باكو: ليست جديدة تلك الحالة السياسية التي يواجهها العراق اليوم، إذ إنه بين الحين والآخر يكون العراق على موعد مع أزمة سياسية جديدة تتباين مستوى حدتها وعمق تعقيدها، وإن كانت الأزمة الأخيرة التي يعيشها العراق تمثل حالة أكثر تعقيدًا مما سبق، حيث ظلت هذه الأزمة تراوح مكانها منذ الاستحقاق النيابي في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 والذي لم يسفر عن فوز أغلبية حزبية أو سياسية بمقاعد البرلمان بما يمكنها من تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية، إذ أخفقت الأطراف كافة في تحقيق أي منهم للأغلبية الضامنة وليس الأغلبية الأكثرية التي تعطي لأحد طرفي الصراع الثلث المعطل الذي يعرقل الحياة السياسية على غرار التجربة اللبنانية.
ونتيجة لذلك، دخلت البلاد في حالة من الفراغ الدستوري بعدما عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس جمهورية جديد مع انتهاء المدة الدستورية التي حددتها المحكمة الاتحادية العليا في السادس من أبريل (نيسان) الماضي (2022). وبدلا من أن يستفيق السياسيون ويبحثوا عن مخارج وحلول لتلك الأزمة انشغلوا بطرح المبادرات وتقديم الأفكار التي لا تعبر عن حقيقة الواقع ومشكلاته، وكأن المسؤولية السياسية لهذه الأطراف تقف عند حدود تقديم الرؤى والمقترحات بغض النظر عن مدى قابلية الأوضاع لمثل هذه المقترحات، فدخلت الأطراف السياسية حلبة للمنافسة على تقديم المبادرات التي لا تسمن ولا تغني من جوع في ظل تصلب مواقفها وتمترسها من ناحية، وتدخلات الأطراف الخارجية صاحبة المصلحة وعلى وجه التحديد الجار الإيراني من ناحية أخرى، حيث ترى طهران أن ضمان أمنها يبدأ من الهيمنة على المقدرات العراقية وتوظيف إمكاناتها لدعم اقتصادها الذي يعاني من انهيار مستمر أثّر على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وصل إلى حد خروج المظاهرات الرافضة لسياسة الملالي الإيرانية، تلك المظاهرات التي جاءت على هدى المظاهرات التي شهدها العراق على مدار أكثر من عام، منددة بهيمنة إيران وأحزابها وفسادها، بل واعتداؤها المباشر على الأراضي العراقية كما حدث مؤخرًا في منطقة أربيل، ذلك الاعتداء الذي قلب الطاولة السياسية مرة أخرى بين القوى السياسية العراقية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التوافق على تشكيل الحكومة الجديدة، فجاء هذا الاعتداء ليعيد الأزمة إلى نقطة الصفر، وهو ما يلقي باللائمة على كافة الأطراف المنغمسة في الأزمة العراقية سواء أكان الخارج بأجنداته ومصالحه ومواقفه وسياساته وتدخلاته أو الداخل بصراعاته وتنافساته الساعية إلى الحصول على أكبر حصة من الكعكة الاقتصادية والسياسية التي يتقاسمها كل طرف مع أتباعه على حساب مصالح الشعب العراقي الذي أدرك بعد كل ما يجري على الساحة أن أحزابه السياسية التي وثق فيها ذات يوم، هي أحزاب تخدم أجندات قد لا تتوافق مع مصالح العراق، وإنما تخدم مصالحها ومصالح حلفائها في الخارج، يدللون على ذلك بمسؤولية هذه النخبة السياسية عن تبديد أكثر من تريليون ونصف التريليون من عائدات البلاد النفطية، بينما ظل الفقر منتشرًا والإرهاب متصاعدًا، ويسدد أبناء الشعب العراقي الأبرياء فواتير هذا الفقر الذي تزداد مساحته كل يوم، وذلك الإرهاب الذي تتصاعد وتيرته مع كل حادثة.
في خضم هذا الواقع المؤلم الذي يعيشه العراق اليوم بين صراعات قواه السياسية وتدخلات أطراف خارجية، يستعرض هذا التقرير مآلات العراق في قادم الأيام من خلال محاور ثلاثة على النحو الآتي:
المبادرات السياسية
مع كل أزمة يواجهها العراق تبرز على الساحة عديد المبادرات التي تحمل في ظاهرها رغبة في الخروج من تلك الأزمة ومعالجة حالة الانسداد السياسي التي تعاني منها الدولة العراقية، وفي مضمرها تحمل مناورة يحاول كل طرف أن يختبر بها مواقف الطرف الآخر، فقد تعددت المبادرات التي تقدم بها كل طرف سياسي حاول أن يوظفها بما يحقق مصالحه، ومن أحدث هذه المبادرات التي طُرحت خلال الشهر الماضي (مايو/ أيار 2022) من جانب طرفي الصراع السياسي ما يأتي:
مبادرة الإطار التنسيقي (مكون من تحالف الفتح، وتحالف قوى الدولة وحركة عطاء، وحزب الفضيلة وائتلاف دولة القانون)، وجاءت مجمعة لأفكار عدة سبق أن قدمها الإطار. وقد تركزت هذه المبادرة في نقطتين رئيسيتين، هما:
أن منصب رئيس الوزراء من حق الأكثرية، ويجب الحفاظ عليه من خلال الكتل السياسية الممثلة لهذا المكون الأكبر، على أن تتم تسمية رئيس الوزراء من خلال كتلة سياسية شيعية واحدة، تتفق على تسميته فيما بينها. كما يمكن للمستقلين تقديم مرشحهم لمنصب رئيس الوزراء، شرط أن تتم الموافقة عليه من قبل كتلة المكون الأكبر. مع التعهد بدعم رئيس الحكومة الذي يتم ترشيحه من خلال كتلة المكون الشيعي (الإطار التنسيقي والتيار الصدري) معاً، وتتحمل معاً مسؤولية فشله ونجاحه ومحاسبته. والحقيقة أن هذه المبادرة تعني بطبيعة الحال سحب أحقية التيار الصدري بتشكيل الحكومة بصفته الفائز الأول في الانتخابات.
الإشارة إلى إعادة انتخاب رئيس البرلمان مجددًا، من خلال الحديث عن أهمية أن تحظى الرئاسات الثلاث، الجمهورية والبرلمان والحكومة، بموافقة جميع المكونات.
مبادرة تحالف «إنقاذ وطن» وهو التحالف المكون من الكتلة الصدرية، وتحالف السيادة، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والتي جاءت ردًا على مبادرة الإطار التنسيقي، إذ تضمنت العرض على النواب المستقلين تشكيل الحكومة عبر تحالفه، في خطوة لكسب أصواتهم، والخروج من أزمة اختيار رئيس للجمهورية، والذي يحتاج إلى تصويت 220 نائبًا (من أصل 329)، بحسب ما قررته المحكمة الاتحادية، على غرار ما أعلنه مقتدى الصدر في تغريدة له على «تويتر» في أوائل مايو الماضي، جاء فيها أنه: «بعد التشاور مع الحلفاء في التحالف الأكبر (إنقاذ وطن) أقول إن للعملية السياسية الحالية ثلاثة أطراف، الطرف الأول التحالف الوطني الأكبر، (إنقاذ وطن) وهو راعي الأغلبية الوطنية، لكنه وبسبب قرار القضاء العراقي بتفعيل الثلث المعطل تأخر في تشكيل حكومة الأغلبية، والطرف الثاني، هو الإطار التنسيقي الداعي لحكومة التوافق، وقد أعطيناه مهلة الأربعين يومًا، وفشل في تشكيل الحكومة التوافقية، والطرف الثالث، هم الأفراد المستقلون في البرلمان». ولم تحظ هذه المبادرة الثانية للتيار بردود فعل إيجابية سواء من جانب الإطار التنسيقي أو المستقلين.
المستقلون وعدوى الانقسام
في خضم استمرار الأزمة وانتقالها إلى مراحل أكثر تعقيدًا بسبب الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتفاقمة، اتجهت الأنظار إلى كتلة النواب المستقلين البالغ عددهم أكثر من 40 نائبًا، حيث يمثلون طرفًا ترجيحيًا في كفة أحد محوري الصراع السياسي، إذ يسعى كل محور إلى جذب هذه الكتلة وكسب تأييدهم، خاصة بعد أن أصبح حضورهم إلى البرلمان أمرًا وجوبيًا بعد قرار المحكمة الاتحادية العليا، الذي نص على أن اختيار رئيس الجمهورية لا يصح إلا عبر تصويت ثلثي عدد نواب البرلمان، أي 220 نائبًا، وهو أمر لم يستطع تحقيقه أي من المحورين المتنافسين من دون أصوات هؤلاء المستقلين.
ولكن رغم تلك الأهمية التي أضحى يشغلها المستقلون في الأزمة السياسية، كونهم يملكون المسار الأكثر ملاءمة لحل هذه الأزمة إذا ما تبنوا موقفًا مساندا لأحد المتنافسين، إلا أن هذا الخيار غير مطروح في ظل حالة الانقسام الحاد في مواقف هؤلاء المستقلين بخصوص حضور جلسة البرلمان الخاصة بتسمية رئيس الجمهورية وإكمال نصابها القانوني أو مقاطعتها، إذ يرفض بعض هؤلاء النواب المستقلين أن يتحولوا لأرقام تكميل عدد يدعم أحد طرفي الصراع. في حين أنه يمكن أن يمثلوا- من وجهة نظر أنصار هذا الرأي- طريقا ثالثا يمكن السير فيه بعيدا عن الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك، ويتمحور هذا الطريق في طرح رؤية مختلفة للأزمة تنطلق من تسمية رئيس وزراء مستقل، ويرون أن هذا الطرح يمثل حلا وسطا يرضي جميع الأطراف ويمثل مخرجًا من أزمة متفاقمة لن تجد حلا لها إلا بحل البرلمان وإعادة الانتخاب من جديد رغم ما تحمله هذه الخطوة من خطورة على الأوضاع السياسية المتردية.
العراق.. مستقبل غامض
يواجه العراق مستقبلا غامضا سياسيا بسبب إخفاق كل طرف من أطراف الأزمة في حسم المعركة لصالحه، نظرًا لتباين مدخل تعاطي كل طرف للأزمة، ففي الوقت الذي يرى فيها الإطار التنسيقي الذي أخفق في الحصول على الأغلبية في البرلمان أن الحل يكمن في الحكومة التوافقية، في مقابل ذلك يتمسك التحالف الصدري بفكرة الأكثرية العددية، وبينهما يأتي موقف المستقلين الأقرب إلى الجمود دونما القدرة على اتخاذ قرارات مع هذا الطرف أو ذاك أو حتى اتخاذ المبادرة في محاولة لتفكيك حالة الانسداد التي تهيمن على المشهد السياسي.
وفي خضم ذلك يصبح أمام التيار الصدري الذي يملك الأكثرية العددية مع اقتراب انتهاء المهلة التي منحها للأطراف كافة للنظر في مبادرته (أربعين يوما)، بعض الخيارات المحدودة بعيدًا عن فكرة التوافقية التي تبدأ بخيار الإبقاء على رئيس الجمهورية وحكومة مصطفى الكاظمي، مرورًا بإمكانية الإبقاء على حكومة الكاظمي مع تغيير واسع في الوزارات، أو دفع رئيس الوزراء الكاظمي إلى الاستقالة وتشكيل حكومة جديدة، وهي خيارات لا تتطلب سوى أغلبية مطلقة (165) عضواً، وهو ما يملكه تحالف إنقاذ وطن إذ لديه (173) نائبًا، وصولًا إلى خيار حل البرلمان وهو الخيار أيضا الذي يتطلب الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء البرلمان (165) نائباً. وقد يكون هذا الخيار الأخير هو الخيار الأقرب إلى التحقق في قادم الأيام كخيار بديل عن خيار وقوع مواجهة مسلحة بين الطرفين الشيعيين وإن كان هذا الاحتمال مستبعدًا في ظل الظروف الراهنة ومواقفهما التي تعي جيدا خطورة الانزلاق إلى مثل هذا المنحدر الذي يُدخل البلاد في أتون حرب أهلية لن يخرج منها فائزا، خاصة وأن الأطراف النافذة في الشأن العراقي (ويقصد بها تحديدًا إيران) تعي جيدًا خطورة تداعيات مثل هذا السيناريو على مصالحها وأمنها واستقرارها في وقت يواجه في العالم بأسره أزمة متفاقمة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
ولكن رغم ترجيح السيناريو القائل بالتوجه نحو انتخابات مبكرة عقب خطوة حل البرلمان، إلا أن هذا السيناريو يحمل في طياته انسدادًا سياسيًا جديدًا، يتعلق بأمرين مهمين: الأول صعوبة إجراء مثل هذه الانتخابات نظرا لحكم المحكمة الاتحادية القاضي بإلزام البرلمان بتعديل القانون الانتخابي، والذي قد يكون سببًا في إشعال انسداد آخر، باعتبار أن القوى سيصعب أن تتفاهم بينها حول القانون الجديد، إذا استمروا بهذه الفُرقة والتصعيد. أما الأمر الثاني، فيتعلق بما يمكن أن تفرزه العملية الانتخابية، فإذا ما افترضنا جدلًا أن تتمكن هذه القوى السياسية من التوافق حول القانون الجديد، فما هو الضمان أن لا تأتي نتائج الانتخابات بذات حالة الانقسام التي تعاني منها البلاد حاليا مع استبعاد إمكانية أن يحصل المستقلون على العدد ذاته؟ وهو ما قد يدخل البلاد في حلقة مفرغة من الصراعات السياسية بتداعيات كل ذلك اقتصاديا على أوضاع المواطنين ومعايشهم، الأمر الذي يثير التساؤل من جديد حول مدى صلاحية هيكل النظام السياسي الراهن لإنقاذ العراق من مستقبل غامض تتجدد أزماته ومشكلاته بين الحين والآخر.
في ضوء كل ما سبق، نخلص إلى القول إن القوى السياسية العراقية مطالبة في هذا التوقيت على وجه الخصوص بأن تعيد حساباتها، وتؤكد على ولاءاتها الوطنية بعيدًا عن الأجندات الطائفية والارتباطات الخارجية، لأن الولاء الوطني لا يقبل القسمة على اثنين، فإما أن تكون مواليا لدولة خارجية أو طائفة مذهبية وإما أن تكون مواليا لوطنك العراق تحافظ على مصالحه ومصالح شعبه.