القاهرة: رحل مؤخرا الفنان الكبير سمير صبري عن عالمنا، تاركا وراءه ثروة فنية فريدة من نوعها وبريقا لا يخفت بمرور الزمن منذ أول ظهور له على الشاشة الفضية مع العندليب عبد الحليم حافظ في فيلم «حكاية حب» وحتى آخر أفلامه «2 طلعت حرب» الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الحادية عشر؛ حيث نوهت لجنة التحكيم بدوره كأحسن ممثل. وهو الأمر الذي يجعل الكثيرين يتساءلون عن سر تركيبة هذا الفنان الشامل الذي أمتع جماهير الوطن العربي من المحيط إلى الخليج بقدرته على التنوع ما بين الكوميديا والدراما والأكشن سواء في السينما أو التلفزيون وأيضا براعته في تقديم برامج التوك شو والترفيه. تاركا في أذهاننا أغاني تبعث على التفاؤل وجملا شهيرة تبعث على الفكاهة، مثل: «واحد صاحبي متعرفهوش» فما الذي كون شخصية الفنان سمير صبري؟
سمير صبري الفنان السكندري الأصل ابن حي بحري بكل ما يحمله من عبق وسحر عروس البحر المتوسط وتركيبته الديموغرافية الغنية المختلطة الأعراق والثقافات، التركية والمغربية والأورومتوسطية وهو الحي الذي خرج من رحمه العديد من مبدعي مصر. وهو أيضا واحد من بين أبرز أبناء وخريجي «فيكتوريا كوليدج» العريقة بالإسكندرية ومن جماعة «Old Victorians»، وهم من نشأوا على النظام الإنجليزي الصارم، وهو ما يعني أن هذا الشخص أيا كان مجال عمله فهو منضبط في كل شيء، كما أنه رياضي ومنفتح على كافة الثقافات، وقد كان الفنان الراحل يتقن 7 لغات، كما كان حريصا قبل أن يصاب بمرض السرطان على ممارسة السباحة يوميا في فندق ماريوت الزمالك.
التقيت الفنان الراحل سمير صبري في فندق ماريوت الزمالك، لأتحدث معه عن ذكريات المدرسة بين كلية فيكتوريا الإسكندرية والقاهرة أثناء إعدادي لكتاب «كلية فيكتوريا.. صناعة الملوك والأمراء والمشاهير»، وضمن مقابلات لأبرز خريجي الكلية التي تخرج منها أعظم فناني مصر وعلى رأسهم الفنان عمر الشريف وأحمد رمزي ويوسف شاهين وشادي عبد السلام وتوفيق صالح، وزامل ملك اليونان وملك ألبانيا وملك بلغاريا والزعيم السوداني الصادق المهدي والمفكر إدوارد سعيد والوزير الراحل منصور حسن ورئيس المخابرات السعودي الراحل كمال أدهم والملياردير السعودي عدنان خاشقجي وغيرهم.
قال سمير صبري في حديثه لي عن المدرسة: «أتذكر أنه في سنوات دراستي بها كان هناك ما لا يقل عن 45 جنسية، وقد ساعدني هذا الاختلاط على تكوين شخصيتي وثقافتي وتعلمي 7 لغات.. وقتها كانت المدرسة للأثرياء وأبناء الملوك جدا لكي تستطيع سداد المصروفات الدراسية. كانت المصاريف 300 جنيه في السنة، أي حوالي ما يزيد على 300 ألف جنيه».
وأضاف: «لم تكن الكلية تقبل أي طالب وكانت ترسل من يستعلم عن أسرة الطالب بزيارة منزلية ومدى معرفتهم بقواعد وأصول الإتيكيت.. كانت المدرسة الوحيدة التي ينافس طلابها طلاب أوكسفورد وكامبريدج، وأذكر أن جريدة من الجرائد اللندنية (التايمز) كتبت أن نتائج طلاب فيكتوريا كوليدج تفوقت على نتائج طلاب كلية إيتون الشهيرة في إنجلترا».
لم يقض سمير صبري بفكتوريا الإسكندرية سنوات طويلة بل انتقل مع والده للقاهرة لظروف عمله كضابط في الجيش واستكمل باقي السنوات التعليمية في فيكتوريا المعادي حتى الانتهاء من المرحلة الثانوية، ليعود بعدها مرة أخرى للإسكندرية ويدرس الأدب الإنجليزي بكلية الآداب. ويتذكر صبري فيكتوريا المعادي بأنها «كانت مدرسة رائعة في حي عامر بالأشجار والفيلات للجاليات الأجنبية، وكان خلف المدرسة جبل وصحراء فسيحة.. ولن أنسى مغامرتنا مع الأساتذة الإنجليز والأيرلنديين لتسلق الجبل».
ورغم مرور عشرات السنين على مغادرته للمدرسة ذكر ضاحكا: «كان اليوم الدراسي طويلا.. كنا المدرسة الوحيدة التي تنهي يومها الدراسي في الثالثة مساءً، ولكن الغذاء يبدأ من الساعة 12 إلى الواحدة، وكان هناك مدرس لتعليمنا إتيكيت تناول الطعام واستخدام الشوك والملاعق وطريقة شرب الماء ومضغ الطعام وغيرها ومن يخالف الإتيكيت أثناء تناول الطعام يتم ضربه بالعصا فورا أثناء الغذاء». ويقول: «هكذا تعلمنا أن كل شيء بحساب، فلا يوجد إفراط في الطعام أو نهم.. تعلمنا الانضباط في كل شيء».
ومن الطريف أنني أثناء بحثي في سجلات وأرشيف جمعية خريجي كلية فيكتوريا، وجدت سجلا حافلا، حيث كانت إدارة الكلية تسجل وتوثق معلومات وصورا عن كل الطلاب في تقارير دورية تقيم أداء وشخصية وتفوق الطالب الدراسي ومواهبه، وترفق في ملف منها ملف الفنان سمير صبري والذي عثرت فيه على استمارة قبوله بالمدرسة وسجل بها تاريخ ميلاده: 20 سبتمبر (أيلول) 1936 وأنه انضم لفيكتوريا كوليدج في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1948. وتقرير دراسي كتب فيه: «سمير جلال صبري، طالب متفوق ومتميز جدا ولغته الإنجليزية ممتازة كما أنه يجيد عدة لغات أخرى، وخفة ظلة تغلب على تصرفاته وسلوكه في المدرسة». كما تنبأ له عدد من مدرسيه بأن يكون ممثلا بارعا لاشتراكه في مسرحيات المدرسة المأخوذة عن روائع الأدب الإنجليزي.
روى صبري: «كنا مشاكسين في حدود اللياقة، ومن المواقف الطريفة التي قمت بها كانت مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، حينما انتقلت مع والدي إلى القاهرة كان عمري 9 سنوات كنا نقطن أسفل الطابق الذي يقطنه عبد الحليم حافظ، وكنت يوميا أنتظره في البلكونة حتى أراه وهو يدخل العمارة ليأخذ المصعد، كنت أنزل فورا حتى أمر أمامه بمدخل العقار وأتحدث معه، وعشان ألفت نظره.. أقنعته أنني أميركي الجنسية واسمي بيتر، واقتنع لبراعتي في الإنجليزية وظللنا سنة على هذا الحال وطلبت منه حضور تصوير أحد أفلامه.. عندها (زوغت) من المدرسة وحضرت تصوير الفيلم.. وبالطبع حصلت على عقاب كتابة جملة (مش حعمل كده تاني) 100 مرة».
وعن تأثير فيكتوريا على حبه للفن وتنمية موهبته، قال: «أذكر أن الأساتذة الإنجليز كانوا يدعوننا لمشاهدة الأفلام العربية المأخوذة عن روايات أجنبية. ومنها كان فيلم ليحيى شاهين وماجدة، وكان زمان الأفلام العربي عليها ترجمة فرنسية حيث كانت اللغة السائدة في مصر وبالإسكندرية تحديدا كانت هي لغة الشارع. ولغة البيع والشراء والمعاملات اليومية. وكان المعلم يطلب منا قراءة الرواية الأصلية ومقارنة التغييرات التي تمت بها، كنت في جميعة التمثيل وكل أسبوع كنا نختار مسرحية ونمثلها أمام الأساتذة وكان يشرف علينا ثلاثة معلمين إنجليز أتذكر منهم مستر هيل، شجعوني واكتشفوا موهبتي».
كان لمسرح فيكتوريا كوليدج دور في مسيرة سمير صبري وثقله فنيا مما أهله لدخول السينما من المربع الذهبي فظهر مع العملاق فؤاد المهندس في فيلم «أخطر رجل في العالم»، و«شنبو في المصيدة» ثم دور في فيلم «اللص والكتاب»، وهو «ما أفادني في حياتي العملية أن أعمل وأنا في سن مبكرة وأتذوق طعم الكسب، وكيف أكسب، بلا شك تعليمي في فيكتوريا كان له الفضل في تكوين شخصيتي».
بحنين بالغ ذكر سمير صبري سنوات الدراسة التي صاغت شخصيته: «كان المدرس يوزع علينا مرتين في الأسبوع كتبا مثل هاملت. وفي نهاية القراءة الأولى يطرح علينا سؤال: لماذا لم ينتقم هاملت؟ فنبدأ نفكر ما هو تركيب وتكوين شخصية هاملت؟ مع صغر عمرنا وكنا وقتها 8 سنوات مثلا، يقول لنا المعلم: هناك 35 كتابا تتحدث عن شخصية هاملت ابحثوا عنها واكتبوا رأيكم الخاص عنها. ثم نناقش تلك الشخصية في الفصل. ومع صغر عمرنا علمونا كيف نتكلم ونتناقش ونحترم الرأي الآخر، ونعبر دون خجل».
أناقة سمير صبري لم تكن في ملبسه بل في حديثه الراقي ومرحه وخفة ظله النابعة من سرعة البديهة دون تنمر، فاستطاع أن يحقق نجاحا كبيرا في برامجه التلفزيونية والإذاعية التي لا نمل من مشاهدتها مهما طال الزمن، وأهمها «النادي الدولي» الذي يعد من كنوز ماسبيرو، وبرنامج «هذا المساء» وتحقيقه الاستقصائي التلفزيوني عن مصرع السندريلا سعاد حسني، ومؤخرا برنامجه على إذاعة الأغاني «ذكرياتي» الذي سجل منه عشرات الحلقات أثناء مرضه تحسبا لأي عواقب تمنعه من العمل، فطلب من المخرج محمد تركي أن يعد حلقات عديدة بقى منها حلقات لم تذع بعد.
لم ينقطع الراحل سمير صبري عن الابتسام بملامحه الطفولية أثناء حديثه عن سنوات الدراسة، من حكاياته عن فيكتوريا كوليدج: «كانت مدرسة صارمة جدا رغم أن بها أثرياء العرب وملوك وأمراء، وكان الضرب بالعصا لو ارتكب أي طالب الخطأ مهما كانت عائلته أو انتماؤه الديني أو جنسيته، وخالف تعليمات المدرسة، منها مثلا حينما كنا نتحدث بغير الإنجليزية، فكان علينا الدوران حول ملعب كرة القدم 4 مرات، أو كتابة جملة مثلا «مش حعمل كده تاني» مائة مرة. وقد أخذت العقابين. لكن لو الأمر خطير كان يستدعى الناظر الطالب ليضرب على المؤخرة 3 مرات، ولكن الحمد لله لم أخذ ذلك العقاب البشع الذي كان يمثل مهانة كبيرة للطالب، وكان هناك عقاب الفصل من المدرسة في حال عدم الالتزام بقواعدها».
كانت اللقاءات الشهرية والعلاقات الممتدة سمة من سمات الفيكتوريين القدماء، تطبيقا لشعار المدرسة «كلنا واحد»، وكان الفنان سمير صبري حريصا على التواصل مع خريجي الكلية الذين انتشروا حول العالم، روى لي عام 2013: «كنا حريصين على إقامة حفلات سنوية لفيكتوريا نغني فيها، وشاركت بالغناء في أكبر احتفاليتين جمعت خلالهما الفيكتوريين القدامى من مختلف أنحاء العالم، وكان معي صديقي الراحل منصور حسن، ويوسف شاهين، وعمر الشريف، وأتذكر جيدا لقاءات جلالة الملك حسين التي جمعتنا في الإسكندرية، ورئيس وزراء الأردن زيد الرفاعي، ولا زلت ألتقي بالتايكون السعودي عدنان خاشقجي، والمهندس الكبير إسماعيل عثمان، كان الفيكتوريون عمالقة في كل المجالات، وكان معنا أيضا حشمت ابن الفنان الكبير عبد العزيز محمود، وابن رمسيس نجيب. ونقيم اجتماعا شهريا على العشاء، ونستضيف شخصية بارزة مثل: أنيس منصور وإحسان عبد القدوس، أو في أي مجال لتلقي محاضرة حتى ونحن مجتمعون لا بد أن نستفيد... هكذا تعودنا كفيكتوريين أن نتعلم من كل شيء حتى أوقات التسلية واللقاءات الاجتماعية».
ساهم سمير صبري في تأسيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي وأسس مهرجان «سكندريات العالم» وغيرها من الفعاليات التي تجمع الفن والثقافة وكان ذلك نابعا من وجدانه وشغفه بالفن.
«لا دين ولا سياسة علم فقط»؛ أكد سمير صبري عن عقيدته الفكرية التي زرعتها فيه فيكتوريا كوليدج، قائلا: «تعلمنا أن الحياة للعلم والاجتهاد لذا تعلمت من أصدقائي اللغات الإسبانية والإيطالية واليونانية إلى جانب الفرنسية والإنجليزية، ولم يكن انتماؤنا لمدرسة بريطانية يعني أننا تخلينا عن هويتنا العربية بل بالعكس وكنت أدين بمعنى الوطنية لصديقي منصور حسن الذي كان دائم الثورة ضد الإنجليز خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر بل وتعلمنا أن نفصل بين حبنا للمعلمين الإنجليز ودورهم في تثقيفنا والسياسة البريطانية التوسعية الاستعمارية».
تلك كانت لمحة من حياة الفنان سمير صبري وتكوينه المعرفي والثقافي والاجتماعي.. حياة لم تخل من الجد والمرح الدائمين... توفى سمير صبري يوم 20 مايو (أيار) 2022 تاركا إرثا فنيا وإذاعيا وتلفزيونيا كبيرا.. وداعا.