يدخل الغزو الروسي لأوكرانيا شهره الرابع دون أي بادرة أمل لنهاية قريبة لهذه الأزمة العالمية المرشحة للتطور إلى حرب عالمية ثالثة إن لم تكن بالسلاح فقد بدأت بالغذاء وشبح الركود الاقتصادي الذي بدأ مع كوفيد-019 ولم ينته بعد، فهل فقد العالم رشده أم إن قواعد السلم العالمي تمت زعزعتها؟ على مدار سنوات طويلة لعبت فيها الدول الكبرى بلا هوادة ولا استثناء دور البلطجي أو فتوة الحارة، كلٌ في منطقة نفوذه أو مجاله الحيوي، وأعطت كل دولة عظمى الحق غير الأخلاقى لغزو دول أخرى مثلما حدث فى أفغانستان والعراق.
واستطاع العالم بفضل معادلة القوى المتساوية أو خوفا من الأضرار المحتملة أن يعيش على نظرية الخيط الرفيع التي تحكم العلاقة بين الدول الكبرى التي تتحكم في مصائر البشرية، مع تهميش معظم الدول الأخرى، فيما عدا بعض الإجراءات البروتوكولية للإيحاء بأن هناك نظاما عالميا للسلام، وهو لا يزيد عن مكلمة دولية تسمى الأمم المتحدة التي لا تستطيع أن تقوم بأي عمل بعيدا عن الخمسة الكبار. ومن حسن حظ البشرية أن هناك بعض التوافق أحيانا لمعالجة القليل من الأزمات الدولية، ولكن تكون الطامة الكبرى عندما تكون إحدى الدول الخمس طرفا أصيلا أو وكيلا عن أطراف أخرى فى النزاع، عندئذ تُشل الأمم المتحدة ولا تفعل شيئا غير الشجب والاستنكار وأحيانا الإدانة اللفظية. والمتخصص في تاريخ البشرية يجد أن معظم الحروب الكبري منذ القرن العشرين كانت بسبب هذه الدول، أما باقي دول العالم فهو العشب الجاف الذي يتكسر تحت أرجل الأفيال المتصارعة، ولا تختلف الأزمة الأوكرانية عن ذلك وستنتهي بنفس نظرية الخيط الرفيع.. ويبقي السؤال: كم من الأرواح ستزهق، وكم من الناس الآمنيين سيتحولون للاجئين، وكم من الأسر ستفقد الأمن والأمان؟
ويبدو أن كل هذا لا يهم ليمضي الكبار في اندفاعهم الغبي مثل الثيران ويصلوا إلى حافة الهاوية وستستنفر كل دولة أسلحتها النووية التي يكفي عُشرها لتدمير العالم عدة مرات. وكما أعلن زلينسكي الرئيس الأوكراني بأن الحل يجب أن يكون دبلوماسيا، فلماذا التأخير المتعمد، وهذا هو مربط الفرس. فأميركا وأوروبا تحلم باستنفاذ القدرات الروسية العسكرية مرورا بتدمير روسيا اقتصاديا بالمقاطعة التي لم تجد نفعا مع إيران، وهي الأقل ماديا من روسيا. أما القدرات العسكرية فماذا يفيد مع امتلاك أسلحة الدمار الشامل، إذ يكفي تدمير العالم مرة واحدة ولو على سبيل الخطأ.
والواقع أن الدول الكبرى غير مخلصة بتاتا في البحث عن السلام الحقيقي، فمعظم الأزمات معروف علاجها ولكن الدول العظمى تبحث عن مصالحها بنظرة ضيقة إذا أحسنا الظن وبنظرة طامعة إذا أسأنا الظن، وهذا هو المرجح غالبا، لتضمن مصالحها الدائمة غير الأخلاقية يقيناً. فمنذ دخول قطار الاستسلام الألماني لمدينة كوميان الفرنسية شمال باريس ليوقع المارشال الألماني فوشيل وثيقة الهدنة معلنا استسلام ألمانيا قائدة المحور ليتوقف إطلاق النار الساعة 11 صباحا يوم 11|11|1918 في مشهد شديد ألإذلال للألمان لتتبعه معاهدة فرساي المهينة للألمان التي تم فيها تجريد ألمانيا من قواتها المسلحة فيما عدا 100 ألف جندي لا يزيدون لإجراءات التشريفة يحملون أسلحة خفيفة فقط لزوم العروض العسكرية. وشعرت الدول المنتصرة بأن ذلك غير كافٍ فتبعت المعاهدة بملحق يناير (كانون الثاني) 1920 تعترف فيه ألمانيا بمسؤوليتها عن الحرب ودفع غرامه 269 مليار مارك تم دفع آخر قسط منها عام 2010 على يد المستشارة أنجيلا ميركل. بالإضافة إلى اقتطاع جزء من أراضيها لحساب بولندا وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا، مما أدى إلى تدهور الاقتصاد الألماني، وأتى بهتلر للحكم عام 1933 ليرفع ألمانيا من الحضيض إلى الذرى، ولكن يدخل العالم حربا عالمية ثانية لأن معاهدة فرساي كانت نفسها مسوغات التمهيد لحرب كونية جديدة، لذلك لم يفرض العالم غرامات على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حتى لا تتكرر المأساه. بل على النقيض ساهم في بناء ألمانيا المدمرة بعد الحرب الثانية ولم يستفد من الأموال إلا إسرائيل ممثلة لمأساة اليهود فأخذت تعويضات كافية ترغيبا وابتزازا ووارثاً دون إعلان وراثة. وها نحن نواجه نفس المعطيات بتجاهل العالم مصالح روسيا ومحاولة تهميش بقايا الاتحاد السوفياتي وقضم بعض من الدول التي كانت تابعة لحلف وارسو وانضمامها لحلف الناتو الذي كان يجب أن ينحل بعد انهيار الستار الحديدي حتى تتوازن القوى، وانتفاء الحاجة إليه. وبدلا من ذلك خرج المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما بنظرية نهاية التاريخ لتثبيت زعامة أميركا للعالم، مما نتجت عنه حروب إقليمية كثيرة معظمها بالوكالة واستشرى الإرهاب المؤدلج مثلما حدث في مقاومة الغزو الروسي لأفغانستان فوكلت المخابرات الأميركية تنظيم القاعدة لمحاربة روسيا لينقلب بعد ذلك على أميركا والعالم كله، مستخدما أيديولوجيات التطرف الإسلامي ولما لم يكن هذا كافيا خرجت علينا القديسة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في عهد جورج بوش الابن لتبشرالبشرية بسياسة الفوضى الخلاقة، فأنشطرت دول كثيرة ولم ينعم المنشطرون بالديمقراطية التي بشرت بها، وذهبت كونداليزا وبقى الإرهاب والديكتاتورية. وللأسف معظم الضحايا كانت منالدول التي تقع في الشرق الأوسط.. ولكن كيف تقف الحرب الأوكرانية؟
أعتقد أن الشعوب الأوروبية ستجبر حكوماتها على تشجيع التفاوض للخروج من الأزمة وذلك لمعاناة الشعوب من الغلاء غير المسبوق وأزمات الطاقة المتوقعة. فالشعوب الأوروبية تستطيع أن تتحمل إذا كانت مقتنعة، ولكن المعضلة أن الدول العظمى تفتقر للقادة العظام أمثال روزفلت وتشرشل وديغول وكنيدي أو حتى مثل تاتشر، الذين كانوا يستطيعون أن يؤثروا على معنويات شعوبهم لتتحمل تضحيات الغلاء والركود الاقتصادي، وستجتاح الاحتجاجات العالم عندما تصل الشعوب الأوروبية لحد البقاء على قيد الحياة وعندها سيثور الناس بحثا عن الغذاء الذي تأثرت سلاسله بالحرب التى تستفيد منها شركات السلاح، وستخرج أميركا كالعادة دائنة لأوروبا وسيقبض إردوغان ثمن موافقته على انضمام فنلندا والسويد للناتو حيث ستفقدان حيادهما للأبد ورفاهيتهما أيضا، وسيزداد النفوذ الصيني استعداداً لقضم تايوان، ومع تخلي رجل البيت الأبيض العجوز عن أحلام هزيمة روسيا استراتيجياً يكون ممكناً للعالم البحث من جديد عن الخيط الرفيع.