حقبة "المائة دولار للبرميل" لن تكون الأخيرة

حقبة "المائة دولار للبرميل" لن تكون الأخيرة

[escenic_image id="5510630"]

ساد الاعتقاد بأن تجاوز أسعار النفط المائة دولار أمريكي للبرميل، بمثابة إشارة إلى حقبة من الارتفاع الدائم في أسعاره. بل إن العديد من المعلقين المؤثرين – من بينهم شكيب خليل، رئيس منظمة أوبك آنذاك، ومحللون من شركة جولدمان شاس – أشاروا إلى أن أسعار النفط ربما تواصل ارتفاعها لتصل إلى 200 دولار أمريكي للبرميل. لكن الذي حدث هو هبوط أسعار النفط بينما كانت تطال الأزمة الاقتصادية الاقتصاد الحقيقي. فبعد مُضي خمسة أشهر من السعر القياسي الذي سجله النفط في يوليو/ تموز 2008، ليصل إلى 147 دولارًا أمريكيًّا للبرميل، فقد النفط أكثر من ثلاثة أرباع قيمته.

ومنذ ذلك الحين، استعادت أسعار النفط طبيعتها. فسعر خام غرب تكساس (الذي يستخدم كمقياس لأسعار النفط) يسجل حاليًا حوالي 70 دولارًا للبرميل. لكن أسعار النفط اليوم تختلف بشكل كبير عن تنبؤات عام 2008. فهل كان سعر النفط بمثابة حالة فزع مبالغ فيها؟

ومع بقاء الاقتصاد العالمي في حالة الركود، من غير المحتمل أن تصل أسعار النفط إلى 100 دولار أمريكي للبرميل هذا العام. ومع ذلك، فإن جميع العوامل الرئيسية التي قادت الزيادة المفاجئة في سعر النفط العام الماضي لا تزال موجودة أو على الأقل فإنها قريبة الحدوث. وسيظل المعروض النفطي محدودًا، وسوف يتزايد معدل الطلب عندما يعود النمو الاقتصادي، ومن غير المحتمل أن يتصرف المضاربون بشكل مختلف خلال الفترة المقبلة من الانخفاض. وسرعان ما سيصل سعر النفط إلى 100 دولار أمريكي للبرميل.

عدم كفاية المعروض

ومثل الزيادات التي سبقتها، حدثت الزيادة المفاجئة في سعر النفط العام الماضي نتيجة لأن المعروض كان يكفي الطلب بالكاد. والموقف الطبيعي في السوق النفطي أن يقوم المنتجون بالاحتفاظ بطاقة إنتاجية فائضة من النفط كي يتمكنوا من التكيف مع الأحداث غير المتوقعة. فعندما يصبح المعروض محدودًا، يمكن أن يؤدي أقل اضطراب في السوق إلى ارتفاع مفاجئ في أسعار النفط.

وبين عام 2002 وصيف 2008، انخفضت هذه الطاقة الإنتاجية الفائضة عالميًّا إلى النصف تقريبًا. وقد اتضح تأثير ذلك على الأسعار عندما ضرب إعصار كاترينا خليج المكسيك في عام 2005، مما تسبب في تدمير طاقة إنتاجية تقدر بـ 1,4 مليون برميل يوميًا، وأكثر من هذا فيما يتصل بالتكرير. وبسبب الزيادة الهائلة في معدل الطلب خلال السنوات السابقة، لم يستطع الموردون الآخرون زيادة المعروض بأكثر من 0,5 مليون برميل يوميًّا. واضطرت وكالة الطاقة الدولية إلى الإفراج عن مخزون الطوارئ إلى السوق لتفادي حدوث أزمة نفطية. وتزايدت الأسعار بمعدل 7% خلال يومين من التعامل.

من الواضح أن الاستثمار في الطاقة الإنتاجية الجديدة بمثابة الطريقة الوحيدة لزيادة المعروض من النفط على المدى الطويل. فبالرغم من كم الاستثمار الهائل في السنوات الأخيرة، لم يكن المنتجون قادرين على زيادة المعروض إلى مستوى يغطي الطلب المستقبلي. وحيث إن سعر النفط ارتفع في العام الماضي، فإن أزمة الائتمان وهبوط أسعار النفط أدتا إلى تدهور المناخ الاستثماري، بالرغم من أن أسعار المعدات والأجهزة انخفضت هي الأخرى. ومع ذلك، فإن كبار منتجي النفط وشركات النفط الدولية تؤكد أنها تحافظ على مستويات استثماراتها بالرغم من الاضطراب المالي. فالمملكة العربية السعودية مثلاً بدأت أخيرًا في تشغيل حقل "خريص" العملاق لإنتاج النفط. ومع ذلك، فإن صغار المنتجين الذين يفتقرون إلى رأس المال أعاقوا إمكانية التوسع في المعروض. ويبدو موقف المعروض التقليدي أمرًا مزعجًا. فكما يقول فرانسيسكو بلانك، الاقتصادي في بنك الاستثمار الأمريكي ميريل لينتش: "يحتاج العالم الآن إلى تعويض مقدار من الإنتاج النفطي يعادل إنتاج المملكة العربية السعودية كل عامين". وهذا من غير المحتمل أن يحدث.

وبخلاف المصادر التقليدية للنفط، هناك عامل حاسم في المعروض الجديد، وهو مدى إمكانية تطوير المصادر النفطية غير التقليدية والأصعب في الوصول إليها. فلا تزال الرمال النفطية في قيعان البحار تحتوي على كميات هائلة من النفط لكن هناك مخاطر تحيط بالإنتاج ناهيك عن ارتفاع التكلفة. وتتباين التقديرات، لكنه من الواضح أن أسعار النفط اليوم منخفضة جدًا لدرجة تتيح الاستغلال المربح للجزء الأكبر من هذه الحقول. وإذا جعل الركود سعر النفط عند مستويات معتدلة لفترة ممتدة من الوقت وكان من الصعب الحصول على التمويل، فإن هذه المشروعات سوف يتم تأجيلها. وبحلول الوقت الذي يبدأ فيه العمل بتلك المشروعات، ربما يكون قد فات الأوان لمنع حدوث ازدياد مفاجئ في سعر النفط من جديد.

معدل الطلب سوف يزداد من جديد

وكما الحال بالنسبة للفترات السابقة التي ارتفعت فيها أسعار النفط، أصبح تحقيق التوازن بين العرض والطلب أمرًا صعبًا للغاية منذ عام 2004. ومع ذلك فإنه خلافًا لما سبق، كان العامل الرئيسي متمثلاً في ارتفاع حاد في الطلب وليس هبوطًا في المعروض. فالانخفاضات المفاجئة في المعروض هي التي سببت ارتفاعات أسعار النفط بصورة مفاجئة في فترة السبعينيات والارتفاع المفاجئ الذي أعقب حرب الخليج في عام 1990.

ويعتمد معدل الطلب على النفط على الأداء الاقتصادي العام أكثر من اعتماده على سعر النفط. وأفضل مثال على ذلك؛ التغير الحالي في معدل الطلب على النفط. وصاحب الزيادة الحادة في معدل الطلب منذ عام 2004، الازدهار الاقتصادي في الأسواق الناشئة في آسيا والشرق الأوسط. فالركود العالمي يوضح أسباب الانخفاض في معدل الطلب على النفط خلال الأربعة عشر شهرًا الماضية.

وعند النظر مستقبلاً، لا يساور الكثيرين شك في أن الاقتصاد العالمي سوف يتعافى ومعه سيتعافى الطلب على النفط. ووفقًا لشركة ماكينسي الاستشارية، فإن ما نسبته 92% من الزيادة في معدل الطلب خلال السنوات المقبلة تحدث خارج العالم الغربي؛ في كوريا واليابان بشكل أساسي. وينشأ هذا من كون النمو الاقتصادي يحتاج إلى طاقة مكثفة في الأسواق الناشئة التي لديها معدلات نمو أعلى مقارنة بالدول الأخرى.  

ومن المثير للاهتمام، أنه سوف تكون منطقة الشرق الأوسط ثاني أهم منطقة بعد الصين يأتي منها هذا الطلب، قبل أي منطقة أخرى على وجه الأرض بما في ذلك الهند. ففي منطقة الشرق الأوسط، ما نسبته 46% من معدل الطلب الجديد سببه الصناعات (الثقيلة) التي غالباً ما تستفيد من سهولة الحصول على مصادر الطاقة. وتسهم الزيادة الهائلة في استخدام السيارات بنسبة 13% من الزيادة الكلية.

كما أن الأداء الاقتصادي هو أكثر العوامل أهمية في توضيح أسباب ارتفاع معدل الطلب على النفط، لكن مستوى سعر النفط يلعب دوراً كذلك. فعندما تزداد الأسعار، يبدأ المشترون في البحث عن طرق لتقليل استهلاكهم النفطي. وقد شكلت أسعار النفط المرتفعة إسهامًا مهمًا في الارتفاع الحاد في استخدام وسائل النقل العامة ومبيعات السيارات ذات الكفاءة في استخدام الوقود في الولايات المتحدة. ومع ذلك، عندما يستجيب معدل الطلب للتغيرات الحادثة في سعر النفط، فإن ذلك يحدث ببطء وبطريقة غير تامة.

وتضاءلت هذه الحساسية للأسعار أو ما يطلق عليها مرونة الأسعار خلال العقود الأخيرة، كما أظهر بحث أجراه الاقتصادي جيمس هميلتون بجامعة كاليفورنيا، سان دييجو. وهذا في الأساس نتيجة لزيادة حصة قطاع النقل في معدل الطلب على النفط؛ فالطائرات والشاحنات والسيارات ليس أمامها سوى القليل جدًا من البدائل كي تستخدمها كوقود بدلاً من النفط. وبالطبع فإن هذا أدى إلى حدوث تقلبات في سعر النفط. فإذا لم تؤثر الأسعار المرتفعة على معدل الطلب بشكل كبير، يصبح التغير في الأسعار أكثر حدة. ومن ثم يمكن أن تشهد فترة النقص المقبلة زيادة ربما تكون أشد حدة في الأسعار.

المضاربة: كلما ازدادت تغيرًا، ازدادت ثباتًا

ثمة عنصر ثالث يتم الاستشهاد به كثيرًا نتيجة تأثيره على سعر النفط في السنوات الأخيرة وهو المضاربة المالية. فهناك جدل واسع في الأوساط الأكاديمية والسياسية حول الدور الذي تلعبه المضاربة في رفع الأسعار. فقد حملت منظمة أوبك والرئيس الفرنسي ساركوزي المضاربين المسئولية عن جانب كبير من زيادة الأسعار في عام 2008. وأيد هذا العديد من الأكاديميين، والذين من بينهم الاقتصادي ريكاردو كاباليرو، بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي يعتبر الزيادة المفاجئة في سعر النفط بمثابة نتيجة مباشرة لأزمة الرهن العقاري في الأسواق المالية. فهو يرى أن المتعاملين هرعوا إلى النفط بعد أن انهارت العديد من الأصول المالية. 

وكثير من المحللين ومن بينهم محللون تابعون لوكالة الطاقة الدولية ولجنة التجارة بالعقود الآجلة للسلع الأساسية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعالم الاقتصاد السياسي كوبي فان دي ليند، لا يعتبرون جميعهم المضاربة سببًا في زيادة الأسعار. فهم يرون أن المتعاملين ركبوا موجة ارتفاع الأسعار التي يحركها معدل الطلب الهائل.

وبينما هناك جدل كبير حول نطاق وطبيعة المضاربة، ليس هناك شك في أن المضاربة حدثت. ولا يمكن تفسير الهبوط المفاجئ في الأسعار الذي حدث في سبتمبر/أيلول 2008، بناءً على التغييرات في المعدل "الحقيقي" للعرض والطلب. ففي الواقع، أصبح حضور المضاربين واضحًا بشكل مؤلم عندما تشبَّث البعض منهم بعقودهم الآجلة لوقت طويل جدًا؛ على أمل أن تعود الأسعار لسابق عهدها؛ لدرجة أنه تقريبًا كان يتم توصيل النفط إلى أعتاب بنوكهم. 

ومع ذلك، للتنبؤ بتطورات الأسعار في المستقبل، ليس من المناسب إطلاقًا أن نعرف بالضبط مقدار الزيادة في الأسعار التي سببتها المضاربة. فعندما تحدث فترة العجز المقبلة، فمن المحتمل جدًّا أن يتخذ المتعاملون نفس المواقف التي يتخذونها اليوم من أسعار النفط. والجهود الأمريكية والأوروبية المبذولة للحد من المضاربة من هذا النوع لا يمكن أن تمنع حدوث التعاملات في بورصتي دبي وسنغافورة. فإذا أراد المتعاملون المضاربة، فسوف يجدون سبيلاً لذلك.

العوامل التي تحكم أسعار النفط

يمكن أن ترتفع أسعار النفط فقط نتيجة لمحدودية المعروض وزيادة معدل الطلب وعدم تغير الكثير في طريقة المضاربة. تلك هي الرؤية التي تبنتها منظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية ودائرة المعلومات الأمريكية للطاقة. ومع ذلك، فإن التنبؤ الدقيق بالوقت الذي تبدأ فيه أسعار النفط في الارتفاع يكاد يكون مستحيلًا. فهذا نوع آخر من أنواع المضاربة.

font change