جدة: في زيارة قريبة إلى مدينة الطائف الجبلية (غربي السعودية)، كان الفرق هائلاً بالمقارنة مع آخر زيارة عام 2012. فبعد الانتهاء من صعود جبال الهدا، تستقبلك الورود الملونة في الشوارع في كل الأنحاء. أما الدخول الليلي، فهو أكثر متعة؛ حيث يختلط بريق أضواء الزينة البهيجة بتشكيلات الورود الفاتنة في شوارع حديثة. أما المدينة، فهي تضج بأجواء النشاطات الليلية والعلامات التجارية المحلية والعالمية، التي كثفت حضورها مؤخراً، إلى جانب مراعاة الجمال في التخطيط العمراني والمسطحات الخضراء والفضاءات العامة.
لقد خطا القطاع البلدي في تلك المدينة، التي كانت- حتى وقت قريب- من المحافظات الطرفية الأقل استثماراً لمواردها السياحية والعقارية والزراعية، بإيقاعات متسارعة؛ لتضع المدينة نفسها على نطاق يعتد به داخلها وخارجها. فهي بلاد الرمان والورد الطائفي ودُهنه والأعناب والتين، وهي على مفترق طرق بين الحجاز وأطراف نجد الوسطى.
الأمر الأهم في كل ذلك، أن محافظة الطائف بما تضم من آلاف القرى الريفية حظيت في شهر مايو (أيار) 2022 بهيئة تطوير خاصة بها. إنه أسلوب جديد للإدارة الشاملة؛ بحرية ومساحة أكبر، عبر تفويض بعض السلطات المركزية فيما يتعلق بإعادة هيكلة القطاعات العمرانية والعقارية والسياحية والزراعية وغيرها مع فتح المجال أمام شراكات مع القطاع الخاص أو صلاحية تأسيس شركات استثمارية برؤوس أموال عملاقة، يضخها صندوق الاستثمارات العامة عبر التواجد كممثل في مجالس إدارة هيئات التطوير.
إن هذا التحول ليس بجديد على المملكة، فقد تأسست الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض (تحولت في السنوات الأخيرة إلى الهيئة الملكية لمدينة الرياض)، وكذلك الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، إلى قبل قرابة خمسة عقود، لكن الجديد في الأمر هو الزخم المتصاعد لتأسيس هيئات تطوير محلية خاصة بالمدن، وبخاصة الطرفية مثل أملج وضبا والوجه على الساحل الغربي في البحر الأحمر، والطائف والعلا (شمال غربي السعودية)، أو المدن ذات الاقتصادات متوسطة الوزن النسبي كالأحساء (شرقي السعودية).
ويشير تصاعد الاهتمام بالمدن ذات الوزن الاقتصادي الصغير والمتوسط، إلى التعويل عليها في خلق طفرة تنموية؛ عبر تقوية مولّدات الثروة الطبيعية من الزراعة إلى السياحة والآثار، وثروات القيمة المضافة كالصناعة والعقار والبنى التحتية وأسواق التجزئة. إنها تبدو تجربة، قديمة متجددة، بطابع أكثر شمولاً لأماكن ومناطق ظلت بكراً لعقود، وآن أوان إطلاق طاقاتها، محلياً وعالمياً، في ظل الانفتاح السياحي على العالم.
(اللامركزية التنموية)، هي النسق السعودي الجديد في الإدارة الحكومية لتمكين مولّدات الثروة في المناطق الطرفية؛ لتنافس وتبتكر وتنمّي اقتصادها، أسوة بالمناطق الكبرى ذات الثقل السكاني والاقتصادي. ما هي خواص «اللامركزية التنموية» السعودية؟ وهل تتعارض أم تتعاضد مع مركزية الدولة؟ ولماذا التركيز على تنظيم الأراضي وتوفير فرص تبقي الناس في مناطقهم؟
نتناول الأبعاد الاستراتيجية لإنشاء هيئات التطوير ونسلط الأضواء على أعماق صلاحياتها وربطها مع التوسّع الهائل للاقتصاد السعودي أفقياً وعمودياً (النفطي واللانفطي) من أجل الحصول على تنمية متوازنة وتوزيع أفضل للثروة.
الأرض وتوزيع الثروة
لم تعد جذابة فكرة تركيز الثروة والثقل السكاني في مناطق الرياض العاصمة (وسط) والشرقية في مناطق إنتاج النفط (شرق) ومكة المكرمة حيث جدة الميناء ومكة المكرمة حاضنة الحرم الشريف، وهو ما لا يتناسب مع رؤية المملكة 2030، التي تركز على رفع جودة الحياة وتحسين مستوى الدخل وتسريع النمو.
عند متابعة صلاحية هيئات التطوير، يلحظ وجود صلاحية في غاية الأهمية، وهي هيكلة الأراضي والعقارات بما يخدم التنمية. وتعد الأرض أحد أهم ممكنات الثروة، إذ يلاحظ في السعودية وغيرها من البلاد المجاورة أن الأراضي القابلة للتطوير في مراكز المدن ليست وفيرة، ويستحوذ على كثير منها أصحاب النفوذ والمال. وغالباً ما كانت تتولى الحكومات المركزية مسألة توزيع الأراضي للآغراض العقارية والزراعية والصناعية على المواطنين كأسلوب لتوزيع الثروات المحلية بأكبر قدر من الشمول.
فالأرض هي الثروة الحقيقية حتى إن حجم الثروة الفردية يقاس بها لدى الكثير من الناس.
«إن إعطاء صلاحية هيكلة الأراضي ونزع ملكياتها وتأجيرها وشرائها، يمنح هيئات التطوير دوراً حقيقياً في اتجاهين: تحقيق أكبر فائدة تنموية ممكنة للمنطقة إلى جانب تسهيل تنفيذ أعمال البنى التحتية، والجزء الأخير يعتبر أهم مسؤوليات هيئات التطوير المختلفة، فلا وجود لبنية تحتية بدون أرض يجري عليها العمل»، يقول الصحافي السعودي فهد صنيدح.
ويضيف: «إن تنظيم الشؤون العقارية والأراضي والملكيات بما يسهل إطلاق التنمية أمر حيوي لاستنهاض الطاقات الكامنة للمناطق، وبخاصة في مجالات السياحة والصناعة والزراعة والبناء والتشييد والاستثمار. ومن المعروف أن المشاريع العملاقة في البنى التحتية هي أكبر سبل إيجاد الفرص الوظيفية وتحسين حياة الأفراد وبقائهم في مناطقهم».
استيعاب الخزانات البشرية
كانت السعودية تتمتع بخصوبة إنجابية مرتفعة، وصلت في السبعينات إلى نحو 7 أطفال للمرأة الواحدة، لكنها واصلت الهبوط مع ارتفاع مستويات التعليم وزيادة مسؤوليات الحياة حتى وصلت مؤخراً إلى نحو طفلين للمرأة الواحدة، لكن معدل تزايد السكان السعوديين لا يزال عند مستوى نصف مليون مولود جديد كل عام.
وتتمتع المناطق الطرفية بمعدلات عالية للنمو السكاني وفرصاً أقل لاستيعاب الخريجين وغيرهم من الباحثين عن فرص أفضل في المدن الكبرى.
«تعد هذه إشكالية في جميع الدول العربية، إذ يزيد عدد السكان في مناطق ليست مولّدة للوظائف، مما يجعل الهجرة الداخلية نحو المدن الكبرى حلاً أمثل للحصول على التعليم والاستمتاع بمستوى حياة أفضل. ويكثر الحديث دوماً عن تريّف المدينة وتمدّن الريف، وهو أمر معقد. إن أي عمل تنموي في المناطق الطرفية، يبقي السكان في أماكنهم، ويحد من الهجرات الداخلية، التي قد يصاحبها وجود كتل سكانية ضخمة على أطراف المدن»، يقول الباحث العربي باسم الأسعد.
إن وجود هيئات تطوير ذات صبغة مناطقية، يوسع دائرة استقطاب السكان المحليين وحصولهم على حصة أكبر من ثروة البلاد؛ دون الحاجة للانتقال بأعداد كبيرة.
«لن تستوعب المناطق الطرفية إيجاد فرص لجميع أبنائها، لكنها تخفف من الهجرات الكبرى. صحيح أن السعودية مهتمة، مثلاً، بزيادة عدد سكان الرياض ليصل إلى 15 مليون نسمة وفقاً لرؤية المملكة 2030، وجعل اقتصادها أحد أكبر اقتصادات المدن حول العالم، وهذا ما يخفف من آثار الهجرة الداخلية، بل استقطاب المهارات والاستثمارات من الخارج، لكنها في الوقت نفسه مهتمة بتنمية الاقتصادات المحلية للمدن الطرفية وغيرها، وجعلها جذابة لأهلها أولاً قبل غيرهم، مما يقلص الفجوات التنموية».
الحيوية الإدارية والشراكات
تواصل السعودية مساعيها في جذب الاستثمارات الخارجية، لكنها في الوقت نفسه لديها إمكانات استثمارية جبارة، ممثلة في صندوق الاستثمارات العامة وغيره من الصناديق والتسهيلات الائتمانية، لذلك نجد أن هناك ممثلاً لصندوق الاستثمارات العامة في مجالس إدارة هيئات التطوير. ويفسر ذلك على التحول من الريعية في تنفيذ المشاريع؛ بمعنى بيع النفط وتوزيع عائداته على البنية التحتية والوظائف الحكومية، إلى تحقيق الفائدة المادية منها.
كما أن نظرة سريعة إلى مجالس الإدارات، يظهر أن معظمها برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أو الوزير المختص إن كانت المنطقة لها ثقل في ناحية معينة كالثقافة أو السياحة مثل هيئة تطوير الطائف التي يرأس مجلس إدارتها وزير الثقافة بدر بن عبد الله بن فرحان، وهو أمر يؤكد على ارتباط جميع الهيئات بالمركز، لكن مع صلاحيات واسعة في المنطقة المستهدفة بالتطوير.
ومن المعروف أن إدارة السعودية الجديدة، تقوم على القياس بالإنجاز أي مؤشرات الأداء الرئيسي (KPI’s)، وهو أمر معتمد حالياً في الهرم الإداري السعودي المدني من الوزارات إلى الهيئات وغيرها من الأجهزة الحكومية، مما يعني أن غير المنجزين أو الفاسدين، ليس لهم مكان أو فرص إضافية.
ويبشر هذا الأسلوب بفعالية وحيوية إدارية أعلى لهيئات التطوير مع التغلب على ممارسات البيروقراطية، الأمر الذي يتيح المزيد من فاعلية التنمية اللامركزية في المملكة وتمكين مولّدات الثروة في المناطق الطرفية بما يسرّع نموها الاقتصادي وتعزيز ثقلها النسبي ومساهمتها في الناتج الإجمالي المحلي السعودي.