بيروت: في الحلقة الثانية من حوار «المجلة»مع حفيد الكاتب العربي الكبير أمين الريحاني، يحدثنا الريحاني الحفيد عن زيارة جده لليمن ولقائه بالإمام يحيى بن حميد الدين، كما يستطرد حول تفاصيل الزيارة العربية لجده واستعانته بالأميركان ضد البريطانيين بحكم أنه كان يحمل الجنسية الأميركية.
كما لا ينسى الريحاني الحفيد أن يعرج على علاقة جدة بجبران خليل جبران وما قدمه له عندما هاجر الأخير إلى الولايات المتحدة، وتطرق كذلك إلى علاقة الريحاني بالشاعرة مي زيادة وزيارته لها في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية وإقناعه لها بأن تخرج وتلقي محاضرة في الجامعة العربية ببيروت.
واستفاض الريحاني الحفيد حول دعوة جده لتأسيس الولايات المتحدة العربية على غرار الولايات المتحدة الأميركية.. وإلى نص الحوار...
* لقد صال أمين الريحاني وجال في الجزيرة العربية، ذهب إلى اليمن في رحلة خطرة، وكان مرافقه واحدًا من الشوام على ما أتذكَّر، وفي طريقه إلى الكويت كان يرافقه السيد هاشم النقيب.. نريد حديثًا وهو يخوض تلك الغمار ويكتشف المجهول في اليمن..
- رحلة اليمن كانت من المواضيع التي شكَّلت إنذارًا أول للريحاني في نيويورك قبل أن يقوم برحلته العربية، بمعنى أن بعض الأصدقاء والمحرِّرين في «نيويورك تايمز»الذين يعرفون تفاصيل الواقع السياسي في العالم العربي آنذاك حذروه، ولا ننسى أن الريحاني كان مراسل «نيويورك تايمز»في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ثمَّ انتقلت «نيويورك تايمز»إلى أن تنشر للريحاني العديد من مقالاته، المهم أن زملاءه في الجريدة حذَّروه من اليمن، بأنه سوف يُقتل لمجرد كونه غريبًا، وأنه إذا ذهب دون سابق إعدادٍ او إنذارٍ أو تهيئة، فهو يقتحم المجهول في مثل هذه الأحوال. رغم ذلك أصرّ على اقتحام اليمن، وزار ملك اليمن، الإمام يحيي بن حميد الدين، كما زار العديد من حكام المحميات آنذاك، ورافقه بصورة غير مباشرة، المثال على ذلك بعض الأسئلة التي طرحها الإمام يحيي على السيد أمين الريحاني، فظنّه أنه من أحد سادة الحجاز، فكان السؤال الشهير: أحسنيٌّ أنت أم حسيني؟ وكان جواب الريحاني الشهير: يا سيدي، أنا عربي جئت في خدمة الأمة العربية.
* هل كانت هذه الزيارة استكشافية بما أنه صحافي أميركي من أصل عربي، وعمل مراسلًا لجريدة مرموقة هي «نيويورك تايمز»، نريد أن نتوقَّف عند هذه الجزئية، وأن نتحدَّث-أيضًا- عن نشاطه الصحافي في الحرب العالمية الأولى..
- بالنسبة للشق الأول من السؤال؛ إلى أي مدى كانت هذه الرحلة العربية رحلة استكشافية؟ صحيح.. ففي شقٍّ منها كانت رحلة استكشافية، ومن الخطأ القول: إن الاستكشاف لم يكن واردًا، فهو جزء طبيعي وأساسي من هذه الرحلة، مع الفارق أن هذه الرحلة لم تقف عند حد الاستكشاف، وإلَّا لكان عمله قد اقتصر على العمل الصحافي، وهدفه- الذي ظل يكرِّره تقريبًا كتابةً وقولًا أمام جميع ملوك العرب وحكامهم- أنه جاء لاستكشاف الواقع العربي والإنسان العربي، سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، ولكن في سبيل هدف أبعد.
* لمصلحة من كانت هذه الرحلات الاستكشافية؟ إنسان يعيش إلى حد ما حياة مرفَّهة في نيويورك، يؤسِّس مع زملائه هناك الرابطة القلمية، ويعمل صحافيًّا وكاتبًا، ويعيش حالة غرامية مع فتاة أميركية، فما الذي يدفعه إلى أن يترك كل هذه الحياة الرغيدة ويقتحم مجاهل الصحراء إلى المجهول؟
- هذا السؤال يُطرح باستمرار، ويذهب البعض إلى أبعد مما ذهبتَ، إلى حد طرح بعض الأسئلة أو وضع علامات استفهام حول أهداف الريحاني، ولكن في رأيي استنادًا إلى ما بين يدي من وثائق ورسائل وغيرهما، فإن هذا الرجل الذي عُرِفَ بنزعته الثورية، والذي صادفته الظروف الفكرية والثقافية لأن يتعرَّف على جذوره العربية، ألهبت منه ليس الخيال وحسب، وإنما أشعلت منه الفكر والعقل، بمعنى أنه لم يكن للريحاني من هدف من رحلته العربية إلَّا ما كتبه في صحة الهدف الأسمى، أي العمل في سبيل مستقبل العرب وخيرهم ووحدتهم الناجعة والمزدهرة، وقد أشار إلى أنه يحلم بولايات عربية متحدة تناهض الولايات الأميركية المتحدة، عنده أن هذا الهدف الأسمى لن يكون بحاجة لمن يدعمه سياسيًّا، سواء من الدول أو من غير الدول.
* ولكن هنالك بعض الباحثين ممَّن ذهب إلى أن ثمَّة صلات قامت بين أمين الريحاني وبعض الأجهزة البريطانية أو الأميركية..
- أشكرك على إثارة هذا الموضوع، وأقول إنه لو كان هذا الكلام صحيحًا، بمعنى أن الريحاني عمل لأهداف ذات علاقة بدول أخرى كبريطانيا أو أميركا، لما مات وفي جيبه أو في حسابه المصرفي ما لا يتجاوز الدولارات الخمسة، لو صح هذا الكلام ربما لم أتحمَّل أنا مسؤولية تحقيق نشر كل تراث الريحاني والذي يستوجب ربما ملايين الدولارات، هذا موضوع آخر، ولكن أكثر من ذلك، تسألني: ولماذا كل هذا الاهتمام؟ ولماذا راسل البريطانيين والأميركيين؟ كان بإمكانه أن لا يراسل أحدًا، طالما أن المشروع شخصي وفردي.. وجوابي على ذلك هو عرقلة البريطانيين لمساره في رحلته العربية، وأنت تعلَّم أن البريطانيين حاولوا أكثر من مرة وبأكثر من وسيلة أن يقفلوا الطرق أمامه.
* قد يكون باعتباره محسوبًا على الأميركان؟
- تمامًا، إذن ماذا يمكن لفرد كالريحاني بطموحه الكبير أو بحلمه السياسي الكبير وبقدراته الفردية الصغيرة، أن يواجه الدول، فخطر بباله أن يواجه دولة بدولة، يبدو ذلك كحصان دون كيشوت. وسأشرح هذه الفكرة؛ بريطانيا تحاربه وتسعى لعرقلة تنقلاته العربية، لو اكتفى بجهوده الشخصية لأخفق، خطر بباله أن يطلب بصفته يحمل جواز سفر أميركيا- فقد أصبح أميركيًّا بعد أن عاش هناك لما يقرب من 30 عامًا- من وزارة الخارجية الأميركية أن تردَّ وتزوِّده برسائل تُعزِّز أو تُسهِّل رحلته العربية، كي لا يقف الإنجليز في وجهه، وهكذا كان.
* لماذا طلب من الخارجية الأميركية تزويده بهذه الرسائل ما دام طموحه هو أن يخترق هذا العالم العربي الذي يُشكِّل مرجعيته الحضارية، ليرسم لنا صورة رومانسية بأنه أقدم على هذه المغامرة وقد خلّف وراءه تلك الحياة الرغيدة وترك زوجته الأميركية الجميلة؟
- في رأيي ربما هذا لأكثر من سبب، السبب الأول هو ما أشرت إليه من أن الريحاني بمفرده قد يصعب عليه في تلك الفترة أن يواجه بريطانيا التي كانت هي الدولة العظمى آنذاك، إذن لا بد من مواجهة متوازية بعض الشيء، ففكَّر في مراسلة الخارجية الأميركية، وقد وُفِّقَ في ذلك. ويبقى السؤال لماذا؟ ليس فقط لتجاوز الصعوبات البريطانية، ولكن لا يغرب عن بالنا أن الولايات المتحدة في تلك الفترة- أي في عام 1922م، بعيد الحرب العالمية الأولى ومبادئ ويلسون- هي المثال والنموذج والنظام السياسي الأمثل.
* أشرنا سابقًا إلى اتصالات أمين الريحاني بوزارة الخارجية الأميركية، هل كان الريحاني يحمل الجنسية الأميركية؟
- أولًا، صحيح كان الريحاني يحمل الجنسية الأميركية منذ عام 1902م، ولا ننسى أنه هاجر مع عائلته منذ عام 1888م، فهو نشأ في الولايات المتحدة واكتشف لاحقًا الجذور العربية التي تمسَّك بها، أما سبب مراسلته لوزارة الخارجية الأميركية، وهذا أمر صحيح بما يتعلَّق برحلته العربية، فكما ذكرت سابقًا عندي ذلك لسببين؛ الأول أن يحاول تجاوز العقبات البريطانية لعرقلة طريقه في سبيل رحلته العربية، والثاني أن النظرة إلى الولايات المتحدة آنذاك كانت أقرب إلى النموذج السياسي الذي يُحتذى، وهذا لا يعني أن الريحاني لا ينتقد أميركا، وهذا واضح في كتاباته على كل حال، وليس أمرًا غير معروف، فمنذ كتاب «خالد»وحتى كتاباته عن العرب وحتى محاضراته في عقر الدار الأميركية؛ في نيويورك وفي سلسلة من الجامعات الأميركية، كان الناقد اللاذع للديمقراطية الأميركية لمحاولات التوسُّع الأميركية التي قد لا تتواءم مع مبادئ ويلسون الشهيرة في حق الشعوب في تقرير مصيرها وما إلى ذلك، إذن هو من جهة كان ينتقد الولايات المتحدة، ولكنه من جهة ثانية استعان بقواها ليرد على محاولات العرقلات البريطانية، وهو في مطلق الأحوال دعا- وفي غير موضع وفي غير كتاب- إلى ما سماه الولايات العربية المتحدة، لتخاطب الدول العظمى آنذاك ندًّا لند، وهذا ما نسعى إليه حتى اليوم.
* إذن لنستجلي نشاط الريحاني في هذه القارة الأميركية، قبل أن يأتي إلى الشرق، كان قد أسس مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة الرابطة القلمية، والتفَّ حولهم عدد من شعراء المهجر اللبناني، لماذا التقى شمل هؤلاء أولًا في الرابطة القلمية؟
- قصة الرابطة القلمية في تفسيرها الثقافي، بعيدًا عن حيثيات هذا التأسيس، تُشكِّل محورًا أساسيًّا يلتقي مع أهداف الريحاني الثقافية الآن كمؤسس لما يُسمَّى بالأدب العربي الأميركي، وإذا عدت اليوم إلى المؤتمر الأخير الذي حصل في واشنطن منذ سنتين بعنوان: «الريحاني جسرٌ بين الشرق والغرب»، ستجده يركّز على هذا المنحى، بمعنى أن الأديب المفكّر الذي أسس لما نسميه بالأدب العربي الأميركي أو هو الرديف للأدب المهجري جاءت حركة الرابطة القلمية، وليس صحيحًا أنها أسست عام 1920م كما هو شائع، بل كان تأسيسها منذ العام 1916م، مع الريحاني ورفاقه، بمعنى أنها الحركة التي تُؤسِّس لحركة التجذُّر العربي في قلب الولايات المتحدة أو في قلب الغرب. إنَّ كل ما طرحته سابقًا بمعنى التجذُّر العربي سياسيًّا، جاء رديفًا له التجذُّر العربي ثقافيًّا وأدبيًّا عن طريق حركة الرابطة، والتي كان الريحاني في طليعة زعمائها.
* جبران غادر بشري، مسقط رأسه إلى أميركا، واستدعى ابن خلدون والمعري وغيرهما، هل كان ذهاب جبران إلى الولايات المتحدة الأميركية بسبب وجود أمين الريحاني قبله؟
- هذه نقطة جوهرية لا بد من توضيحها، هجرة عائلة جبران كانت كهجرة عائلة الريحاني، منفصلتين الواحدة عن الأخرى، ولكن بعد مرحلة، وبالضبط بعد مرحلة باريس الفنية عند جبران والتي التقى فيها الريحاني بعد أن سبق وأن تصادقا، قرَّر جبران أن يعود إلى نيويورك بدلًا من العودة إلى بوسطن، وهو يذكر أن سبب اختياره لنيويورك هو وجود أمين الريحاني فيها، بمعنى أنه ارتاح إلى شخصية كبيرة كالريحاني، موجودة في المدينة العملاقة نيويورك، وهي المدينة التي تحقّق طموحات الكبار أمثال الريحاني وجبران. يُضاف إلى ذلك أن جبران اختار أن يسكن في منزل الريحاني نحوًا من سنتين في نيويورك، وكانت تلك المرحلة بين عامي 1910 و1912 من أغزر وأغنى وأكثر المراحل للاثنين معًا، حيث صدر للريحاني كتابه العملاق «خالد»، والذي رسمه جبران بمجموعة من اللوحات، وأطلق الريحاني جبران في الأوساط الفنية الأميركية التي رسم كبار شخصياتها.
* هو الذي قدَّمه أم ماري هاسكيل؟
- ماري هاسكيل رعت جبران منذ مرحلة بوسطن، والرعاية هنا شملت العديد من النشاطات، وطبعًا لا ننتقص دورها في رعاية جبران وإطلاقه فنيًّا وأدبيًّا، ولكن الدور الذي قام به الريحاني جاء موازيًا ولمرحلة قصيرة وليس طويلة، فقط خلال هاتين السنتين، بمعنى أنه بكون جبران يعيش في منزله، وبكون الريحاني قد انتشرت شهرته في الولايات المتحدة فكأنه وضع هذه الشهرة تحت تصرُّف صديقه جبران، وهكذا كان.
* لاحظت في كتاب «رسائل أمين الريحاني»، أنه قد جرت بينه وبين جبران مراسلات، وأن جبران طلب منه ذات مرة عباءةً عربيةً بيضاء، حاول أن يحتمي بها من برد أميركا القارس، ما مدلولية هذه الحماية؟
- هذه القصة أفسّرها بتفسيرين وهي طبعًا يمكن أن تحمل أكثر من تفسير، التفسير الأول أن حنين الريحاني إلى جذوره العربية رأينا حنينًا موازيًا له عند جبران، ولكن ليس تحديدًا بالمعنى العربي الواضح الذي رأيناه عند الريحاني، ولكن بالمعنى الشرقي العام الذي يمتد إلى حدود الهند وإلى حركة النيرفانا وكل ما يوحي به الشرق من جذور قديمة وتراث قديم، إذن كأن تلك العباءة قد جسَّدت لجبران هذا الحنين إلى شرق مجهول يتوق إلى اكتشافه، ولم يتسنَّ له ذلك. يُضاف إلى هذا التفسير تفسير آخر يرتبط بقصة أخرى، نحن نعلم أن الريحاني حين قرَّر نشر كتاب «خالد»، راسل عددًا من كبريات دور النشر، وكان يرفق رسائله بنسخة من كتابه ملفوفة بقماشة بيضاء، كأنه شاء أن يوحي للناشر بأن هذا الكتاب يكاد يكون مقدَّسًا إن صح التعبير، وقد أشار الريحاني وجبران إلى هذه الحادثة، من أن دار النشر الكبيرة «دوت ميد»التي قرَّرت أن تنشر كتاب «خالد»، والتي كانت آنذاك تستقبل مئات المخطوطات شهريًّا، وإذا بكتاب «خالد»يُختار للنشر، فكان احتفالا كبيرا بين الحلقة الرباعية آنذاك، أي جبران والريحاني وشارلوت تيلر وماري هاسكيل، احتفالًا بهذه الحادثة، فالحنين إلى الشرق كان يطغى، والحنين إلى العرب كان واضحًا.
* الحنين إلى الشرق، الريحاني حنَّ إلى الصحراء، وجبران حنَّ إلى تلك الصبية اللبنانية الجميلة المتصدرة صالونات القاهرة الأدبية، مي زيادة، نريد وقفة هنا..
- قصة مي قصة مميزة، أولًا لا ننسى أن ميّ هي واحدة من علامات المفارقة في أدبنا العربي الحديث ولا شك، أما العلاقة بين مي زيادة من جهة وكلٍّ من جبران والريحاني، فقد اختلفت، وهنا أحاول الاختصار.
* لقد كتب الريحاني قصته معها.
- نعم، الريحاني كتب قصته مع مي كي يوضِّح كل هذه التفاصيل، لكن فيما يتعلق بعلاقة جبران بمي فهي علاقة حب حقيقية، كما تشير الرسائل، بالرغم من أنه لم يلتقها، فكانت الرسائل كأنها التعويض عن لقاءٍ طالما حلم به ولم يتحقَّق، هو في الولايات المتحدة، تارةً في بوسطن وتارةً في نيويورك، وهي في القاهرة أو في بيروت، ولم يتحقَّق حلم اللقاء بينهما، لكن الرسائل تُثبت قصة رومانسية لا غبار عليها، في حين أن علاقة مي بالريحاني بدأت منذ إعجابها بكتابه «الريحانيات»، أي منذ عام 1910م، قبل أن تعرف جبران أو قبل أن تكون هذه المراسلة الرومانسية، وإعجابها بالريحاني- كما تشير هي- حملها على ذكره باستمرار، من أنه القيادي العربي في الغرب أو في الولايات المتحدة، إلى أن تعرَّفت إلى جبران وكانت تلك المراسلة الرومانسية، وتمرُّ السنون حتى محنة مي في عام 1938م، يوم كان الريحاني في الولايات المتحدة ومرّت مي بهذه المحنة التي أودت بها إلى مستشفى العصفورية (مستشفى المجانين)، ومن ثمّ المعالجة في المستشفيات الأخرى، وعند قدوم الريحاني في تلك السنة بالذات تأثَّر جدًّا لهذه القصة، فقرَّر أن يجتمع بمي في المستشفى، وتشير القصة في كتاب الريحاني «قصتي مع مي»إلى أن اللقاء الأول كان شبه مسرحي، بمعنى أن غضب مي على الريحاني جعلها تصدُّه ولا تجيب على كل ما طرحه من أحاديث، يسألها فلا تجيب، يعلّق فلا تجيب، يطرح احتمالات أو حلولًا فلا تجيب، فانتهى ذلك اللقاء الأول بتعليق الريحاني: «تصرّين على عدم الإجابة، أفهمكِ، ولكن عليَّ أن أقول لكِ: إنني لم أكن هنا، فأنا وصلت حديثًا من سفرٍ من الخارج، سأزوركِ ثانيةً وأرجو في زيارتي الثانية أن يتحوَّل صمتك إلى كلامٍ قد يفيدنا نحن الاثنين معًا»، خلاصة القصة أنه أقنع مي في المرة الثانية أن تخرج من المستشفى وأن تنسى كل الذي حصل، وأن تُقنع العالم بأنها ما تزال بكامل قواها العقلية السليمة في محاضرة أدبية اقتنعت بإعدادها وإلقائها في الجامعة العربية ببيروت، وهكذا كان، وعلى الأثر أقنعها بأن تأتي إلى الفريكة وتمضي صيف ذلك العام في منزل مجاور، هو المنزل الذي شاهدتموه منذ لحظات، وهو المنزل الذي لا نزال نذكره حتى اليوم بأنه المنزل الذي استقبل مي زيادة في صيف عام 1938م، ضيفةً على الريحاني.
* في هذا البيت، حيث نجلس الآن، وهو بيت أمين الريحاني في الفريكة، استقبل هنا عددًا من الشخصيات العربية في ذلك الوقت، رسائله تُنبئ بأن الريحاني كان على صلة وثيقة برجالات الأدب والثقافة والسياسة، بل والمستشرقين مثل كراتشكوفسكي، المستشرق الروسي الشهير الذي ألَّف «تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب»، نريد حديثًا عن هذا البيت، هل هذا البيت بناه الريحاني أم يعود لوالده، وقصة اللقاءات التي جرت هنا في المجلس الخارجي في حديقة هذا المنزل..
- هذا المنزل أسسه جدي، أي والد الريحاني، والذي يُدعى فارس أنطون الريحاني، بناه عام 1870م، أي عمره الآن نحو 135 عامًا، ولم يخطر بباله آنذاك أن هذا البيت سيتحوَّل إلى محجَّة لدى رجال الفكر والسياسة كما حصل في عهد أمين الريحاني. من الشخصيات العربية التي زارت هذا البيت في زمن الريحاني، على الصعيد السياسي؛ السلطان عبد الكريم الفضل، سلطان لحج وهي اليوم في اليمن، وفارس الخوري، رئيس الوزراء السوري آنذاك، وهاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية السورية، وشكري القواتلي، زعيم الكتلة الوطنية ورئيس الجمهورية السورية آنذاك، وشخصيات عربية أخرى مثل وكيل وزارة الخارجية السعودي آنذاك فؤاد حمزة، ويُضاف إلى ذلك بعض الشخصيات الأدبية، منهم بطبيعة الحال جبران خليل جبران، حيث زاره هنا قبيل رحلة باريس، لأن رسائل جبران تشير إلى «الصديق الآتي إليَّ للقائه في باريس»، ممَّا يشير إلى معرفة سابقة، وقد أخبرني الوالد أنه كان يزوره هنا في الفريكة، وأيضًا أحمد شوقي، والرصافي، ومجموعة من الشعراء والأدباء العرب، وكذلك كل الأدباء المهجريين الذين كانوا يتردَّدون إلى هنا، مثل ميخائيل نعيمة، والشاعر القروي رشيد الخوري، والأخطل الصغير، فكان هذا ملتقى الأدباء والشعراء ورجال السياسة آنذاك، بمعنى أن الحركة الثقافية والحركة السياسية الإصلاحية- إن صح التعبير- كانت تُشكِّل محورًا وملتقىً في هذا البيت بالذات.