بيروت: بعد شهر على إنجاز استحقاق الانتخابات البرلمانية في لبنان، حدّد رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون موعد الاستشارات النيابية الملزمة يوم الخميس 23 يونيو (حزيران) الحالي في قصر بعبدا، بعد غموض حاصر مسار ومصير الاستحقاق الثاني المرتقب، تمهيداً لانتخبات رئاسة الجمهورية المقررة في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
باتت الحكومة الحالية في مهام تصريف الأعمال، بانتظار اختبار النواب الجدد شخصية لتكليفها بتشكيل الحكومة الجديدة، غير أن استشارات التّسمية تأخّرت كما العادة، وهو أمر مخالف للدستور، إلا أن الإفراج عن موعدها يوحي بأن طبخة التوافق على اسم الرئيس المكلّف لتشكيل الحكومة العتيدة قد سلكت طريقها.
تسلّح عون خلال مدّة المماطلة بتأجيل الاستشارات بحجّة أنّ الدستور لم يقيّده بمهلة معيّنة للإسراع في هذه الدعوة، وكما كان مُتوقّعاً أُطلق سراحها بعد زيارة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى لبنان للبحث في ملف ترسيم الحدود البحرية، على الرغم من أنّ ربط هذا الاستحقاق الدستوري بمثل هذه التطورات لا مبرّر له، وكل ما حصل كان يصبّ في خانة التفاوض وتقاسم الحصص وتحديد شكل الحكومة، أتكون سياسية أم تكنوقراط (مؤلفة من اختصاصيين غير حزبيين) كما الحكومة الحالية التي تقوم بتصريف الأعمال، وهو أمر لم تحسمه بعد المفاوضات الجارية، مما يؤشر بأن الأمور قد تتّجه نحو مأزق قد يزيد من تعقيد مرحلة التشكيل.
بقيت الاستشارات النيابية محط أخذ ورد، خلال الأيام المنصرمة، بحكم الخلاف بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي (المرشّح الأوفر حظاً للتّكليف) ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، المدعوم من حزب الله، والطامح إلى تشكيل حكومة سياسية يشارك فيها شخصياً بوزارة الخارجية وعبر تياره السياسي من خلال وزارتي الطاقة والعدل، فيما ميقاتي يرفض الشروط ويسعى لتشكيل حكومة مشابهة لحكومته الحالية، وسط ترقّب لما ستكشفه نتائج الاستشارات ومواقف الكتل النيابية التي ستتبلور مواقفها تباعاً خلال الساعات المقبلة.
تتطلّب الاستشارات النيابية الملزمة في لبنان، وفق النهج المتعارف عليه، وجود حدّ أدنى من التوافق الضروري على اسم الشخصية التي ستُكلّف بتشكيل الحكومة المقبلة، وبالتالي فإن أي دعوة إلى الاستشارات من دون أي إطار توافقي ستكون نتيجتها لجوء كل كتلة نيابية إلى تسمية مرشح بحكم تشرذم المجلس الجديد، ما يعني أن أي اسم لن يحصل على أكثرية وازنة تُمكّنه من تشكيل الحكومة.
وفيما يتقدّم خيار طرح ميقاتي على غيره للتّكليف، إلا أن الصورة لم تتبلور بعد نهائياً، فهو لديه شروطه، والآخرون لن يمنحوه ثقتهم بالتسمية والتصويت مجاناً، لذلك فإن التفاهم على معالم الحكومة المقبلة مرهون بالتوافق على الحصص، وهذا سيتّضح قبيل ساعات من الاستشارات.
يُلقي الدستور على عون مهمة دعوة النواب إلى إجراء استشارات برلمانية ملزمة لاختيار وتكليف رئيس حكومة جديدة، وبانتظار الموعد المنتظر، تبقى الخلافات بين القوى السياسية في لبنان تحول دون حلّ المشاكل التي تُعرقل حتى الآن الإصلاحات التي تُشكّل شرطاً مسبقاً لحصول لبنان على المساعدات الخارجية، فيما تتوه أولويات الناس المعيشية في مهب مزاجية مسؤولين «غير مسؤولين» يمتهنون أساليب المواربة من أجل تغليب المصالح الشخصية على معالجة هموم معيشية واقتصادية تؤرق مضاجع اللبنانيين منذ أشهر.
التأليف قبل التكليف.. والفراغ حتميّ!
تتوالى التكهّنات حول ما ستحمله مستجدات المرحلة المقبلة، ففي حال تعذّر التأليف المحتمل، يبقى السؤال: هل يُمكن لحكومة ميقاتي أن تُصرّف أعمال الفراغ الرئاسي؟
وفق ما أكده المحلل السياسي يوسف دياب لـ«المجلة» فإن «سبب التأخير في الدعوة إلى الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس جديد للحكومة إلى ما بعد زيارة الموفد الأميركي هوكشتاين، ليس الوقت الضاغط على رئيس الجمهورية، بل لأن الأخير لم يكن قد استكمل بعد مشاوراته غير القانونية وغير الدستورية والتي تتعلّق بالبحث في طبيعة وشكل الحكومة وأسماء الوزراء فيها».
هذه الظاهرة، بحسب دياب، «اعتاد عليها عون منذ وصوله إلى القصر الجمهوري إذ إنه دأب على موضوع البحث في كيفية تشكيل الحكومة وشكلها قبل الدعوة للاستشارات، بمعنى أنه يريد التأليف قبل التكليف، على الرغم من أنه ملزم بحسب الدستور والقانون أن يدعو إليها».
جزم دياب بأنه «من الواضح أن ميقاتي هو الأوفر حظاً لتسميته لموقع رئاسة الحكومة حتى الآن، إذ إنه لم يتبلور اسم شخصية سنيّة أخرى تكون مكلّفة بتشكيل الحكومة، وذلك لأن الكتل النيابية الكبيرة والوازنة تتجه إلى إعادة تسمية ميقاتي بخلاف رغبة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي يرفض تسمية ميقاتي رئيساً بسبب خلافات سياسية و شخصية حول الكثير من الملفات».
ورأى أنه «وفق المجريات يبدو أن الحكومة المقبلة لا تتآلف مع رغبة باسيل الذي يريدها حكومة سياسة بامتياز ويريدها أن تكون حكومته هو، أما ميقاتي فيريد حكومة تكنوقراط أو حكومة شبيهة بحكومته الحالية لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبناء العلاقات مع الدول العربية والصديقة».
وبحسب دياب «فمن الواضح أن ميقاتي سيُكلّف بتشكيل الحكومة، لكن لن يكون هناك تأليف لها ضمن المهل التي تفصل عن انتخابات رئاسة الجمهورية، وبالتالي سنصل إلى فراغ حكومي أو ستستمر حكومة تصريف الأعمال الحالية حتى تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية».
واعتبر أن «أفق لبنان مسدود بما يخصّ الاستحقاقات الدستورية الأساسية أي تأليف الحكومة وانتخاب رئيس جديد للجهمورية لأن المصالح متعارضة إلى حد كبير، وخصوصاً مصالح رئيس الجمهورية وفريقه السياسي مع مصالح كثير من اللبنانيين، ومن الواضح أنه يريد حكومة تشكل رافعة لباسيل وتيّاره في المرحلة المقبلة وتكون لها الكلمة الفصل في إدارة الفراغ الرئاسي، بمعنى أن يكون باسيل صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تأليف الحكومة، مقابل رفض جماعي لهذا التوجه».
ولفت دياب إلى أن «مجريات الأوضاع تُظهر أن لبنان مقبل على فراغ حكومي ومن ثم فراغ رئاسي».
سيناريو الكباش بدأ.. مماطلة وابتزاز!
يبدو أن الأيام المقبلة لن تكون سهلة على اللبنانيين بانتظار حكومة جديدة تعمل على وقف الانهيار الكبير الذي يفتك بالبلاد والعباد، فهل ستُبصر النور؟ لتبق الإجابة عن ذلك رهن ما ستؤول إليه مجريات الأحداث، وفي هذا الإطار أشار المحلل السياسي طوني أبي نجم لـ«المجلة» إلى أن «تمنّع رئيس الجمهورية عن الدعوة للاستشارات النيابية الملزمة بحكم الدستور، ارتكز على استغلاله ثغرة في الدستور اللبناني لا تُلزمه بوقت محدّد للدعوة إليها وذلك من أجل المماطلة»، لافتاً إلى أن «هذه ليست المرة الأولى التي يؤخر فيها رئيس الجمهورية الدعوة للاستشارات تحت شعار التأليف قبل التكليف».
وأوضح أن «ما حصل يُمهّد لسيناريو من الكباش وخصوصاً بعد هجوم باسيل الأخير على ميقاتي في محاولة لابتزازه قبل الوصول إلى التكليف، وذلك باعتبار أن ميقاتي هو صاحب الحظ والمرشح الوحيد لينال أكبر عدد من الأصوات، وبالتالي هناك عملية ابتزاز من أجل الدخول في مطالب وحصص قبل عملية التكليف».
ولفت أبي نجم إلى أن «هذا كله يؤشر إلى حصول عرقلة وقتال كبيرين من باسيل وعون، ولا سيما أنه بقي قرابة خمسة أشهر على نهاية عهد رئيس الجمهورية، لذلك سيكون تركيزهم على الحصول على أكبر عدد من المكاسب حكومياً، من خلال طرح باسيل عودته وزيراً للخارجية اللبنانية من أجل تجاوز موضوع العقوبات ونيل أكبر حصص ممكنة في الحكومة في حال تشكّلت كونها ستواكب مرحلة الفراغ الرئاسي المتوقّعة».
واعتبر أبي نجم أن «الدستور يفترض دائماً حسن النية لدى من يديرون البلد، ولا يفترض أن يكون هناك رجالات بمواقع المسؤولية يعرقلون أمور البلد»، مشيراً إلى أن «المشكلة بمقاربة رئيس الجمهورية الذي يتجاوز الدستور عندما يسعى للاتفاق على شكل الحكومة قبل التكليف، وبالتالي فإنه يتجاوز صلاحيات الرئيس المكلّف دستورياً وعملية تكليف الحكومة التي يجب أن تكون بالتشاور معه، إذ إنه ليس رئيس الجمهورية من يشكل الحكومة قبل التكليف».
وحول التأخير عن الدعوة للاستشارات النيابية، رأى أبي نجم أن «رئيس الجمهورية كان يبحث عن أعذار من أجل تأخير التكليف وفرض المزيد من المشاورات الاستباقية حول شكل الحكومة والحصص فيها قبل عملية التأليف، وهذا كلّه غير دستوري».
وأشار إلى أنه «منذ مرور شهر على إجراء الانتخابات النيابية ولغاية الآن ورئيس الجمهورية لا يشعر بأي ضرورة للعجلة في معالجة الأمور في بلد منهار، وبوضع أقل ما يقال فيه إنه مأساوي ومن الممكن أن تتطور الأمور إلى حرب في المنطقة، ومماطلته في كل الاستحقاقات والملفات لا تزال كما العادة من أجل تحصيل مكاسب أكبر لصهره».