القاهرة: شهدت الأيام الأخيرة في ليبيا تطورات متسارعة فاقمت من حجم الأزمة السياسية والأمنية، خاصة مع تجدد حالة العنف في العاصمة طرابلس عقب دخول فتحي باشاغا رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي إلى العاصمة، وما صاحب ذلك من توتر أدى لمقتل أحد الأشخاص مما دعاه لسرعة المغادرة بعد اشتباك بعض الكتائب المسلحة ومن بينها كتيبة النواصي المسلحة المؤيدة له، والتي تمت محاصرتها بقوات عسكرية في وسط طرابلس- وفق تقارير إعلامية- وسط حالة من الاشتباكات المسلحة المحدودة تدخل خلالها اللواء 444 بقيادة محمود حمزة مع بعض الأطراف التابعة والتي توصلت لاتفاق خرج بمقتضاه باشاغا ومرافقوه من العاصمة بعد مداولات مع الأطراف التابعة لعبد الحميد الدبيبة رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، مما ساهم في إعادة حالة الهدوء للعاصمة.
ورغم تداول أنباء عن توصل باشاغا لتفاهمات مع قادة القوات الأمنية المسيطرة على طرابلس عند اجتماعه بهم في تركيا مؤخراً، إلا أن عملية تأمينه لم يجرِ تنفيذها وفقاً للاتفاق المبرم بين الجانبين مما زاد من علامات الاستفهام حول قدرة الحكومة المكلفة على فرض سيطرتها على الوضع في ليبيا خلال الفترة القادمة، وفرص مستقبل باشاغا السياسي في ظل الخطوة التي يراها البعض غير محسوبة منه، وسط استقطابات إقليمية واضحة لطرفي النزاع اتضحت خلال الفترة الأخيرة من تحركات كل منهما يمينا ويسارا في محاولة حشد التأييد من قوى إقليمية ودولية، في الوقت الذي دعت فيه ستيفاني ويليامز مبعوثة الأمم المتحدة في ليبيا جميع الأطراف لعدم المشاركة في الاشتباكات وتجنب حل النزاع بالعنف، وضبط النفس ومنع حشد القوات والأعمال الاستفزازية وكذلك الحوار والتفاوض.
استقطاب سياسي
ويشير الوضع الراهن في ليبيا وسط تداعيات الأزمة الأخيرة إلى استمرار حالة الاستقطاب السياسي والأمني خاصة في العاصمة، التي لا زالت- وسط المؤشرات الواضحة- تحت سيطرة الدبيبة والقوات الأمنية التابعة له، في ظل عدم تنفيذ توجهات البرلمان بتكليف باشاغا لرئاسة الحكومة، وأن عملية الاستقرار الأمني لن تتم دون خارطة طريق سياسية مع القوى الوطنية في الداخل الليبي بالتوافق مع القوى الإقليمية المحركة للأمور بين طرفي النزاع، والتي تستند إليها القوى المتصارعة في خطواتها خاصة بعد حالة الهدوء النسبي المستمرة في ليبيا منذ بداية العام الجاري والتي فتحت الباب أمام حالة من الارتياح لدى الشعب الليبي لاستكمال حالة الهدوء الأمني، الذي ساعد بشكل كبير على استقرار الأوضاع الاجتماعية خلال عدة أشهر سابقة عقب حالات العنف والصراع المسلح بين الميليشيات.
جهود مصرية
وقامت مصر من جانبها بعملية اتصالات مكثفة لوقف أي محاولات للتصعيد العسكري بين الحكومة المكلفة من البرلمان بقيادة فتحي باشاغا، والحكومة المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة.
وتقوم القاهرة التي ترعى حوارا ليبيا بإشراف الأمم المتحدة بالتواصل المستمر مع أطراف الأزمة لعدم تجدد الاشتباكات، وحصلت بالفعل على تأكيدات من باشاغا بضبط النفس وعدم التصعيد، وواصلت كذلك اتصالاتها الدولية خاصة مع القوى الإقليمية لمنع تجدد الصراع المسلح في ليبيا ودعم عملية الاستقرار النسبي خاصة مع استمرار المشاورات بخصوص محاولات وضع آليات لحلحلة العملية السياسية، في ظل مطالبات أممية للأطراف بالهدوء وضبط النفس.
وأعلنت القاهرة أنها تتابع بقلق التطورات الأخيرة الجارية في طرابلس، وأكدت من خلال تصريحات السفير أحمد حافظ المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية على ضرورة الحفاظ على الهدوء والأرواح والممتلكات في ليبيا، وكذلك على مقدرات الشعب الليبي، وحثت جميع الأطراف على ضبط النفس والامتناع عن أي خطوات من شأنها تأجيج العنف، وعلى ضرورة وحتمية الحوار بهدف الوصول لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ليبيا بالتزامن وبدون تأخير، وعلى أهمية حوار المسار الدستوري الجاري في القاهرة حالياً بما يحقق طموحات وآمال الشعب الليبي في الانطلاق نحو المستقبل في خطى ثابتة.
كتائب أمنية
الدخول المفاجئ من باشاغا إلى طرابلس طرح المزيد من التساؤلات عن توقيت هذا التصرف وجدواه، والذي اعتبره البعض محاولة لجس النبض، وحلحلة حالة التجمد السياسي المستمر على الساحة السياسية الليبية، وإعادة الأمل في الاستقرار، ورافق تداعيات الخطوة الأخيرة إعلان باشاغا رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي عن بدء ممارسة حكومته عملها من مدينة سرت، معلنا في كلمة له بثتها عدة قنوات تلفزيونية عن قدرته على دخول طرابلس بالقوة، وتأثيره على القوى المسلحة على الأرض، ورغم ذلك فإنه لن يلجأ لهذه الوسائل التي اتبعتها ما وصفها بالحكومات السابقة حقنا للدماء، مشيرا لدخوله للعاصمة بسيارتين مدنيتين دون حمل أي سلاح، واستقباله من بعض الأهالي قبل قيام ثلاث كتائب أمنية بعض قياداتها مطلوب دوليا- بحسب باشاغا- بتحريك اشتباكات بدعم جهة مالية كبرى تسببت في وفاة شخص برصاصة طائشة عند مروره بسيارته في المنطقة، معتبرا أن ما حدث دليل على أن حكومة الدبيبة منتهية الولاية وفاقدة الشرعية لا تستطيع السيطرة على المدينة.
تداول سلمي
وتابع باشاغا في كلمته: «عطلت حكومة الدبيبة الانتخابات رغم تعهدها السابق بخوضها، وهي حكومة فاقدة للشرعية محليا ودوليا وأخلاقيا، وقامت باستغلال المال العام من أجل شراء الولاءات، وهي في نفس الوقت مستعدة لإشعال حرب من أجل البقاء في السلطة، واستمرارها، يعني أنها ستعيد المشانق لميدان الشهداء مثلما فعل الاحتلال من قبل، وأؤكد عدم ترشحي للانتخابات القادمة، فنحن دعاة دولة واستقرار ونظام، ونؤمن بالعملية الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة بعد أن بذلنا الدماء في سبيل ذلك الأمر، لكن في نفس الوقت لسنا طلاب سلطة، ولا نبحث عن المنفعة الشخصية، ولم نقف يوما في وجه حكومة الدبيبة رغم الشبهات التي حامت حولها، وذلك حفاظا على استقرار ليبيا، وتداول السلطة سلميا، وبالرغم من نفوذنا وقوتنا لم نلجأ يوما لاستخدام السلاح رغم خطاب الكراهية الموجه ضدنا، ولن نضيع دماء المئات من الشباب التي أريقت من أجل التداول السلمي للسلطة.
تسلل بائس
في الوقت الذي علقت حكومة الدبيبة من خلال بيان أكدت فيه أن أجهزتها الأمنية تعاملت بكل مهنية وحزم مع ما سمته محاولة تسلل بائسة إلى طرابلس وراءها مجموعة مسلحة خارجة عن القانون في محاولة هدفت إلى إثارة الرعب والفوضى بين سكان طرابلس باستخدام الأسلحة والعنف مما تسبب في خسائر بشرية ومادية، وأكد البيان على التزام الحكومة أمام الشعب الليبي بالوصول به لتحقيق الانتخابات ومنع أي محاولات تسعى لها بعض الأطراف للتمديد لأنفسها وفرض نفسها بالقوة فوق إرادة الشعب الليبي، وطالب البيان الأطراف الدولية بإنهاء هذه التصرفات واعتبار أن ما يقوم بها غير صالح ليكون طرفا في أي حوار أو اتفاق سياسي، وتوعد الدبيبة بالضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه المس بأمن المواطنين وسلامتهم.
توافق سياسي
وزادت المخاوف الخاصة بالوضع في ليبيا خاصة في ظل حالة التشابك الموجود بين طرفي النزاع باشاغا والدبيبة، وعدم استقرار الوضع الأمني في ظل استمرار الحشد من القوى السياسية للميليشيات الأمنية المسلحة واستدعائها عند كل موقف مما يؤكد ضعف سيطرة الدولة بمفهومها السياسي على الأوضاع بشكل عام، واستمرار الأزمة طالما استمرت حالة التخبط السياسي، وأن حسم الأمور السياسية هو السبيل لاستقرار الوضع الأمني خلال المرحلة القادمة، خاصة مع وجود هذا الكم من السلاح على الساحة رفقة الميليشيات المسلحة المستقطبة من قبل القوى السياسية المتعددة، والتي تنتمي بدورها أيضا لقوى إقليمية مختلفة مما يصعب من عملية الاستقرار خلال الفترة القادمة إلا بشروط صارمة من ضمنها التزام القوى السياسية جميعها بمسؤولياتها تجاه الشعب الليبي الذي يرغب في الاستقرار بعد حالة من الهدوء الهش المشوب بالحذر، خاصة وأن هناك من يريد عودة حالة عدم الاستقرار إلى ليبيا.
محل نزاع
وفي تصريحات إعلامية لوكالة الأنباء الليبية في معرض لقائه مع بعض أعيان المنطقة الشرقية أكد محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي سعي المجلس لتنفيذ مطالب الشعب الليبي بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في أقرب وقت لوضع البلاد على الطريق الصحيح، ووقف دائرة العنف التي ستقود لمزيد من الانقسام.
فيما رفض خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا محاولة فتحي باشاغا رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان الليبي الدخول إلى طرابلس، وقال في تصريحات إعلامية: «حكومة باشاغا تعتبر (محل نزاع)، ومحاولة دخولها طرابلس بدون توافق يعد محاولة لفرض الأمر الواقع وهو أمر مرفوض، وأنصح باشاغا بتقديم استقالته، والدبيبة بقبول التغيير، ويبدو أن الحكومات لا تريد الذهاب للانتخابات حتى بعد خمس سنوات، وحكومة الدبيبة لا تريد الانتخابات لأن نفوذها يقتصر على طرابلس وعدد من المدن، ويجب التوافق على قاعدة دستورية وحكومة مصغرة بهدف إجراء الانتخابات».
ومن جانبه، قال رمزي الرميح مستشار المنظمة الليبية لدراسات الأمن القومي في تصريحات إعلامية: «ما حدث في طرابلس يؤكد في دلالة واضحة وبشكل مباشر أنه لن يستطيع أحد إحراز أي توافق سياسي أو قانوني، أو القيام بانتخابات رئاسية أو برلمانية طالما بقيت الميليشيات حاكمة لغرب ليبيا وهي حقيقة واضحة، وعندما يخرج الدبيبة قبل شهور ويقول إن مدتي القانونية تنتهي في يونيو (حزيران) 2022، ثم يرفع السقف ويقول إنه لن يسلم إلا لحكومة منتخبة من برلمان منتخب فهذا يعني أن الميليشيات ستقف كما وقفت في العشرية السوداء أمام أي إنجاز للدولة الليبية طالما هذا الاستحقاق لا يلبي رغبة هذه الميليشيات أو من يشغلها من خارج ليبيا».
وتابع: «من واقع معلوماتي أؤكد أن تركيا هي من أعطى الأوامر لمحمود حمزة آمر ما يعرف بلواء 444 لإخراج باشاغا من طرابلس، والذي يتحكم في طرابلس حاليا هي الميليشيات التي تأخذ أوامرها مباشرة من خارج ليبيا وخاصة تركيا والإنجليز، ولدينا معلومات مؤكدة أن عواصم محددة مثل لندن وواشنطن لا تريدان حل الميليشيات ونزع سلاحها بالرغم من صدور قرارات ملزمة من مجلس الأمن وفق مخرجات برلين تحدثت بشكل واضح عن حل الميليشيات ونزع سلاحها في غضون تسعين يوما من يناير (كانون الأول) 2020 وبالتالي فما يحدث في القاهرة من اجتماعات الغرض والغاية منها إحراز قاعدة دستورية، فماذا بعد ذلك؟ هل هل ستجد القاعدة الدستورية أرضية صلبة لإنجازها؟».
وأضاف: «باشاغا ارتكب خطأ قاتلا، لأن لديه شركاء في الدولة هم مجلس النواب الذي كلفه، والقيادة العامة للقوات المسلحة الليبية التي باركت هذا التكليف، وأيضا شخصيات مدنية وسياسية والاتفاق كان وفق جلسة مجلس النواب وتأكيدات الحضور أن مجلس النواب يستعد في الجلسة القادمة للذهاب إلى سرت، وإعطاء جرعة معنوية لحكومة باشاغا للاجتماع في سرت، فلماذا يذهب باشاغا إلى طرابلس والقيام بهذه الخطوة الخاطئة وهو يعلم يقينا أن الميليشيات لن تسمح له».
توتر أمني
وشهدت العاصمة الليبية طرابلس يوم الثلاثاء الماضي 17 مايو (أيار) الجاري 2022 توترا سياسيا وأمنيا وتبادلا لإطلاق النار بين عدد من الميليشيات المسلحة بعد محاولة فتحي باشاغا رئيس الوزراء المكلف من البرلمان الليبي دخول طرابلس مع حشد من أتباعه في محاولة لجس النبض في مطالبته بالسلطة، مما دعا عددا من أنصار عبد الحميد الدبيبة رئيس الوزراء المنتهية ولايته بالتصدي له من خلال اشتباك مسلح أوقع أحد الضحايا، وسمع سكان طرابلس وقع الاشتباك بالأسلحة الثقيلة والرشاشات طوال اليوم، وتدخل خلالها اللواء 444 بقيادة محمود حمزة، مع بعض الأطراف التابعة والتي توصلت لاتفاق خرج بمقتضاه باشاغا ومرافقوه من العاصمة بعد مداولات مع الأطراف التابعة ليعود الهدوء للعاصمة طرابلس في اليوم التالي.
ورغم تكليف مجلس النواب الليبي لباشاغا برئاسة الحكومة في شهر فبراير (شباط) من العام الجاري وأداء الحكومة اليمين القانونية في شهر مارس (آذار) أمام المجلس إلا أن المجلس الأعلى للدولة وحكومة الوحدة الوطنية القائمة ظلا رافضين لهذا التكليف، ورفضا أيضا تسليم السلطة إلا من خلال انتخابات رسمية، وفي نفس الوقت لم يحصل هذا الإجراء على إجماع دولي باستثناء روسيا، ويرفض رئيس الوزراء المنتهية ولايته عبد الحميد الدبيبة تسليم السلطة إلا من خلال انتخابات رسمية مستندا إلى تحفظات الأمم المتحدة التي لا تزال تتواصل مع طرفي الأزمة لاستكشاف سبل الحل، وترى العديد من القوى السياسية أن تصرف باشاغا كان سوء تقدير منه حيث اعتقد أنه يتمتع بدعم أكبر مما هو موجود على أرض الواقع خاصة من الجماعات المسلحة التي تسيطر على الوضع في طرابلس أو بعض القوى الإقليمية، وأنه ربما تلقى وعودا من البعض إلا أنه لم يتم تنفيذها في ظل محاولات حلحلة الأمور خاصة مع فشل إجراء الانتخابات التي كانت مقررة نهاية العام الماضي، لتجنب فرض الحصار على بعض المنشآت النفطية خاصة في شرق ليبيا وتخفيض الإنتاج مما انعكس بالسلب على إيرادات الدولة الليبية.
ومنذ الثورة الليبية عام 2011 والتي أطاحت بالرئيس الراحل معمر القذافي، كان الانقسام هو السائد بين عدد من الفصائل المتصارعة شرقا وغربا، واستمرت التوترات المسلحة التي أثرت على الأوضاع الاجتماعية في ليبيا حتى عام 2020 وهو العام الذي تقلدت فيه حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة مقاليد الحكم في البلاد، وسرعان ما عاد التوتر بعد فشل إجراء العملية الانتخابية في شهر ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي 2021 بسبب النزاع السياسي بين ألوان الطيف المختلفة في البلاد، والخلاف حول المرشحين بين الفصائل والشخصيات البارزة المدعومة من قوى إقليمية مختلفة التوجهات والرغبات، وقام مجلس النواب الليبي بانتخاب فتحي باشاغا بديلا لعبد الحميد الدبيبة رئيس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية رافضا تسليم السلطة إلا من خلال انتخابات وهو ما دفع باشاغا لمحاولة جس النبض بالدخول إلى طرابلس مما أدى إلى الأزمة الأخيرة.