واشنطن: في نيويورك، يوم الاثنين 25 مايو (أيار)، ارتدى هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، والأكاديمي والسياسي الواقعي البارز، أحسن الملابس استعدادا للذهاب إلى حفل عيد ميلاده التاسع والتسعين (ولد سنة 1923). لكن، لم تسمح له صحته بذلك.
وهو في ملابسه الأنيقة، تحدث إلى المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، في سويسرا، وأثار ضجة عالمية وتاريخية لأنه دعا أوكرانيا إلى التخلي عن أجزاء من أراضيها الشرقية لروسيا، وذلك لتقديم ما سماه «الحل الاستراتيجي الواقعي التاريخي».
في الولايات المتحدة، انقسم السياسيون، والأكاديميون، ومعلقو وسائل الإعلام حول رأي كيسنجر، حتى لا يهمل مناقشة تاريخية، خاطب الرئيس الأوكراني زيلينسكي الأميركيين. لم يعارض كيسنجر سياسياً، واستراتيجياً فقط، بل، أيضا، عنصريا.
ذكّر كيسنجر، وهو يهودي مثله، أنه «في سنة 1938، عندما كانت عائلة، السيد كيسنجر، تهرب من ألمانيا النازية، وكان عمرك 15 سنة. وكنت تفهم كل الوضع تماما، لم تقل إنه كان لا بد من التعايش مع النازيين. بدلا من الهروب منهم، وبدلا عن مقاومتهم».
وأضاف زيلينسكي: «الذين ينصحون أوكرانيا بتقديم تنازلات لروسيا، الذين يوصفون بأنهم (شخصيات جيوسياسية عظيمة)، لا يشاهدون الأوكرانيين العاديين. ولا يشاهدون الملايين الذين يعيشون في الأراضي التي يريدون منا التنازل عنها، مقابل سلام وهمى».
فيما يلى رأيان أميركيان متعارضان حول هذا الموضوع:
في جانب، كيسنجر نفسه، في مقتطفات من تصريحاته في دافوس.
في الجانب الآخر، كال توماس، مؤلف وكاتب عمود أميركي محافظ، وبارز.
كيسنجر: «ريال بوليتيك» (سياسة واقعية)
منذ ثماني سنوات تقريبا، عندما ظهرت فكرة عضوية أوكرانيا في حلف الناتو، كتبت أنا رأيا قلت فيه إن الوضع المثالي هو أن تكون أوكرانيا دولة محايدة. أن تكون جسرا بين غرب أوروبا وروسيا. لا هوة بينهما. ولا خط مواجهة شرقيا لتكتل حلف الناتو...
اليوم، أعتقد أن تحقيق هذا الحل ممكن، ومهم، ومفيد، كحل نهائي على طريق المفاوضات المتوقعة، والتي لن تكن سهلة، ولن تكن قصيرة...
من وجهة نظري، يجب أن تبدأ التحركات نحو مفاوضات السلام خلال الشهرين المقبلين، قبل أن يسبب استمرار الحرب في أوضاع خطيرة، سيكون التغلب عليها أكثر صعوبة. أقول هذا وفي ذهني العلاقة النهائية بين روسيا، وجورجيا، وأوكرانيا، في جانب، وغرب أوروبا في الجانب الآخر.
من الناحية المثالية، يجب أن يعود الوضع الجديد إلى الوضع السابق (قبل بداية الحرب). أعتقد أن توسع الحرب لتشمل بولندا، ممكن إذا استمر تدهور الأوضاع الحالي، ولن يجعلها هذا حربا بسبب الحرية والديمقراطية في أوكرانيا. بل سيجعلها حربا ضد روسيا...
يبدو لي أن هذا هو الخط الفاصل المطلوب.
أنا آمل أن الأوكرانيين، الذين أظهروا بطولة مثالية في الحرب مع روسيا، سيظهرون حكمة مثالية، من أجل التوازن في أوروبا، وفي العالم كله.
أعتقد أن أوكرانيا ستكون أقوى قوة تقليدية في أوروبا إذا صارت محايدة. إذا صارت واقعية. ستكون أوكرانيا المحايدة جسراً بين أوروبا الغربية وروسيا. وليس هوة.
يجب على الناس أن ينظروا إلى علاقة أوروبا الغربية بروسيا (وروسيا جزء من أوروبا، ويجب أن لا ننسى ذلك) في المستقبل البعيد. لا في الوقت الحالي، أو المستقبل القريب، حيث تدير التطورات شخصيات لها اعتبارات خاصة، وآراء خاصة...
إذا نظرنا إلي الوضع من وجهة نظر طويلة المدى، يجب أن نتذكر أن روسيا كانت روسيا منذ أكثر من 400 سنة، وكانت جزءا أساسيا من أوروبا.
تأثرت السياسات الأوروبية، خلال تلك الفترة، بروسيا، كما تأثرت روسيا بالسياسات الأوروبية. أحيانا، كانت روسيا مراقبة، لكنها، مرات كثيرة، كانت مشاركة. وفي كل الحالات كانت جزءا من التوازنات التاريخية في أوروبا...
يجب أن تضع السياسات الغربية الحالية في الاعتبار أن استعادة هذا الدور الروسي موضوع هام، ولسبب هام، وهو أن لا تضطر روسيا الأوروبية إلى تحالف أبدي مع آسيا، مع الصين..
توماس: كيسنجر مخطئ
للمرة الثالثة منذ أن أصبح رئيسا، قال جو بايدن في الأسبوع الماضي إنه سيرسل قوات أميركية للدفاع عن تايوان إذا هاجمتها الصين. لكن، هذا هو الرئيس نفسه الذي سحب القوات الأميركية سريعا جدا من أفغانستان. وهو الرئيس نفسه الذي وعد بعدم إرسال قوات إلى أوكرانيا لمساعدتها فى صد الغزو الروسي.
كان عذره هو أن روسيا قوة نووية. لكن، كذلك الصين...
ما هو الفرق؟
الآن، نشهد مزيدا من التنازلات. ها هو وزير خارجيتنا الأسبق، هنري كيسنجر، قال، في خطاب أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، في سويسرا، إن أوكرانيا يجب أن تتخلى عن بعض أراضيها لروسيا من أجل إنهاء الحرب، وتجنب صراع أوسع...
أنا أقول لكيسنجر: أنت مخطئ جدا.
إذا سلمت أوكرانيا أراضيها لروسيا، سوف تغري الرئيس بوتين بالتحرك ضد الدول الأخرى التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، مثل: أستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا.
ماذا قصد كيسنجر عندما قال: سيكون التنازل عن تلك الأراضي «لتجنب زعزعة الاستقرار، ولتجنب صراع أوسع»؟
أريد أن أكرر: إذا استسلمت أوكرانيا، فلن يتوقف بوتين عند أي شيء لغزو المزيد من الأراضي...
إذا كانت هناك فائدة جانبية للحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي فهي أن الرؤساء الأميركيين السابقين، سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين، بالإضافة إلى أكثر أعضاء الكونغرس، كانوا يتفقون على مواجهة روسيا الشيوعية. في ذلك الوقت، عرفت روسيا رأينا الموحد القوى. وساهم ذلك فيما سماه الرئيس رونالد ريغان «السلام من خلال القوة»...
أنا أتفهم مشاعر الذين يقولون إننا لا نستطيع أن نكون رجال شرطة في العالم. وأتفهم مشاعر الذين يقولون إن ديوننا وصلت إلى 30 تريليون دولار، ولم نعد نقدر على الصرف على قوات كثيرة لفترات طويلة.
لكن، وهذه لكن كبيرة، إذا لم يعارض الناس الشر، فسوف ينتشر. إن عدم القيام بأي شيء وغض الطرف عن الشر هو ما سمح لألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية بغزو العالم غربا وشرقا.
بعد الحرب العالمية الأولى، سئم الغرب من الحروب، ومن سفك دماء ملايين الناس. ولهذا، عندما ظهر هتلر، تردد الغرب في مواجهته. وكانت نتيجة هذا التردد مزيدا من الحروب، ومزيدا من سفك دماء الملايين...