باكو: زيارة رئاسية وقمة تاريخية... ملخص ما سيشهده منتصف الشهر المقبل (يوليو/ تموز 2022)، إذ تلقى الرئيس الأميركي جو بايدن دعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، لزيارة رسمية إلى أرض الحرمين الشريفين خلال يومي 15- 16 يوليو 2022، تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية التاريخية والشراكة الاستراتيجية المتميزة بين البلدين كما جاء في البيان الصادر عن الديوان الملكي، وهي الدعوة التي لاقت تقديرا كبيرا من جانب الإدارة الأميركية كما عبرت عن ذلك المتحدثة الإعلامية باسم البيت الأبيض، كارين بيير في بيانها: «إن الرئيس يقدّر قيادة الملك ودعوته... إنه يتطلع إلى هذه الزيارة المهمة إلى المملكة العربية السعودية التي كانت شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة منذ ثمانية عقود تقريبًا»، حيث تأتي هذه الزيارة ضمن تحركات أميركية عديدة شملت مختلف مناطق العالم في محاولة لمواجهة ما تطلق عليه واشنطن مخاطر وتهديدات قادمة من روسيا والصين ضد مصالحها، كما تُعد هذه الزيارة كذلك حلقة في سلسلة ممتدة من الزيارات واللقاءات الدبلوماسية التي عقدها الرئيس الأميركي جو بايدن مع مختلف قادة العالم، فكان لقاؤه مع قادة الآسيان، ثم استضافته لقمة الأميركتين، والتي تعقبها زيارة مرتقبة إلى أوروبا خلال الأسبوع المقبل لحضور قمتي مجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي.
وفي خضم كل ذلك، يمكن القول إن زيارة الرئيس بايدن المرتقبة إلى منطقة الشرق الأوسط التي تبدأ من إسرائيل مرورا بالضفة الغربية، وصولا إلى المملكة العربية السعودية وعقد لقاءات مع قادة خليجيين ومن ثلاث دول عربية، إنما تؤكد على أمرين مهمين:
الأول، يتعلق بمكانة المملكة ومحورية دورها في منطقة الشرق الأوسط التي تمثل روح العالم.
الثاني، يتعلق بمسيرة العلاقات السعودية الأميركية على مر العقود الماضية، صحيح أن هذه المسيرة لم تخل من المنعطفات وتباين وجهات النظر، لكن من الصحيح أن صلابة العلاقة دائمًا تتغلب على أي تباين، لأن المصالح بين البلدين ليست وقتية، وإنما هي مصالح وجودية مهمة لكلا الطرفين.
وعليه يستعرض هذا التقرير، الزيارة وأهمية توقيتها، ومصالح طرفيها، وانعكاساتها على المنطقة من خلال محورين، على النحو الآتي:
مصالح متبادلة
رغم ما أثير في السابق عن وجود توتر في العلاقات الأميركية السعودية في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، خاصة مع مواقفه السابقة قبيل انتخابه حينما تحدث بشكل هجومي على المملكة ودورها وطبيعة علاقة إدارته بها، إلا أن تحولات موقف الإدارة الأميركية في ظل وجود بعض الأصوات الأميركية الرافضة لإتمام هذه الزيارة، تكشف عن حجم الأزمة التي تعيشها الإدارة الأميركية الراهنة على مستوى الداخل الذي تزداد تعقيداته ومشكلاته مع تفاقم أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية الداخلية التي لم تكد تخرج من أزمة جائحة كوفيد-19، حتى دخلت نفق الأزمة الروسية الأوكرانية بانعكاساتها على الاقتصاد الأميركي برفع نسب التضخم وزيادة حجم البطالة ليدفع الاحتياطي الفيدرالي اتخاذ سلسلة قرارات برفع نسبة الفائدة بشكل لم يحدث منذ أكثر من نصف قرن، وهو ما فرض عليها إعادة ترتيب أوراقها بعيدا عن الشعارات الرنانة التي لا تسمن ولا تغني حياة المواطن الأميركي الذي سوف يشارك في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) القادم في استحقاق نيابي للكونغرس الأميركي بما ينذر بتراجع فرص فوز الديمقراطيين في هذه الانتخابات وهو ما لم يرغب فيه الرئيس جو بايدن ليدفعه ذلك إلى إعادة تموضع إدارته في منطقة الشرق الأوسط التي لا يستطيع الخروج منها، وفي الوقت ذاته لا يستطيع أن يمنع منافسيه من التواجد فيها، في إشارة إلى روسيا والصين، بما يهدد المصالح الأميركية في تلك المنطقة التي تلعب فيها المملكة دورا محورا. وهذا فيما يتعلق بالجانب الأميركي ودوافعه التي ربما أرغمت الإدارة الأميركية على إعادة التفكير في مواقفها غير الدقيقة حيال المملكة العربية السعودية بما فرض عليها تصحيح الرؤية.
أما على الجانب السعودي، فقد تجاوزت المملكة ثقلها الإقليمي المشهود من الجميع إلى ثقلها العالمي الذي برز في أوقات الأزمات التي أضحت تجتاح العالم بأسره، مع الأخذ في الحسبان أن الدور العالمي للمملكة لم يكن وليد هذه اللحظات فحسب، بل يرجع إلى سبعينات القرن الماضي مع ما يعرف بأزمة النفط الأولى، لتؤكد الأحداث العالمية الراهنة بما لا يدع مجالا للشك على تزايد دور المملكة عالميًا، يدلل على ذلك عديد المؤشرات، أبرزها ما يأتي:
- الأول، الدور السعودي في إدارة الاقتصاد العالمي من خلال رئاستها لقمة العشرين عام 2020 والتي تعد القمة الأولى التي ترأسها دولة عربية ولعبت خلال هذه الرئاسة دورًا فاعلًا في مواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19 على اقتصاديات مختلف البلدان وخاصة بلدان دول العالم النامي، إذ سيذكر العالم بأسره الجهود السعودية في استضافة القمة الاستثنائية التي اتخذ خلالها قرار بالتعهد بدفع مبلغ يربو على 21 مليار دولار لسد الفجوة التمويلية في النظام الصحي العالمي وذلك بهدف دعم إنتاج وتوزيع اللقاحات والأدوات التشخيصية والعلاجية اللازمة لمكافحة الجائحة، فضلا عن القيام بضخ ما يزيد على 11 تريليون دولار ضمن حزمة تحفيزية لدعم الاقتصاد العالمي. كما يذكر المبادرة التي أُطلقت بتعليق مدفوعات خدمة الدين عن الدول الأشد فقراً، للإسهام في منح 73 دولة فقيرة حيزًا ماليًا للإنفاق على الجوانب الاجتماعية، والصحية، والاقتصادية، لمواجهة جائحة كورونا، التي مُددت حتى نهاية العام 2021، واستفادت منها 47 دولة.
- الثاني، الدور السعودي في مواجهة التغيرات المناخية من خلال مبادرتي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر وصولا إلى الحياد الصفرى بحلول عام 2060. وتهدف هاتان المبادرتان إلى خفض الانبعاثات الكربونية في إطار الجهود الرامية إلى رسم مسار التحول العالمي للطاقة، وهو ما عبر عنه الأمير محمد بن سلمان ولى العهد بقوله: «إن مبادرة السعودية الخضراء ستوفر فرصاً استثمارية ضخمة للقطاع الخاص، وفرص عمل نوعية للجيل المقبل من القادة في المملكة، إضافة إلى تعزيز العلاقات الدولية التي ستترك تأثيراً إيجابياً في المنطقة والعالم».
- الثالث، الدور السعودي في مواجهة تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على أسواق النفط والغاز العالمية، وذلك مع إعلان التحالف الدولي «أوبك بلس» برئاسة السعودية في الثاني من يونيو (حزيران) الجاري زيادة الإنتاج بأكثر من المتوقع لتكون الزيادة بمقدار 648 ألف برميل يوميا في يوليو (تموز) المقبل ومثلها في أغسطس (آب). وهو ما كان موضع ترحيب من جانب الولايات المتحدة الذي عبرت في بيان عن ذلك كارين جان بيير في بيان صادر عن البيت الأبيض جاء فيه: «إن أميركا تقدر دور السعودية كرئيس لأوبك بلس وكأكبر منتج في التحالف، في الوصول إلى هذا الاتفاق بين أعضاء المجموعة».
- الرابع، الدور السعودي في ضمان أمن المنطقة واستقرارها، يدلل على ذلك ما جرى مؤخرا في اليمن من تمديد الهدنة الأممية لتصبح الهدنة الأطول مدةً منذ سبع سنوات، وهو ما كان موضع تقدير من جانب الولايات المتحدة التي أكدت على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان- بيير في الثاني من يونيو أن «العاهل السعودي الملك سلمان وولي العهد يستحقان الثناء على دورهما في تمديد الهدنة الذي تم الإعلان عنه في وقت سابق من نفس اليوم»، وهذا الثناء يأتي من إدراك الإدارة الأميركية للدور السعودي ومحوريته في المنطقة بصفة عامة وفي اليمن على وجه الخصوص، يؤكد ذلك ما ورد في تصريح المتحدثة باسم البيت الأبيض من أن: «الهدنة لم تكن ممكنة دون انتهاج الدبلوماسية التعاونية من (أطراف) بالمنطقة. نقر بشكل خاص بقيادة الملك سلمان وولي عهد المملكة العربية السعودية في المساعدة على تعزيز الهدنة».
نمط جديد من الدبلوماسية
في خضم الدور العالمي المتزايد للمملكة يوما بعد يوم، يستقرئ الجميع مستهدفات الزيارة الأميركية إلى المملكة التي تحمل معها عديد الأبعاد سواء تلك المتعلقة بالرؤية الأميركية تجاه المنطقة بصفة عامة، أو تلك المتعلقة برؤى دول المنطقة تجاه مستقبل الدور الأميركي في ظل حالة الصراع التي يشهدها العالم اليوم وحالة الاحتقان التي تعيشها المنطقة كذلك، إذ اتخذت الزيارة نمطا جديدا من دبلوماسية القمم. صحيح أن الزيارة ستشهد قمة أميركية سعودية يشارك فيها ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو ما يجعل منها نقطة انطلاق لتصحيح كثير من مفردات التباين في علاقات البلدين، خاصة إذا أخذنا في الحسبان أنه طبقا للبيان الصادر عن الديوان الملكي بأنه ستعقد خلال الزيارة قمة خليجية (يشارك فيها قادة دول مجلس التعاون الخليجى الست) بحضور أطراف عربية (مصر والعراق والأردن)، وهو ما يفتح عديد الاستفهامات حول الأسباب والدوافع وراء عقد مثل هذه القمة مع هذه المجموعة فقط من الدول العربية.
وبعيدا عن التكهنات التي ستظهر في قادم الأيام مع قرب موعد الزيارة، فإن قيام المملكة بعقد مثل هذه القمة الخليجية- العربية– الأميركية إنما يستهدف تأكيد ما يأتي:
الأول، أهمية البعد العربي في السياسة الخارجية السعودية التي تحرص دائما على أن يكون هناك تواصل فعال مع الدول العربية الأكثر فهما لمتطلبات اللحظة وتحديات المستقبل، فعقد قمة خليجية أميركية مع دعوة ثلاث دول عربية إنما يستهدف بعث إشارة إلى الجميع على أن المملكة هي بيت العرب الذي يواجه حرائق وصراعات في مختلف غرفه، وأنها تتحمل مسؤولية صون الأمن القومي العربي في تلك المرحلة الخطرة على المنطقة وشؤونها.
الثاني، أن اختيار الدول العربية الثلاث للمشاركة في هذه القمة لم يأت مصادفة وإنما حمل معه عديد الأسباب والعوامل، بعضها يتعلق باستقرار الدولتين (مصر والأردن) ومحوريتهما في معظم قضايا المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وبعضها الآخر يتعلق بالموقف من إيران وتزايد خطورة سياستها في عديد من ملفات وقضايا المنطقة، خاصة بعد تعثر التوصل إلى اتفاق نووي يحد من التوجه الإيراني صوب امتلاك السلاح النووي الذي يهدد أمن المنطقة بل والأمن والاستقرار العالميين.
ملخص القول إن الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة وفي القلب منها المملكة العربية السعودية وعقده عديد اللقاءات والاجتماعات مع قادة دول الخليج وثلاثة قادة عرب، تؤكد على أن الأيام القادمة حبلى بعديد من التحولات التي تحمل في مضمارها عديدا من المخاطر والتهديدات من ناحية، وعديدا من المصالح والفرص من ناحية أخرى، بما يستوجب من الجميع أن يدرك طبيعة اللحظة الراهنة وحساسيتها ومدى دقة خطورتها على الأمن والسلم الدوليين والإقليميين، ما لم تأخذ الأطراف الفاعلة دوليا وإقليميا زمام المبادرة للجم المخاطر التي تزداد يوميا، وهو ما أدركته الإدارة الأميركية– وإن كان متأخرا، ولكن أن تأتي متأخر خير من أن لا تأتي- حينما سارعت بتصحيح مسار علاقاتها بالمملكة، شريطة أن تدرك تلك الإدارة أن استعادة علاقات البلدين أمر مهم. وعلى الجانب الآخر من العلاقة ويقصد بها المملكة عليها أن تدرك أن استعادة الشراكة مع الحليف الأميركي لا يمكن أن يتم استبدالها بشركاء المملكة من الفواعل الدولية والإقليمية الراهنة، وفي مقدمتهم روسيا والصين والهند وغيرها.
