شنت روسيا قبل أشهر حربا على أوكرانيا، استنفر الغرب لمعاقبتها على اعتدائها على سيادة دولة مستقلة، أغرقوا موسكو بالعقوبات، فدفعت أوروبا الثمن الأعلى.
بهذه الكلمات البسيطة يمكن للمرء أن يصف ما آلت إليه الأمور، فموسكو التي انهالت عليها العقوبات الأميركية والأوروبية بسبب عدوانها على أوكرانيا ردت بتقليص إمدادها من الغاز للدول الأوروبية وهو ما جعل رئيس الوكالة الدولية للطاقة فاتح بيرول يحذر من إمكانية أن توقف روسيا بشكل تام إمداداتها من الغاز إلى أوروبا في الشتاء المقبل.
وإن كانت أوروبا قد بدأت بوقت سابق بالعمل على إيجاد بديل للغاز الروسي ولكي لا يبقى اعتمادها الأكبر على روسيا، إلا أن الوقت كان داهما وباتت أوروبا تجد نفسها أمام مشكلة كبرى بعد أشهر قليلة، حين يأتي فصل الشتاء الذي يكون قاسيا على القارة العجوز.
وإن كانت روسيا استعملت سلاح الغاز للرد على العقوبات عليها، إلا أن دولا عدة ومنها دول الخليج العربي أشهرت سلاح النفط بوجه الولايات المتحدة الاميركية، لا تأييدا لحرب روسيا على أوكرانيا بل لتوجه رسالة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي تفاوض إيران بأن أمن المنطقة وأمن دول الخليج تحديدا ليس قابلا للتفاوض، وأن تقديم التنازلات لإيران لا يكون على حساب أمن واستقرار دول الخليج.
ومع تزايد التضخم الاقتصادي في العالم، وقيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، حذر الاقتصاديون من احتمال حدوث انكماش اقتصادي عالمي في الأشهر الـ18 المقبلة.
وإن كانت أوبك قد وافقت خلال اجتماعها الأخير في الثاني من يونيو (حزيران) بالفعل على زيادة الإنتاج بمقدار 648 ألف برميل يوميا في يوليو (تموز)، وأغسطس (آب) ارتفاعا من المستوى المتفق عليه في البداية عند 432 ألف برميل يوميا حتى سبتمبر (أيلول). الا ان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كرر دعوته لمنتجي النفط، إلى زيادة الإنتاج بكميات «استثنائية». فيما اعتبر خبراء بمجال النفط والطاقة أن الدول الوحيدة القادرة على ضخ المزيد من النفط هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
واليوم وقبل أيام من زيارة جو بايدن إلى المنطقة، صار واضحا أن سلاح النفط كما الغاز أدى قسطا كبيرا من مهمته، فقد أبدت إدارة بايدن استعدادها لإعطاء الضمانات اللازمة لدول الخليج كما إسرائيل والأردن ومصر، أن أي اتفاق مع إيران لن يكون على حساب هذه الدول وأمنها، كذلك دعم توجه هذه الدول للتنسيق الأمني والعسكري بين بعضها البعض وبرعاية أميركية لضمان أمنهم أمام التهديدات الإيرانية المتصاعدة والمستمرة.
والمبادرة الأميركية الجديدة في البحث عن تحالف إقليمي قادر على ضبط الصراعات وإبقاء حدود التوتر في حدها الأدنى، ليست فكرة جديدة، لقد طرحتها إدارة ترامب في عام 2018، وعقدت لأجلها عدة اجتماعات في واشنطن بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي ومصر والأردن، لكن دول المنطقة لم تكن متشجعة للانخراط في مثل هذه المبادرة لأسباب كثيرة فمصر مثلا لا تريد الدخول في أي تحالف قد يدخلها في مواجهة مع إيران.. ودول الخليج العربي رأت في هذا التحالف نوعا من دفعها لمواجهة مع إيران من دون التزام أميركي واضح بما سيقدمه لهذا التحالف، لذلك فشلت الفكرة الأولى، لكن يبدو أن إدارة بايدن عاودت طرح الفكرة على أساس جديد، فهي تطرح أن يكون التحالف الجديد بمثابة تنسيق وتبادل المعلومات وتشبيك منظومات الدفاع الجوي بين هذه الدول بحيث تشكل هذه المنظومات نوعا من الحماية الذاتية لكل المجال الإقليمي، لكن أيضا هذه المبادرة قد يواجهها عدد من الصعوبات أهمها، مستوى التزام الدول بوضع منظومات دفاعها الجوي ومنظومات الإنذار المبكر في إطار عمل جماعي، وأيضا وهو الأهم إلى أي حد ومستوى قد تقبل هذه الدول بالمشاركة الإسرائيلية في هذا المجال، لذلك فإن التفاؤل بوجود تحالف إقليمي قوى قد لا يكون مبررا، لا سيما وأن أغلب الدول في المنطقة تسعى لضمانات أميركية فردية وثنائية بينها وبين الولايات المتحدة ولا تفضل الدخول في إطار تحالفات إقليمية متعددة الأطراف.
وقبل موعد الزيارة بأيام جاء الإعلان عن استئناف المفاوضات النووية، ولكن هذه المرة ستكون المفاوضات بين إيران والدول الكبرى في العاصمة القطرية الدوحة لا في فيينا، مع ما يعنيه ذلك من قبول خليجي بهذه المفاوضات وما سينتج عنها.
المنطقة كلها باتت قاب قوسين أو أدنى من تغييرات جذرية، اجتماع قمة في المملكة تحضره مصر والأردن والعراق إضافة إلى دول الخليج مع الرئيس الأميركي، اجتماعات أمنية بعيدة عن الأضواء تحصل في شرم الشيخ وغيرها، العالم بات بحاجة ماسة للنفط كما الغاز، ولكن ليست دول الخليج وحدها هي المستعدة لبيع النفط وزيادة الإنتاج، فها هي إيران تنتظر التوصل إلى اتفاق لتنضم إلى السوق العالمية وتبدأ بحل جزء من مشاكلها الداخلية، الجميع يجلس على طاولة ما يفاوض على مصالحه وأمنه، وحدهما الأكثر تضررا من سياسات إيران غائبان، سوريا ولبنان، فلا من يتحدث باسمهما ولا من يفاوض على أي مكاسب يمكن أن يحققاه جراء التسويات الكبرى في المنطقة.
العالم كله يقاتل من أجل مصالحه، من أجل استقلاله واستقراره، في وقت يبدو فيه أن البلدين لن يكونا أكثر من جائزة ترضية لإيران مقابل اكتفائها ووقف تمددها وتهديداتها لدول المنطقة.
دول ستستفيد من تقديم البديل عن الغاز الروسي، وها هي قطر والجزائر قد بدأتا بتوقيع عقود مع دول عدة لإمدادها بالغاز، ودول عرفت كيف تستخدم سلاح النفط لتضمن أمنها ولتتفرغ قياداتها لتنفيذ المشروعات الاقتصادية والإنمائية، وإيران التي استمرت بابتزاز دول المنطقة ها هي تقتنص فرصة وجود بايدن في البيت الأبيض، أوروبا مستعدة لدفع أي ثمن لكي ينعم شعبها بالدفء شتاء، وأميركا لن تتخلى عن حلفائها لا الأوروبيين ولا إسرائيل ولا الدول العربية والخليجية الحليفة لها، وحدهم السوريون واللبنانيون لن يجدوا من يطالب بمصالحهم وسيدفعون الثمن من حريتهم واستقلالهم مقابل استقرار المنطقة ودفء العالم.