بيروت: طوى اللبنانيون صفحة الانتخابات النيابية، وعادوا إلى الانغماس في معاناتهم اليومية حيث تستفحل الأزمات المعيشية، في ظل انهيار غير مسبوق لليرة اللبنانية أمام الدولار، مترافق مع ارتفاعات جنونية لأسعار المحروقات والسلع اليومية.
«راحت السَكْرة وإجت الفًكْرة»، مقولة شعبية لبنانية تنطبق على واقع مواطنين استفاقوا من نشوة ما حققوه على صعيد نتائج العملية الانتخابية، ليصطدموا مجدداً بصعوباتهم الحياتية المثقلة بالأزمات، يُضاف إليها قضايا مصيرية منتظرة، ورهانهم يبقى على من فازوا بأصواتهم، أي قوى التغيير من المجتمع المدني والمعارضين لحزب الله وحلفائه ، ليكونوا حَمَلة مشعل الدفاع عن حقوقهم ومعالجة مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى مواجهةعرقلة محتملة لثلاث محطات ستُحدد مستقبل البلاد.
تُنذر المؤشرات بأن المعركة ستكون محتدمة تحت قبّة البرلمان، فسلسلة تحديات معقّدة وصعبة ستعترض القوى التغييرية في التصدي لمحاولات طرف، على الرغم من أنه خسر الأكثرية، إلا أنه لن يُسلّم راية الحكم بسهولة، وسيستخدم كل السبل لتعطيل إنجاز الاستحقاقات المرتقبة ما لم تتناسب مع أجندته، وسط تخوّف من شلل سياسي، بدلاً من أن تكون الأولوية للنواب المنتخبين مجتمعين هي مواجهة الانهيار الذي قد يُولّد الانفجار، في حال استحكم الفراغ في البلاد.
ستكون انطلاقة المرحلة المصيرية مع انتخاب رئيس للبرلمان ، يليها تشكيل حكومة جديدة، ومن ثم انتخابات رئاسية بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، إلا أن العبور من استحقاق إلى آخر سيتخلّله مطبّاتعدّة قد تحول دون حصولها وفق الأطر المتعارف عليها، فالكباش حتميّ في الصراع بين مشروعيالدولة والدويلة.
بدأ البرلمان الجديد ولايته في 22 مايو (أيار) الحالي، وسيكون أمامه مهلة 15 يوما لانتخاب رئيس له، وهو منصب يشغله رئيس حركة أمل نبيه بري منذ عام 1992، وهو المرشّح الوحيد ولا بديل عنه لفريق بدأ استخدام التهديد والوعيد، فيما أعلن التغييريون والمعارضون الآخرون، أنهم لن ينتخبوه رئيساً للبرلمان، ما يفتح الباب أمام مبارزة قد تُعرقل العبور نحو الاستحقاق الثاني وهو تشكيل الحكومة، إذ إن حكومة نجيب ميقاتي باتت بحكم تصريف الأعمال، والأولوية تُحتّم الإسراع في تسمية الرئيس المكلّف لتشكيل الحكومة للحد من تداعيات قد تحول دون الولوج في الإصلاحات المطلوبة لانتشال البلد من كبوته، فيما سيكون انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً لميشال عون، هو الاستحقاق الأصعب، فما هو مصير تلك الاستحقاقات؟
المخاض عسير.. وأفق الاستحقاقات مسدود!
هل ستُترجم نتائج الانتخابات بالأفعال خلال الأشهر المفصلية التي تنتظر لبنان؟ وهل ستحكم قبضة التعطيل رحلة الاستحقاقات لتصبح في مهب التمييع؟ وهل الطريق معبّد للتغيير؟ أسئلة ستُحدد الإجابات عليها التطورات على الساحة اللبنانية التي، وبحسب ما أوضحه مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتجية المحلل السياسي سامي نادر لـ«المجلة»، «شهدت انتخابات أفضت إلى معادلة موازين قوى سياسية جديدة، فالأكثرية انتقلت من جهة إلى أخرى بخسارة محور حزب الله وحلفائه الذي فرض، بالإضافة إلى سيطرته الميدانية، السيطرة على المؤسسات من خلال الأغلبية في البرلمان والحكومة منذ 2018».
ولفت إلى أنه «بالرغم من فقدان الحزب للسيطرة على المؤسسات، فإنه لا يزال يمتلك القدرة على التعطيل التي ترجمها في 2005 و2008 عندما أرسى طريقة حكم بالقوة قائمة على الحكومات الوطنية والثلث المعطل».
وجزم بأنه «على الرغم مما حمله الاستحقاق الانتخابي، فالعودة إلى مشروع الدولة وانتظام عمل المؤسسات قد لا يسلك طريقه»، مشيراً إلى أن «الانتخابات على الرغم من أنها أثبتت أن المجتمع لا يزال حياّ ويرفض الهيمنة، إلا أنها عمّقت الانقسامات والتباينات، فالمؤشرات تُنذر بأن لا تشكيل سريعا للحكومة التي سيتم ربطها بانتخاب رئاسة الجمهورية، ما يعني أن كل الاستحقاقات الدستورية قادمة على أفق مسدود».
وعن كيفية الخروج من المأزق، لفت نادر إلى أن «ذلك يتطلب قوة ضاغطة من الداخل عبر النواب الجدد داخل المؤسسات وخارجها عبر تظاهرات وضغط شعبي، وكذلك بمواكبة خارجية من خلال الضغط الدولي الذي لم يعد لديه حجة بأن النواب المنتخبين هم موالون لإيران، وبالتالي الحوار يجب أن يكون مع الممثلين الجدد للشعب اللبناني».
وشدد على أن «المجتمع الدولي بات لديه دافع إضافي للضغط باتجاه الإصلاحات المطلوبة، والتي في حال تم تنفيذها، ستُغيّر وجه النظام، فنظام المحاصصة قد تفكك ولا يمكن إنقاذه ولا يجب تعويمه عبر مساعدات من دون إصلاحات».
وعن رؤيته للمرحلة المقبلة، أبدى نادر خشيته من أن «الفترة القادمة صعبة والمخاض عسير مشابه لما حصل في العراق حيث فازت قوى مناهضة لإيران ومُنعت من تشكيل حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية، وسط محاولات لفرض حكومة وحدة وطنية التي تعني سيطرة الأقلية».
وفي موضوع انتخابات رئاسة البرلمان، أوضح نادر أنه «يمكن أن يجدوا لها فتوى، ومن الممكن أن ينتخب الرئيس نبيه بري بأكثرية هزيلة، وليس بتفويض شعبي وبتصويت نيابي كما كان يحدث في السابق، لأن جلسة انتخابه لا تتطلب حضور ثلثي أعضاء المجلس ولكن بمن حضر ويفوز بأصوات فريقه».
وشدد على أن «المشكلة هي في تشكيل الحكومة، ففريق الثنائي الشيعي والتيار العوني يريدان حكومة وحدة وطنية، والفريق الآخر يرفضها ويعتبر أنها بدعة، ومطلبه تشكيل حكومة تقنيين من أجل العمل على الملفات ومعالجة الأزمات».
وأكد نادر على أن «البلد أمام مرحلة انسداد، إذ يتم ربط تشكيل الحكومة بالاستحقاق الرئاسي»، معتبراً أن «المشهد قاتم وما تبقى من العام الحالي سيكون الأصعب على اللبنانيين، فسعر صرف الدولار مقابل الليرة مستمر في صعوده الجنوني والقدرة الشرائية للناس تنهار في ظل أزمة اقتصادية عالمية تزيد من معاناة اللبنانيين».
حقل ألغام.. والإنقاذ رهن التنسيق وإلا!
يسود الترقّب مرحلة انطلاقة عجلة البرلمان الجديد حيث الضوء مسلّط على ما ستؤول إليه نتيجة الاستحقاق الأول ليُبنى على الشيئ مقتضاه فيما يليه ولمن ستميل دفّة القرار، وفي هذا الإطار اعتبر المحلل السياسي أسعد بشارة لـ«المجلة» أن مسألة التوازن في مشروع حزب الله تمت من خلال نتائج الانتخابات، والآن التحدي الأكبر يكمن في صياغة تنسيق فعال بين قوى الأكثرية الجديدة التي هي خارج الحزب، وهي مسؤولة عن إنتاج مواقف مشتركة في القضايا الأساسية، منها تسمية رئيس مكلف للحكومة وتشكيل الحكومة والاتفاق على بدء الإصلاح ومواجهة الفساد والنتائج السلبية لمشروع الحزب وسلاحه وهيمنة إيران على القرار اللبناني».
وشدد على أن «هناك مطبات كثيرة وطريق يشبه حقل الألغام لمعارضي الحزب ومشروعه، لكن هذا التنسيق ممكن بينها، وقد بدأ بين الكتل السياسية الحزبية والمستقلين والتغييريين لأن العناوين المشتركة واضحة ولا لبس فيها»، مشيراً إلى أن «الاختبار الأول سيكون في انتخاب رئيس مجلس النواب، وجميع هذه القوى متفقة على عدم تسمية الرئيس نبيه بري، ولكن للأسف لا يوجد أي مرشح آخر لأن النواب الشيعة الـ 27 فاز بهم الثنائي الشيعي أي أمل وحزب الله».
«يبقى الأساس والأهم هو تشكيل الحكومة، وما بعدها انتخابات رئاسة الجمهورية»، هذا ما أكد عليه بشارة، معتبرا أنه «في حال تمكنهم من اتخاذ موقف موحد في مسألة تشكيل الحكومة ونجحوا في ترسيخ موقفهم، فذلك يُمهّد للانتخابات الرئاسية، إذ إن هناك وجهات نظر متعددة في عملية تشكيل الحكومة وتسمية الرئيس المكلف، وإن عبرت هذه القوى تلك المطبات، فهي قادرة على التفاهم على طبيعة تلك الحكومة لأنها أهم من تسمية الرئيس المكلف التي تصبح نتيجة».
وجزم بأن «تشكيل حكومة منسجمة يمكن أن يساعد في انتخابات الرئاسة»، لافتاً إلى أن «الأمر ليس محصوراً فقط بمسؤولية قوى الأكثرية الجديدة، فيجب أن لا ننسى أن حزب الله في المرصاد لإفشال أي خطوة وستكون بداية لتفشيل الأكثرية الجديدة بمنع ترجمة رؤيتها في الوصول إلى حكومة إنقاذ منسجمة، إذ إن الحزب يريد تكرار تجربة ما يُسمى بحكومات الوفاق الوطني التي هي تعبير عن استمرار المنظومة».
وخلص بشارة إلى أن «لبنان مقبل على مرحلة صعبة، لأن فوز تلك القوى بالانتخابات ليس نهاية المطاف»، لافتا إلى أن «كل ذلك يترافق مع الانهيار المتمادي والمستمر بشكل متسارع، لذلك ففي حال اتحدت قوى الأكثرية تحت عنوان وتصور واحد، فذلك سيكون بداية طريق العبور للإنقاذ في البلد، أما إذا تشتّتت في مواقفها فإن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه وربما أسوأ ما يزيد من معاناة اللبنانيين».