موسكو: بوريس يلتسين وليس ميخائيل غورباتشوف هو الذي يتحمل بالدرجة الأولى مسؤولية انهيار الاتحاد السوفياتي. قد يكون مثل هذا الإعلان صادما. لكنها الحقيقة، التي توصل إليها كثيرون ممن صاروا يرددونها اليوم صراحة، بعد سنوات طوال من الصمت المثير للجدل، في وقت مواكب لما كشفت عنه الوثائق ومذكرات شهود العيان، من حقائق وأدلة وقرائن وتفاصيل، ومنها ما يتعلق بما شهدته تسعينات القرن الماضي من فضائح وتنازلات، يقف الكثير منها في صدارة ما تواجهه روسيا اليوم من متاعب وأهوال.
شأن الكثيرين من زعماء ذلك العهد، خرج بوريس يلتسين من معطف الحزب الشيوعي السوفياتي، في تاريخه الكثير من الغرائب التي تتوارى معها الدهشة لترسم ملامح شخصية أسطورية، طالما كانت ملء السمع والبصر على مدى ما يزيد على عقد من الزمان. المغامرة والتحدّي من أهم سمات شخصيته. يقولون إن الوطن ترك بصماته عليها، وسيبيريا والأورال يجعلان القناة لا تلين، ومن شبّ على شيء شاب عليه.
العناد في صدر الخصال، والضيم والإساءة لا يغفرهما. أما النسيان، فلم يكن من طباعه، وإن حاول التسامي فوق أحزانه وتناسى خيانة الأصدقاء. مع ميخائيل غورباتشوف صنع الأسطورة، ومن أحزان الصديق نسج سلسلة أفراحه. ومع الرفاق كثيرا ما فضّل الفراق، ومع النظام بدأ رحلته في البحث عن الذات.
أذكر أنني لقيته لأول مرة في ربيع عام 1989، بعد أن عاد إلى الأضواء عضوا في مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي، ليغدو واحدا من أبرز رموز التحدي والمقاومة في كل ربوع الاتحاد السوفياتي. آنذاك، وفي معرض أول لقاء صحافي جرى على هامش مؤتمر نواب الشعب في مايو (أيار) 1989، كشف يلتسين عن عدائه السافر وخصومته المريرة مع يغور ليغاتشيف الرجل الثاني في الحزب والدولة. أعرب عن مودّة خالصة لعدد من أعضاء المكتب السياسي، وفي مقدمتهم نيكولاي ريجكوف، رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي آنذاك. لكن العزم على الانتقام من ميخائيل غورباتشوف لم يكن قد بلغ بعد، الحد الذي تراجعت معه مكانة الدولة ووقارها، بعد أن ضاعت الرؤية لدى من عهد إليه شعبها بمقاليد الحكم في الكرملين.
كنّا نتابعه مودّة وتعاطفا مع رجل ساقته الظروف والأقدار إلى مواجهة أقسى آليات التعسّف والقهر. نسير إلى جانبه في شوارع العاصمة، نستمع إلى كلماته النارية، التي كان يلقيها في الاجتماعات الجماهيرية، دون أن نعي في حقيقة الأمر أن ما يقوله كان برنامج عمل متكامل الأركان، وإن بدا في بعض جوانبه أقرب إلى الشعارات «الشعبوية».
استفاد يلتسين مما رفعه غورباتشوف من شعارات. كانت الغلاسنوست سلاحا سلبه الخصوم منه، فأعاده إلى صدورهم بعد حين. حوله تحلق الرفاق. أناتولي سوبتشاك، الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة لينينغراد، وشغل فيما بعد منصب عمدة المدينة، بعد أن تحوّل اسمها إلى سان بطرسبورغ. غافريل بوبوف، أستاذ الاقتصاد الذي تولى فيما بعد منصب عمدة موسكو، ويوري أفاناسيف، مدير معهد التاريخ التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي، الذي كان أول من رفع لواء الحرب ضد لينين شخصيا ثم ضد سياساته، وجينادي بوربوليس، أستاذ الماركسية اللينينية في جامعة سفيردلوفسك، الذي قاد الحملة الانتخابية ليلتسين في هذه المنطقة، ليعود ويختاره إلى جواره سندا وتكئة في مسيرته صوب الإجهازعلى الاتحاد السوفياتي. ومعهم كان أيضا الأكاديمي أندريه ساخاروف العالم النووي والمنشق السوفياتي الذي لطالما ذاع صيته في الأوساط الغربية.
كان الأصدقاء كثيرين، ومعظمهم من نجوم المجتمع وأساطين السياسة والاقتصاد، ممن شكلوا «مجموعة النواب الإقليمية»، التي قادت جبهة المعارضة ضد غورباتشوف حتى رحيله في نهاية عام 1991.
استمرّت المواجهة بين قطبي الساحة 1500 يوم، أو بقول آخر منذ اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أكتوبر (تشرين الأول) 1987، وحتى الساعات التسع التي استغرقها اللقاء الأخير للخصمين العتيدين يلتسين وغورباتشوف في الكرملين في ديسمبر (كانون الأول) 1991.
كان الخلاف في البداية يتعلق بالتكتيك، لكنه انتهى على نحو مأساوي حين تباينت الرؤية واختلفت الاستراتيجية. ولئن بدا بوريس يلتسين في العامين الأولين كما التلميذ الذي يحاول تبرير أخطائه نظرا لتباين وضعية الخصمين خلال الفترة من 1986 وحتى 1988، فقد تحول إلى موقع مغاير اعتبارا من ربيع عام 1989، استنادا إلى شعبية جارفة مستفيدا من انحسار الأضواء عن زعيم البيريسترويكا التي راحت تلفظ آخر أنفاسها. في ذلك الحين بدأت جولة جديدة من الصراع، وكأنما انتقاما من الجولة السابقة، التي خسرها يلتسين بالنقاط بعد أن كاد يضيع بالضربة القاضية، بلغة هواة الملاكمة.
عاد يلتسين أكثر قوةً وعناداً وإصراراً، على دحض ما سبق وهدده به غورباتشوف. وكان غورباتشوف قد هدّده بقوله: «إنني لن أسمح بعودتك إلى السياسة الكبرى مرة أخرى».
يذكر الكثيرون حكاية أشبه بالقصص البوليسية، شهدت العاصمة بعضا من مشاهدها. وقع ذلك في أكتوبر من عام 1989، حينما ظهر يلتسين مبلل الثياب عند منتصف الليل في أطراف موسكو. آنذاك تحدّث البعض عن محاولة كانت تستهدف اغتياله من تدبير ميخائيل غورباتشوف، فيما روّج آخرون أخبارا تقول بوفاته نتيجة أزمة قلبية. وقد أثارت هذه الضجة الكبرى نقاشا واسع النطاق في السوفيات الأعلى، زاد من حدّته ما نشرته جرائد محلية وعالمية حول سلوك يلتسين خلال أول زيارة يقوم بها في الولايات المتحدة الأميركية ومنه ما حاول التلفزيون، من خلال فيلم تسجيلي لرحلته، تصويره على نحو بدا فيه مخمورا، لا يعي الكثير مما يدور حوله. وعقد السوفيات الأعلى جلسة خاصة تحدث فيها فاديم باكاتين وزير الداخلية في ذلك الحين، حيث أشار إلى أن يلتسين تقدّم عند منتصف ليل 28 سبتمبر (أيلول) 1989 ببلاغ شفهي إلى نقطة حراسة الضياع والبيوت الريفية (الداتشا) الخاصة بكبار رجال الحزب والدولة، في أطراف موسكو، يقول فيه إنه تعرّض لمحاولة اغتيال. قال باكاتين أن يلتسين «ظهر مبلل الثياب، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وفي حالة غير طبيعية»، ليخبر الشرطة بأنه «فوجئ بمجهولين يقطعون الطريق عليه، ويلقون على رأسه بجوال، حملوه فيه بعيدا، حيث ألقوا به من فوق الجسر إلى مياه النهر. غير أنه استطاع السباحة حتى الشاطئ، حيث التقط أنفاسه، واستعاد بعض قواه». وبعد أن تناول يلتسين الشاي الساخن الذي قدّمه إليه رجال الشرطة الذين ساعدوه على عصر ملابسه، طلب عدم إبلاغ المسؤولين بما حدث. وحين اتصل رجال الشرطة بالمنزل الذي كان يلتسين يقصده، اكتشفوا أن أصحابه في المستشفى منذ أيام، وأن «الأمر لم يكن يتعدى مغامرة نسائية لم تكتمل»! مشهد بسيط من مشاهد «مخجلة» كثيرة عاد رفيقه وصديقه وحارسه الشخصي ألكسندر كورجاكوف إلى سرد الكثير منها في كتابه الذي اختار له عنوان «غروب رئيس»، قام بنشره انتقاما من يلتسين بسبب طرده من منصبه، بإيعاز من رموز الليبرالية الجدد ممن وضعوا ذلك شرطا لاستمرارهم في تنظيم حملته الانتخابية لفترة ولاية ثانية عام 1996.
نعود إلى تلك الواقعة المخجلة لنشير إلى أن وزير الداخلية فاديم باكاتين أكّد أن التحريّات أثبتت عدم صحّة الرواية، ما دفع يلتسين إلى التراجع وطال وقف التحقيق فيما جرى، مؤكدا أن أحدا لم يحاول اغتياله، إلا أنه لم ينف واقعة زيارته للمنطقة. وبلغت الأزمة حدّا أقرب إلى العبثية، تداخلت فيها كل الأطراف، وإن حدد ملامحها وزير الداخلية الأسبق بقوله إن «يلتسين يعتمد في شعبيته على ثلاثة أسس، أولها انتقاد السلطة، وثانيها تصوير نفسه وكأنه ضحية هذه السلطة، فيما ينحصر ثالثها في الاستفادة من جماهيرية شعاراته التي كثيرا ما لقيت رواجاً في الساحة السوفياتية».
حاول ميخائيل غورباتشوف العثور في أعضاء مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي على البديل الذي قد يستطيع الاعتماد عليه عوضًا عن رفاق الحزب السابقين، وبما يكفل له الانفراد بمقاليد السلطة بعيدًا عن رؤساء الجمهوريات «المتمردة»، وبينهم غريمه التاريخى بوريس يلتسين. وإدراكًا من جانبه لأن الدستور السوفياتي يعطي كل الجمهوريات الاتحادية حق الانفصال عن الاتحاد السوفياتي كان عليه البحث عن سبيل يقضُّ من خلاله مضاجع رؤساء هذه الجمهوريات وفي مقدمتهم رئيس روسيا الاتحادية يلتسين الذي رفع لواء التمرد عليه. وفي هذا الإطار كان اقتراح غورباتشوف برفع مستوى الجمهوريات ذات الحكم الذاتي إلى وضعية الجمهوريات الاتحادية، بما يكفل لها المشاركة على قدم المساواة في الاجتماعات المكرسة لصياغة المعاهدة الاتحادية الجديدة، وهو ما كان يعني بطبيعة الحال خروج 16 جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي داخل روسيا الاتحادية عن طوع رئيسها يلتسين، وهي التي تشغل ما يزيد على 51 في المائة من مساحة روسيا الاتحادية وتملك قرابة ثلثي ثرواتها من النفط والغاز وغيرهما من مصادر الثروة الطبيعية.
ولذا لم يكن غريبًا أن يجلس عشرون من رؤساء هذه الجمهوريات ذات الحكم الذاتي جنبًا إلى جنب مع رؤساء الجمهوريات الاتحادية ممن قبلوا دعوة ميخائيل غورباتشوف لمناقشة الصيغة المقترحة للمعاهدة الاتحادية الجديدة في صيغة نوفواوجازيفو بضواحي العاصمة الروسية. وكان غورباتشوف قد نجح في السابق من خلال قانون أصدره بمجلس السوفيات الأعلى للاتحاد السوفياتي بتاريخ 26 أبريل (نيسان) 1990، في استمالة هذه الجمهوريات بإقرار مساواتها في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع الجمهوريات الاتحادية. وقد حرص أنصار يلتسين على التلويح بهذا القانون باعتباره دليلًا على توجهات غورباتشوف «المعادية» ليلتسين والذي لم يكن تولى منصب رئيس السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية، وذلك يعنى أن تنفيذ مثل هذا القانون كان ضربة موجهة ضد روسيا الاتحادية على حد قول سيرغي شاخراي نائب رئيس الحكومة الروسية والساعد الأيمن ليلتسين في مباحثاته مع أنصار انهيار الاتحاد السوفياتي. ونذكر أنه قال إن مثل هذا التوجه يعني عمليًا انهيار روسيا كدولة اتحادية!!
وأشار أيضًا إلى أن ذلك كان واحدًا من أهم المبررات التي استندت إليها القوى الديمقراطية لدى إعلانها «سيادة روسيا الاتحادية» في 12 يونيو (حزيران) 1990 وهو الإعلان الذي بدأت منه مسيرة الاستقلال والانفصال عن الاتحاد السوفياتي. وهو ما عاد ليؤكده بعد سنوات في قازان عاصمة تتارستان بمقولته الشهيرة «خذوا من الاستقلال ما تستطيعون بلعه»، في محاولة لاستمالة تتارستان، والحد من انفجار الحركات الانفصالية على غرار ما أعلنته الشيشان في شمال القوقاز.
استفتاء مارس والتمسك بالاتحاد السوفياتي
اتسعت هوة الخلافات بين يلتسين وغورباتشوف، بعد أن كشف الأول عن رغبته الحقيقية في التخلص من الثاني لإرواء ظمأ تعطشه الانفراد بالسلطة في الكرملين. وفي محاولة لتدارك مخاطر توجهات يلتسين، وللحيلولة دون انفراط عقد الدولة والحد من التوجهات الانفصالية لدى العديد من قياداتها المحلية، أعلن ميخائيل غورباتشوف في 16 يناير (كانون الثاني) 1991 عن مرسومه بشأن الاستفتاء الشعبي حول رأي الشعب في «بقاء الاتحاد السوفياتي كدولة اتحادية في إطار مغاير»، وهوالاستفتاء الذي جرى في 17 مارس (آذار) 1991، وأسفرت نتيجته عن تأييد الأغلبية الساحقة بنسبة تزيد على 76 في المائة لبقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية.
ودون أن يدري، أو نزولا على إرادة رفاقه في سدة القيادة ممن كانوا على مقربة منه كما كشف بعضهم في وقت لاحق، قرر غورباتشوف القيام بإجازته الصيفية مع عائلته في شبه جزيرة القرم على ضفاف البحر الأسود، في منتجع فوروس، حيث جرت بعض مشاهد المأساة التي انتهت عمليا بانهيار الاتحاد السوفياتي.
في الرابع من أغسطس (آب) عام 1991 سافر ميخائيل غورباتشوف إلى منتجع فوروس، بعد أن بدا على يقين من نجاح مشروعه حول إعادة بناء الاتحاد السوفياتي من خلال صياغة جديدة للمعاهدة الاتحادية التي حاول من خلالها احتواء سخط الجمهوريات الاتحادية واستمالتها إلى توقيع المعاهدة بما يكفل الإبقاء على الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية. لم يكن يدور بخلد الرئيس أن نائبه جينادي يانايف، سيكون في طليعة المنقلبين عليه. وكان ترك له بعض مقاليد القيادة مع رفاقه ممن عمل معهم طوال عشرات السنين دون أن يدري ما يدبره هؤلاء الرفاق، وإن كان منهم من قال إن غورباتشوف كان على علم بخطتهم حول إعلان حالة الطوارئ التي استهدفوا من خلالها الحفاظ على وحدة الدولة، على اعتبار أن المعاهدة الاتحادية الجديدة التي صاغها مع عدد من رؤساء الجمهوريات الاتحادية، تفتح الباب عمليا أمام انفراط عقد الاتحاد السوفياتي.
وأذكر أن أناتولي لوكيانوف رئيس السوفيات الأعلى للاتحاد السوفياتي أكد لنا في جلسات طويلة في مسكنه بقلب العاصمة موسكو عقب خروجه من السجن الذي قضى به ما يزيد على العام قبل العفو عنه بتهمة المشاركة في انقلاب أغسطس، أن غورباتشوف كان على علم بخطة يانايف وأعضاء لجنة الدولة للطوارئ التي تزعمت الانقلاب في 19 أغسطس 1991. وكنا قد خلصنا إلى أن ما كشف عنه غورباتشوف فيما بعد في كتابه «الانقلاب» الذي توليت ترجمته إلى العربية عقب صدوره في سبتمبر 1991 وجرى نشره على حلقات في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، يؤكد احتدام الخلافات في النسق الأعلى حول مستقبل الدولة الاتحادية وتزايد المخاوف تجاه احتمالات انفراط عقدها، بعد جنوح الكثير من الزعماء ومنهم رئيس أوكرانيا ليونيد كرافتشوك، نحو الابتعاد عن الدولة الاتحادية، بمباركة غير مباشرة من رئيس روسيا آنذاك بوريس يلتسين، ولامبالاة ترقى حد الدعم والتأييد من جانب رؤساء لاتفيا وليتوانيا وإستونيا التي أفصحت صراحة عن أنها لا تعتبر نفسها جزءًا من الاتحاد السوفياتي، إلى جانب جورجيا التي كانت أول من أعلن استقلاله عام 1990.
وقد أكد غورباتشوف المعنى نفسه تقريبا في كتابه «الحياة والإصلاحات» الذي كشف فيه عن تواطؤ بوريس يلتسين مع المتطرفين من ممثلي اليسار واليمين معا، الرافضين للمعاهدة الاتحادية، وهو ما يفتح الباب أمام مختلف التأويلات حول جدية الانقلاب.
اعترافات كثيرة أودعها الكثيرون ممن كانوا على رأس السلطة في الاتحاد السوفياتي السابق، تؤكد أن الانقلابيين دبروا حركتهم من منظور الصراع حول السلطة بما يكفل لهم الإبقاء على مناصبهم قبل توقيع المعاهدة الاتحادية، التي سبق وقال غورباتشوف إنها كانت تستهدف ضمنا تغيير شكل السلطة. ولعل استعراض ما كتبه غورباتشوف في كتابه «الانقلاب» يكون أكثر مناسبة لاستيضاح وجهة نظره التي حملناها إلى منظر الانقلاب أناتولي لوكيانوف رئيس السوفيات الأعلى للاتحاد السوفياتي حتى عام 1991 في محاولة للبحث عن الحقيقة.
فماذا قال لوكيانوف؟
فى غرفة مكتبه الأنيقة المتواضعة بعمارة كانت مخصصة لسكنى قيادات الحزب والدولة في قلب العاصمة، جرى حديثنا في رحاب آلاف الكتب التي كان الشعر يشغل بينها موقع الصدارة. جلسنا نتبادل أطراف ذكريات عهد ومرحلة قبل أن تتلمس أناملي جهاز التسجيل. تدفق حديثه سلسا عذبا عن ذكرياته بقاموس شاعر تناول عددا من لقطات ومشاهد التاريخ القريب، ومنها ما تعلق بقصته مع الرئيسين السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، والروسي بوريس يلتسين:
- إن عملية تفكك الدولة السوفياتية تدريجيا، بدأت مع إضعاف دور الحزب ومبادئ قيام الدولة. وعمد البعض من رؤساء الجمهوريات الاتحادية وأيضا الذاتية الحكم تحت ستار السيادة السياسية والاقتصادية والثقافية، إلى حماية كوادرهم وقادتهم ونخبتهم من قرارات المركز، استنادا إلى أخطاء الإفراط والمغالاة في المركزية التي لطالما تفاقمت إبان سنوات الاتحاد السوفياتي السابق. وذلك إلى جانب عدم مراعاة بعض الخصائص الثقافية والقومية واللغة وبعض مصالح القوميات وغير ذلك من سلبيات ذلك الحين.
ومضى لوكيانوف ليقول: «تمثلت نقطة بداية تفكك الاتحاد السوفياتي في مصادقة المؤتمر الأول لنواب الشعب في روسيا على بيان (سيادة روسيا)، وبهذه الصورة تزعزعت الأركان الأساسية التي كان يقوم عليها الاتحاد السوفياتي. لقد حدث هذا في أواسط عام 1990 (12 يونيو/ حزيران 1990). وآنذاك قلت لغورباتشوف حين خرجنا من قاعة المؤتمر بعد المصادقة على البيان إن هذه هي نقطة البداية التي سيعقبها الانهيار السريع للاتحاد السوفياتي».
واستطرد لوكيانوف ليشير إلى ما جرى على صعيد إعداد المعاهدة الاتحادية الجديدة وما تخلل ذلك من مواجهات شخصية وصفها لوكيانوف بالعنيفة بين غورباتشوف ويلتسين، وبين غورباتشوف وكرافتشوك. آنذاك حاول غورباتشوف معالجة القضية في لقاءات نوفو أوجاريوفو (ضيعة الرئاسة في ضواحي موسكو) باستغلال العلاقات الشخصية بعد فشل كل المحاولات التي جرت للحيلولة دون انفراط عقد الدولة الاتحادية.
على أن هناك مراقبين كثيرين آخرين توقفوا عند ما انفرد الرئيس يلتسين باتخاذه من قرارات رئاسية دون مشورة بقية رؤساء الجمهوريات السوفياتية الأخرى خلال فترة المحاولة الانقلابية، على اعتبار أن ذلك كان محاولة للاستثمار في السلطة المركزية، الأمر الذي كان سببا في توالي إعلان كل الجمهوريات السوفياتية عن استقلالها دون الرجوع إلى المركز، ودون اعتبار لنتيجة الاستفتاء الشعبي وما أسفرت عنه من موافقة الأغلبية الساحقة من المشاركين فيه على بقاء الاتحاد السوفياتي.
سولجينيتسين يحذر يلتسين من التفريط في القرم والدونباس
يتوقف المراقبون طويلا أمام اندفاعة بوريس يلتسين غير المدروسة تجاه تأييد النزعات الانفصالية لدى الكثير من الجمهوريات السوفياتية، حسب ما أشرنا إليه عاليه، في الوقت الذي أعرب فيه كثيرون عن مخاوفهم من تفريط رئيس روسيا الاتحادية في الكثير من ثوابت سيادة الدولة السوفياتية ثمنا لما يحاول الحصول عليه من دعم وتأييد في معركته مع غريمه التاريخي، فضلا عن سقوطه في شرك الهرولة صوب الانفراد بالسلطة في روسيا أكبر الجمهوريات السوفياتية، بكل ما يمكن أن يسفر ذلك عنه من مكاسب ذاتية. وقد أشرنا في معرض استعراض الأوضاع السياسية والاقتصادية في الاتحاد السوفياتي، إلى تقاربه مع ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا، ونور سلطان نزاباييف رئيس كازاخستان ورؤساء دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) وهي الجمهوريات التي جرى ضم الكثير من الأراضي الروسية التاريخية إليها في مناسبات مختلفة ومن منظور مبررات متباينة.
وذلك ما أثار الكثير من الشكوك والمخاوف لدى الكثيرين من رموز التيارات الوطنية والقومية الروسية ومنهم ألكسندر سولجينيتسين الأديب السوفياتي المعروف الحائز على جائزة نوبل للآداب الذي سبق وقامت السلطات السوفياتية في عام 1974 بعد سنوات طويله قضاها في سجون سيبيريا عقابا على نشره روايته الوثائقية حول الحياة في سجون الجولاج، بتجريده من الجنسية السوفياتية وطرده إلى سويسرا التي انتقل منها إلى الولايات المتحدة.
وكان بوريس يلتسين وفي محاولة من جانبه إلى استمالة كل خصوم الماضي السوفياتي، كتب إلى سولجينيتسين لإعلانه بإلغاء ذلك القرار الجائر، كمقدمة لعودته إلى أحضان الوطن.
ولكم عقدت الدهشة ألسنة الكثيرين ممن اطلعوا على رد الأديب العالمي على رسالة الرئيس الروسي الأسبق، لما تضمنته من رؤية استباقية للأسباب التي تقف في صدارة ما يجري اليوم وبعد ثلاثين عاما من تحرير هذه الرسالة، من أحداث دموية تكاد تكون سببا في احتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة، ومنها مشكلة الأراضي التاريخية الروسية في القرم والدونباس التي قامت روسيا باستعادتها بالقوة العسكرية في حربها مع أوكرانيا.
«عزيزي بوريس نيكولايفيتش!
أنتهز هذه الفرصة (الموثوق منها) لتسليم هذه الرسالة إليكم. وإذ أعرب عن إعجابي بشجاعتكم وكل من معكم في تلك الأيام والليالي، أسجل فخري بأن الشعب الروسي قد وجد في نفسه القوة لينفض عن كاهله أكثر الأنظمة الشمولية، والأشد عنادًا والأطول أجلا على ظهر البسيطة. الآن فقط، وليس منذ 6 سنوات (تاريخ بداية البيريسترويكا وعهد غورباتشوف)، يبدأ التحرر الحقيقي لشعبنا، وما يتوالى من أصداء لإيقاظ الجمهوريات النائية.
أنتم الآن في خضم الأحداث والقرارات العاجلة، بما تبدو معه كل الأشياء مهمة. ولذا أتجاسر على اقتحام عالمكم بمثل هذه الرسالة، نظرا لأن هناك من القرارات التي يتعذر تصحيحها فيما بعد. ولحسن الحظ، وبينما كنت أباشر كتابة هذه السطور، أبلغتموني بالفعل أن روسيا تحتفظ لنفسها بحق إعادة النظر في حدودها مع بعض الجمهوريات التي في سبيلها إلى الانفصال. وهذا يتعلق على نحو خاص بحدودها مع أوكرانيا وكازاخستان، التي قام البلاشفة بإعادة رسمها بشكل تعسفي. فلم تكن في يوم ما، الأراضي الشاسعة في جنوب جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية الحالية (نوفوروسيا) والعديد من الأماكن على الضفة اليسرى، جزءًا من أراضي أوكرانيا التاريخية، ناهيك عما ارتكبه خوروشوف من نزوات تجاه شبه جزيرة القرم (التي قرر إهداءها إلى أوكرانيا). وإذا كان هناك من يقوم خلال الفترة الأخيرة بإزالة النصب التذكارية للينين في لفوف وكييف، فلماذا إذن يتمسكون ويضفون القدسية على الحدود اللينينية المزيفة التي تم رسمها بعد الحرب الأهلية انطلاقا من اعتبارات تكتيكية كانت تتعلق بتلك اللحظة؟ أشير أيضًا، إلى جنوب سيبيريا، وما تعرض له بسبب انتفاضة عام 1921، وكذلك إلى ما حاق بقوزاق الأورال وسيبيريا، من جراء مقاومتهم للبلاشفة، ما أسفر عن فصلهم بالقوة عن روسيا وضمهم إلى كازاخستان.
ولذا أسارع بأن أطلب منكم الدفاع عن مصالح هؤلاء الملايين ممن لا يريدون الانفصال عنا على الإطلاق. عليكم وبكل ما تملكونه من نفوذ وسطوة، اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة حتى يتم إجراء الاستفتاء في أوكرانيا في أول ديسمبر بحرية تامة، دون أي ضغوط (هذا ممكن جدًا!)، ودون تزوير للأصوات، من أجل مراعاة نتائج التصويت بشكل منفصل في كل منطقة على حدة: بما يعني ضرورة أن تقرر كل منطقة بنفسها حدود المكان الذي يتبعها. وقد تتعالى الأصوات تحذيرا: (إنها الحرب)! كلا، إنه التصويت الحر، ويجب على الجميع الانصياع إلى نتيجته.
نعم، لقد سارع المجلس اللينيني المخادع لمفوضي الشعب، وكمقابل للسلام والاعتراف بنظامه، (2 فبراير/ شباط 1920) بإعطاء إستونيا قطعة من أرض بسكوف القديمة مع مزارات بيتشيرا وإيزبورسك، ونارفا التي يسكنها كثير من الروس. والآن، فاننا بقبولنا انفصال إستونيا دون تحفظ، نواصل بذلك تكريس خسارتنا هذه أيضًا. (هل يكون الميعاد قد فات؟ هل ما زال بالإمكان إصلاحه؟)
وكنت قد كتبت بالفعل في مقالي تحت عنوان (إعادة ترتيب البيت) قبل عام، أنني لست معارضًا لانفصال الجمهوريات الاتحادية، بل إنني أعتبر ذلك أمرًا مرغوبًا فيه من أجل تطور وتنمية الاتحاد الروسي على نحو صحيح. لكن الاتحاد الفيدرالي هو تعاون حي وحقيقي للشعوب في دولة متكاملة. لكن (كونفدرالية الدول المستقلة) السياسية الناشئة الآن كيان مصطنع، وهراء سوف يتحول عملياً إلى ما هو أقرب إلى (كومنولث الأمم) بالنسبة لبريطانيا، بما يمكن أن يشكل عبئا على كاهل روسيا.
ولعله من الأكثر إلحاحا، بوريس نيكولايفيتش! بل إنه لأمر بالغ الخطورة الآن بالنسبة لروسيا تعجل قبول بعض المشاريع الاقتصادية غير الواضحة تمامًا التي من الممكن وكمقابل إعانات خارجية مغرية سريعة، سوف تتطلب الانصياع التام لبرنامج المانحين، وبما يحرمنا من استقلالية القرارات الاقتصادية، وما سوف يعقبه تكبيلنا ولسنوات عديدة مقبلة بديون لا تعد ولا تحصى. أخشى أن يكون هذا هو برنامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإعادة الإعمار (المعروف لنا تحت اسم خطة يافلينسكي). لقد وقعت أميركا اللاتينية وبولندا في قبضة الديون، لكن ديونها جرى إسقاطها لأسباب تعود إلى أنها لا تمتلك ما يمكن مصادرته وفاءً لسداد هذه الديون. لكن روسيا لن تجد من يغفر لها، وسوف يقومون بحرث باطن أراضينا التي لطالما عانت الكثير. وبعد ذلك، وما إن تسقط روسيا في شرك التبعية الاقتصادية الخارجية، فإنها لا بد وأن تسقط حتما في شرك التبعية السياسية. تساورني المخاوف من مثل هذا المستقبل لبلدنا. وأنا أطالبك بكل الصدق: لا تسمح لأحد بالانسياق إلى قبول مشروع يحاولون فرضه لذاته، فلتصدروا تعليماتكم بضرورة التمعن في دراسته، مع ضرورة دراسة المشاريع البديلة. وعلى سبيل المثال، عليكم توفير خطة لتنشيط الاحتياطيات الداخلية للبلاد، مما يسمح لنا بالاستغناء عن القروض الخارجية، وهي الخطة التي تلقى دعما من جانب ميلتون فريدمان، أحد أهم الشخصيات النافذة في عالم الاقتصاد الغربي.
أشد على يديك. وأرجو نقل تمنياتي الطيبة بموفور القوة والصحة إلى إيفان ستيبانوفيتش سيلايف (المكلف آنذاك بمنصب القائم بأعمال رئيس الحكومة السوفياتية).
ألكسندر سولجينيتسين 30 أغسطس 1991».
ورغما عن كل الوضوح الذي اتسمت به رسالة سولجينيتسين في تحذيره ليلتسين من مغبة التفريط في الأراضي التاريخية لروسيا ومنها ما يتعلق تحديدا بالقرم والدونباس، فقد كانت هذه المناطق أول ما راحت ضحية التنازلات الروسية من أجل ترضية الرئيس الأوكراني ليونيد كرافتشوك، وهو ما سبق وأشار إليه الرئيس بوتين في أكثر من مناسبة، وكانت آخرها رسالته حول الأصول التاريخية المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني التي نشرها في يوليو (تموز) 2021، وعاد ليستشهد بها في خطابه الذي استبق به «العملية العسكرية الروسية الخاصة» في أوكرانيا في 24 فبراير من العام الجاري. بل ومضى يلتسين إلى ما هو أبعد حين وقع مع نظيريه الأوكراني والبيلاروسي اتفاقيات بيلوفجسكويه بوشا في 8 ديسمبر 1991، وبادر بالاتصال بالرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب ليبلغه بذلك، قبل إبلاغ الرئيس السوفياتي نفسه، وهو ما وصفه غورباتشوف بـ«العار»، وكاد يكون سببا في شجار شخصي بين يلتسين وغورباتشوف داخل مكتبه بالكرملين.
نزارباييف يحكي قصة «شجار» غورباتشوف ويلتسين
في حديثه إلى القناة الإخبارية الرسمية للتلفزيون الروسي بمناسبة الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفياتي قال نور سلطان نزارباييف الرئيس السابق لكازاخستان، إنه وصل إلى الكرملين للقاء الرئيس غورباتشوف، وفي مكتب رئيس الاتحاد السوفياتي قال إنه كان شاهدا على ما كاد يتحول إلى شجار بالأيدي. فقد وصل يلتسين بعد طول معاناة ومخاوف من تبعات اللقاء، ليداهمه غورباتشوف بسلسلة من الاتهامات والتساؤلات بدأها بقوله:
هل تدري ماذا فعلت؟ حسنا.. ماذا تريد؟ وما قولك إزاء مصير الأسلحة النووية. وماذا عن القوات المسلحة السوفياتية الموحدة؟
ومضى نزارباييف ليقول إن يلتسين استدار في إشارة إلى اعتزامه مغادرة المكتب قائلا:
«هل ترتب لي استجوبا؟».
وهو ما رد عليه غورباتشوف بقوله:
«أنا لا أستجوبك. أنا اسأل.. أجب عن سؤالي.. فأنا لا زلت رئيسا للاتحاد السوفياتي».
وهنا عاد يلتسين ليتقدم عدة خطوات في اتجاه مكتب الرئيس غورباتشوف وأشار إليه قائلا:
«نعم الآن أنت الرئيس.. لكنني على هذا الكرسي، قريبا سوف أجلس».
هكذا صراحة ولأول مرة يكشف يلتسين عن نواياه وطموحاته بكل الصراحة والوضوح .. لقد كان الهدف من اتفاقيات بيلوفجسكويه بوشا هو التخلص من غورباتشوف والانفراد بالحكم، وكأنما ردا على ما سبق وهدده به غورباتشوف بأنه لن يسمح له بالعودة إلى السياسة الكبرى، لدى اتخاذ قرار طرده من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي في عام 1987.
وللقصة بقية نواصلها في الحلقة التالية بما تتضمنه من تفاصيل خلافات يلتسين مع سولجينيتسين، ورفض الأخير تسلم تكريمه بأعلى أوسمة الدولة من يد يلتسين، فضلا عن مفردات ما خفي من تفاصيل قصة صعود الرئيس الحالي فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم في الكرملين مع نهاية عام 1999 بمساعدة عدد من رموز أوليجاركيا ومنهم الملياردير اليهودى الروسي رومان إبراموفيتش، وانقلابه على كل تراث يلتسين بما ارتكبه الرئيس الأسبق من أخطاء وخطايا خلال تسعينات القرن الماضي.