فذلك لدراسة الحالة والتأكد من الوثائق المقدمة، وبناء على القرار الذي يتخذ من اللجنة المؤلفة من قاضٍ لا يقل عن رئيس محكمة بداية، وممثل عن وزارة الصحة، لا تقل سنوات خبرته عن عشر سنوات، لاتخاذ القرار الصائب فيما يخص الطبيب، وتتنوع العقوبات بين تنبيه، أو تأنيب، أو منع الطبيب من مزاولة المهنة لمدة مؤقتة، أو دائمة، وذلك حسب الخطأ الطبي المرتكب، بالإضافة إلى دفع غرامة مالية لصندوق النقابة وليس للمتضرر.
أما قانون العقوبات السوري، فقد عرّف الخطأ الطبي على أنه «من الجرائم الجنحوية، التي تنظر فيها محاكم بداية الجزاء»، ونص قانون العقوبات في المادة 550 المتضمنة: «من تسبب في موت أحد نتيجة إهمال، أو قلة احتراز، أو عدم مراعاة القوانين»، واستناداً إلى هذه المادة تندرج الأخطاء الطبية تحت بند القتل، والإيذاء غير المقصود، كونه لا توجد نية جرمية لدى الشخص، ومثال ذلك جرائم حوادث السير والأخطاء الطبية، لافتاً إلى أن الطبيب مكلف بالعناية الطبية لأقصى درجات العناية ولكنه ليس ضامناً للنتيجة.
قصة ياسمين ودعاء، هي إحدى القصص التي تعاني منها آلاف الأسر في سوريا، دون أي نتيجة، أو استعادة لحقوق أطفالهم الضحايا. ومع صدور هذا التعميم، فإن نسبة إنصاف المتضررين من الأخطاء الطبية باتت تقترب من العدم، فإذا كان استجواب الطبيب قد يحقق نتيجة ولو كانت لصالح الطبيب، فمع هذا التعميم، أصبح حق المريض داخل حصن لا يقترب منه حتى المريض نفسه.