جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا، والتداعيات السلبية الاقتصادية والمالية والتجارية الناجمة عنها أوروبيا وعالميا لتؤكد بأن مصادر الطاقة وخاصة الغاز ليست مجرد سلعة تخضع للتبادل التجاري والتعاون الاستثماري، ولكنها تمثل أيضا سلاحا دبلوماسيا قادرا على فرض تواجده بقوة في التفاعلات التي تحدث في مختلف بنيات النظام العالمي سواء ارتدت تلك التفاعلات شكل صراعات وتصفية حسابات، أم كانت موضوعا للمقايضات أو للمساومات والتفاهمات.
لقد برزت أهمية هذا السلاح ونجاعته حين لجأت إليه روسيا كرد مناسب على تشديد العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية الأميركية والأوروبية عليها، وذلك بالتهديد بوقف إمداد دول الاتحاد الأوروبي بالغاز، وفرض شروط جديدة عليها إن هي أرادت استمرار تزويدها بما تحتاجه من هذه المادة الحيوية وأهمها دفع قيمة الغاز بالعملة الروسية الروبل بدلا من الدولار في محاولة لضرب هيبة هذا الأخير على الساحة المالية والتجارية الدولية، انتقاما من الدعم الأميركي لأوكرانيا.
إن موسكو بهذه الخطوة التي أعادت لمادة الغاز موقع الصدارة في دائرة الاهتمامات الدبلوماسية والإعلامية، وجعلتها الموضوع الأبرز لمعظم اتصالات قادة العالم فيما بينهم لم تكن تهدف فقط إلى القيام برد فعل في نطاق مبدأ المعاملة بالمثل على ما اتخذ من إجراءات عقابية ضدها، ولكنها كانت تتوخى بالخصوص إحداث شرخ في الموقف الجماعي الموحد لدول الاتحاد الأوروبي إزاء غزوها لأوكرانيا، إدراكا منها بأن الدول الأوروبية المستوردة لغازها لا تستطيع الاستغناء عنه فورا لأنها أدمنت استهلاكه على مدى سنوات عديدة
وحسب الإحصائيات المتاحة، فإن هذا الإدمان يتمثل في تغطية الغاز الروسي لأزيد من 50 في المائة من الاستهلاك السنوي للدول الأوروبية مجتمعة من هذه المادة المهمة لاقتصادياتها ولتدفئتها. وقد أملته بصفة أساسية عوامل مالية بحتة، إذ مقارنة باستيراد الغاز من مناطق أخرى، فإن الغاز الروسي رخيص التكاليف بسبب قرب آباره من القارة الأوروبية، ووجود بنية تحتية متطورة لنقله لا تحتاج لاستثمارات كبيرة لتجديدها أو صيانتها. ولهذا، ورغم وجود عقوبات، لم يكن مفاجئا إقدام 20 شركة أوروبية على فتح حسابات في بنك غاز بروم لدفع ثمن الغاز الروسي بالروبل.
ومن الواضح أن الإدمان الأوروبي للغاز الروسي هو الذي دفع الرئيس الأميركي إلى التعهد بعدم السماح لموسكو باستخدام هذه الورقة كأداة ترهيب وابتزاز للالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، وذلك خوفا من حدوث تصدع في الموقف الغربي الأطلسي الموحد إزاء العدوان على أوكرانيا، خاصة بعد أن نفذت روسيا تهديداتها جزئيا بالإيعاز إلى شركة غاز بروم بوقف الإمدادات عن بلغاريا وبولونيا.
إن هذا التوظيف السياسي البعيد عن الطابع التجاري المحض غير جديد في العلاقات الدولية، ولا يقتصر على مادة دون أخرى، بل يشمل كافة أنواع الوقود الأحفوري، ويدخل دوما ضمن خيارات صانعي القرار السياسي للعديد من البلدان المنتجة لهذه المواد الحيوية للطاقة، الذين لم يتورع بعضهم في ممارسته بطريقة كيدية فجة وضد منطق الربح المادي كما حصل مؤخرا عندما رفضت الجزائر تجديد عقد أنبوب الغاز القادم من أراضيها في اتجاه أسبانيا مرورا بالتراب المغربي، معتقدة أن قرارها سيشكل ضغطا على المغرب.
ولا شك أن لجوء موسكو على نطاق واسع، وقبلها الجزائر على نطاق إقليمي ضيق إلى تصعيد وتيرة الابتزاز وتحميل تجارة الغاز رسائل سياسية أعاد التذكير مجددا بما حصل إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 عندما قررت الدول العربية المنتجة للبترول حظر تصديره إلى الدول الداعمة لإسرائيل كنوع من التضامن مع مصر وسوريا في معركة تحرير أراضيهما المحتلة.
والواقع أن الحظر العربي الذي كان محدودا، واستثنى بعض الدول، لم يثر فقط انتباه الدول المنتجة لمواد الطاقة لأهمية السلاح الاستراتيجي الذي لديها، ولكنه دق ناقوس الخطر أيضا في العواصم الكبيرة الاستهلاك، التي انطلقت تطور قدرات التخزين، وتنوع مصادر التزود، ناهيك عن تكثيف تمويل الأبحاث العلمية بحثا عن مصادر أخرى بديلة صديقة للبيئة.
وإذا كانت موسكو، التي باتت بوصلتها الأساسية هي مقتضيات أمنها القومي بمفهومه الواسع، قد أعطت لقطاع تصدير الطاقة دورا محوريا في سياساتها العسكرية والخارجية نظرا لاعتمادها عليه في توفير أزيد من 60 في المائة من حاجتها للعملة الصعبة؛ فإن واشنطن التي تجرعت جزئيا مرارة الحظر العربي سنة 1973 طورت سياسة وطنية للطاقة التزم الرؤساء الأميركيون بتنفيذها أيا كان انتماؤهم الحزبي، ومفادها ضمان تزويد أميركا بما تحتاجه من مصادر الطاقة وبأسعار معقولة، وبكل الوسائل الممكنة بما في ذلك التدخل العسكري عند الضرورة.
في هذا السياق يؤكد الكاتب مايكل كليرMichael Klare في كتابه «دم ونفط» (Blood and Oil)على أن الغاية الأولى من إحداث القيادة العسكرية المركزية الأميركية (CENTCOM) تنفيذا لما سمي مبدأ كارتر الصادر في يناير (كانون الثاني) 1980 ليست محاربة الإرهاب، وإنما حماية التدفق العالمي للنفط بوصفه مصلحة للولايات المتحدة، مستشهدا على صحة استنتاجه بما جاء في تدخل للجنرال Binford Peayأمام اللجنة الفرعية للكونغرس في مارس (آذار) 1997 حين أعلن أن «المصالح الحيوية لأميركا في المنطقة المركزية طويلة الأمد، إذ تستورد منها 20 في المائة من حاجياتها، وأوروبا الغربية 43 في المائة واليابان 68 في المائة. لذا يجب أن يتوفر للمجتمع الدولي وصول حر وغير مقيد إلى موارد الطاقة في المنطقة... فأي تعطيل سيشجع ارتفاع الأسعار، ويعجل بكارثة اقتصادية للبلدان المتقدمة والنامية على حد سواء».
في ضوء التمادي في توظيف الغاز كأداة للضغط والابتزاز، ألم يصل العالم في الوقت الراهن إلى حافة الكارثة؟