ما إن وصلت الباخرة اليونانية إلى إسرائيل تمهيدا لربطها بحقل كاريش وبدء عملية استخراج الغاز منه حتى انشغل لبنان- كل لبنان- بموضوع الترسيم الحدودي وتعدي إسرائيل على المياه الإقليمية اللبنانية وطريقة مواجهة هذا الأمر. وكان نائب أمين عام حزب الله نعيم قاسم قد أعلن استعداده للدفاع عن لبنان إذا ما أعلنت الدولة اللبنانية عن انتهاك سيادتها ولو كلف الأمر مواجهة كبيرة مع إسرائيل.
وفي نفس السياق رأى النواب الجدد «التغيريين» في هذا السجال المستجد في البلد فرصة لتنظيم عراضة «سيادية» تنتهي بوقفة اعتراضية في الناقورة على الحدود بين لبنان وإسرائيل.
كل لبناني تحول إلى خبير في موضوع الغاز والحدود البحرية وأصبح البلد كله منذ وصول الباخرة اليونانية إلى حقل كاريش منصة لإطلاق المزايدات. فمن كان في صفوف «السياديين» تحدوا حزب الله بأن يمنع إسرائيل من استخراج الغاز، في إشارة مبطنة لعجزهم عن مواجهتها بينما من هم في صفوف حزب الله و«المقاومة» أكدوا أنه إذا ما كان هناك من تعدٍ إسرائيلي على لبنان وسيصار إلى الرد مهما كان الثمن.
فجأة استفاقت الدولة اللبنانية متأخرة وطلبت من المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين المجيء إلى لبنان من أجل التفاوض، مع العلم أن الشركة المشغلة لحقل كاريش كانت أعلنت في بيانات صحافية قبل أشهر عن تاريخ قدوم السفينة لربطها مع الحقل والبدء بعملية استخراج وبيع الغاز.
ثم تبين أن تلك الباخرة اليونانية وبحسب تقرير للجيش اللبناني الذي أودعه الرئيس عون لا تعمل ضمن المناطق المتنازع عليها. ويبدو أن الشركات العالمية ترفض التنقيب في المناطق المتنازع عليها قبل وجود تسوية بين لبنان وإسرائيل لما تحويه تلك المغامرة من مخاطر عليها.
وبناء على ما سبق يستنتج المراقب أن لبنان للأسف هو الضحية.. ضحية إهمال الدولة وتقاعسها عن واجباتها في هذا الملف. فليس هناك موقف موحد من الدولة اللبنانية على موضوع الترسيم وكيفية إدارة المفاوضات. لبنان أيضا ضحية النزاعات المذهبية والسلطوية بين رؤساء المجالس والجمهورية حول من يقود مهمة التفاوض مع الأميركيين. وأصلا إهمال الدولة يعود إلى المفاوضات الأولية التي بدأها لبنان مع قبرص حيث لم يكن لدى الوفد خريطة توضح النقاط البحرية اللبنانية، مما عقد لاحقا المفاوضات مع إسرائيل وأسهم في زيادة الضياع الذي ساد بين الخطوط المقترح اعتمادها لترسيم الحدود البحرية بين خط هوف والخط 23 وصولا إلى الخط 29. وفي حين أن الدول المجاورة بدأت باستخراج الغاز وبيعه خاصة للأوروبيين الذين أضحوا بحاجة ماسة له مع اندلاع الحرب الأوكرانية، يمارس اللبنانيون هواية المزايدات وكسب النقاط بعضهم على بعض وهي بالنهاية هواية لا تغني ولا تسمن.
ومن البديهي القول إن أي أخطاء في الحسابات يمكن أن يؤدي إلى حرب بين لبنان وإسرائيل أكثر تدميرا وشراسة من تلك التي جرت في العام 2006 عندما قرر حزب الله خطف جنود إسرائيليين وقررت إسرائيل تغيير قواعد الاشتباك التي عرفت بتفاهم أبريل (نيسان) التي أرساها الرئيس الراحل رفيق الحريري.
على كل الأحوال، لبنان يمتهن تضييع الفرص، وهي آفة عايشها اللبنانيون في كل مراحل هذا البلد لأسباب مذهبية وطائفية أدت إلى ما أدت إليه من أزمات وحروب و شلل. سيتلّهى اللبنانيون بموضوع الحدود والغاز وسيلقي كل سياسي بثقله في هذا المجال محاولا إبراز مواهبه «الوطنية»، و«السيادية» التي يتفوق بها على خصمه، وسيأتي الموفد الأميركي ويذهب فاضي الوفاض وفي هذه الأثناء ستستفيد إسرائيل من الحاجة العالمية للغاز وارتفاع أسعاره عبر استخراجه مع تفاديها على الأرجح العمل في المناطق المتنازع عليها مع لبنان لكي لا تدخل في مواجهة مع حزب الله.
أما لبنان فسيكتفي بالإعلان عن وجود ثورة نفطية في مياهه.