أربيل: «الشباب يشعرون بالغضب حيال حالنا، البعض لا يمل من ألتقاط لحظات بؤسنا بأخذ صور لنا، ورفعها على وسائل التواصل الاجتماعي، مع الوقت بات الأمر اعتياديا، إذ حتى خبر وفاة متقاعدين وهم ينتظرون في طوابير استلام الراتب، بات خبرا مثله مثل أي خبر يتعلق برواتب موظفي الإقليم، لينشر ضمن شريط الأخبار العاجلة الحمراء التي لا تغادر شاشات المحطات الكردية المحلية، وهي تتسابق لنشر جدول توزيع الرواتب، وعاجلا تنشر خبر نفاذ المال من المصارف، وتاليا خبر تأجيل توزيع رواتب الدائرة الفلانية ولاحقا تنشر تقديم توزيع رواتب وزارة على وزارة أخرى.. قوتنا اليوم مادة إعلامية وسبق صحافي»، والكلام لكاك سامان، معلم فاضل متقاعد قضى أكثر من 45 عاما مدرسا، اليوم أمام إحدى مصارف توزيع رواتب المتقاعدين المدنيين، واضعا كمامته، ليس للوقاية من كورونا بل ليمنع ما هو أخطر من الفيروس الفتاك من المرور إلى رئتيه، كما يقول إن كل «شيء بات يشكل لهم مأساة، فحتى السماء صارت تمطر غبارا ورملا وعوزا في بقعة تطفو على الخيرات والثروات الباطنية».
ويتابع كاك سامان سرديته لحاله وحال أقرانه من المتقاعدين: «أن تستلم الراتب من عدمه هو قضاء وقدر، يجب أن نرضى بقضاء يقضي بأخبارنا بعد انتظار سبع أو عشر ساعات في الطابور، أن المصرف نفد منه المال ولن تستلم الراتب اليوم... هو قدرنا وما علي إلا أن أجر زيل الخيبة وأعود أدراجي إلى البيت وأخبر جسمي الهزيل الذي أنهكته ثقل الأعوام أن يتوقف عن متطلباته من أدوية السكر والضغط.. إلخ»، متسائلا: «ماذا يمكننا أن نفعل أمام جبروتهم؟! وماذ سيفعل الشاب الذي يقف عاجزا أمام هذا المشهد، ويلتقط مأساتنا، وهو أصلا عاطل عن العمل، وجل تفكيره أن تقذفه أمواج البحر إلى إحدى الشواطئ الأوروبية».
مشهد طوابير رجال ونساء طاعنين في السن، في ظل درجات حرارة مرتفعة، أو في البرد القارس أو في عاصفة رملية، لساعات طويلة أمام المصارف لاستلام رواتبهم المتأخرة بات من المشاهد المألوفة في شوارع مدن إقليم كردستان العراق، حالها حال العواصف الرملية التي اعتادت أيضا اجتياح سماء الإقليم مع توارد الأخبار عن تصحر يجتاح سنوات العراق القليلة القادمة هو أيضا صار متلازمة نشرات الأخبار اليومية.
في 29 مارس (آذار) توفي متقاعد يدعى فتاح رضا، ويبلغ من العمر 83 عاما، خرج من البيت الساعة الرابعة فجرا لياخذ دوره في طابور استلام الراتب أمام مصرف تانجرو في مدينة السليمانية.
في 20 مارس توفي شخصان كانا ضمن طابور استلام الراتب التقاعدي من أحد منافذ الصرف في محافظة السليمانية.
في 21 مارس ذهب أحمد عزيزي (63 عاما)، وهو من البيشمركة، بعد صلاة الفجر ليأخذ مكانا متقدما ضمن طابور الانتظار أمام المصرف، إلا أن تدهور حالته الصحية التي لم تقو على الوقوف مطولا، أنهكته وأعيته ونقل على أثرها إلى مستشفى سوران للطوارئ، وتوفي هناك.
4 حالات وفاة سجلت خلال شهر لمواطنين متقاعدين أثناء انتظارهم في طوابير انتظار استلام الراتب في كل من مدينتي السليمانية وأربيل، ما حدا بدائرة صحة محافظة السليمانية، تشكيل فرق طبية للانتشار أمام مصارف توزيع الرواتب لكن بحسب كاك سامان فإن هذه الفرق هي لإطالة عمر المأساة دون أن يرف جفن مسؤول.
قضية تأخر تسليم رواتب موظفي إقليم كردستان تعود إلى أزمة اقتصادية مزمنة منذ أكثر من ثماني سنوات، والتي لم تخل من موجات احتجاجات غاضبة شملت مدن ومناطق إقليم كردستان، وإضراب عن العمل في الدوائر الحكومية فيما لا تزال حكومة إقليم كردستان عاجزة عن استئصال أسباب العجز.
الأزمات الاقتصادية والسياسية المتتالية بسبب الفساد المستشري في إقليم كردستان العراق، وهيمنة كل من تركيا وإيران على مدخراته وثرواته، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية داعش، وخسارته لمناطق شاسعة غنية بالنفط كانت تؤمن له واردات ضخمة وتعمق الخلافات مع بغداد، وإصرار الحكومة العراقية على عدم دفع مستحقات كردستان لوجود مخالفات في بيع وتصدير النفط والغاز وعمل المنافذ الحدودية.
كل ذلك دفع حكومة الإقليم إلى تطبيق نظام ادخار الرواتب، وبدأت حكومة الإقليم بتطبيق نظام ادخار الرواتب الإجباري (استقطاع) في فبراير (شباط) 2016 بنسب تراوحت بين 15 في المائة إلى 75 في المائة، أجرت تعديلا في 2018 على النظام لتصبح نسب الاستقطاع بين 10 في المائة إلى 30 في المائة، عندما كان رئيس كردستان العراق الحالي نيجيرفان بارزاني رئيس وزراء حكومة الإقليم، وفي يونيو (حزيران) 2020 أعلنت عن استقطاع نسبة 21 في المائة من رواتب الموظفين العاملين في القطاع الحكومي جراء الأزمة المالية الناجمة عن انخفاض أسعار النفط وقطع الحكومة الاتحادية لرواتب موظفي الدولة في الإقليم، وفي يوليو (تموز) 2021 أعلن مسرور بارزاني أن حكومته ستوزع رواتب موظفي الدولة دون استقطاع، لكن ما حصل أن صرف الرواتب بدأ يتأخر والموظف قد يضطر ليحصل على مستحقاته كل خمسين يوما.
ومنذ بداية عام 2022 ولغاية شهر مايو (أيار) الحالي استلم الموظفون 3 رواتب في أربيل ودهوك، في حين استلم موظفو محافظات السليمانية وحلبجة وكرميان راتبين فقط من أصل 5.
وأصلا تشكك حكومة بغداد في أعداد موظفي إقليم كردستان، الذين تقول أربيل إن عددهم يصل إلى مليون وأربعمائة ألف موظف، وتكتفي الحكومة المركزية بصرف رواتب موظفي الإقليم المثبتين في قاعدة البيانات المركزية.
ويبلغ عدد سكان كردستان نحو 6 ملايين و33 ألف نسمة، منهم 1.2 مليون موظف حكومي، ويحتاج الإقليم إلى 895 مليار دينار (614 مليون دولار) شهريًا لتوزيع الرواتب، أي نحو 10 تريليونات و740 مليار دينار (7 مليارات و368 مليون دولار) سنويا.
فشل إداري وغياب رؤية
النائب في برلمان إقليم كردستان علي حمة صالح يشرح أسباب الأزمة الاقتصادية في الإقليم ويقول في حوار لـ«المجلة» إن «الإقليم ما زال يفتقر إلى الرؤية الاقتصادية والمالية، ولحد اليوم ليس هناك بنية تحتية اقتصادية قوية، لا شركات ولا معامل توفر منتجات المستهلك في الإقليم وواردات الإقليم من بيع النفط يذهب القسم الأكبر منها لتأمين رواتب موظفي الإقليم»، مشيرا إلى أن «82 في المائة من رواتب الموظفين في إقليم كردستان تعتمد على واردات النفط، ويبقى من بيع كل برميل نفط 42 في المائة صافي إيرادات لخزينة الحكومة، وما ينقص من استكمال رواتب موظفي الإقليم يتم دفعه من واردات القطاعات الأخرى من الضرائب والرسوم الجمركية»، عازيا تضخم أعداد الموظفين إلى العشوائية في تسجيل الحكومة لأعداد كبيرة من الحزبيين وأنصارها كموظفين في دوائرها ما أزّم الوضع الاقتصادي».
ويوضح صالح قائلا: «إن الإقليم بحاجة إلى قرابة 600 مليون دولار شهريا باستثناء ما يتم تخصيصه من مساعدات من التحالف الدولي لقوات البيشمركة لدفع رواتب الموظفين وما يتم تخصيصه من قيمة بيع النفط للرواتب هو 488 مليون دولار شهريا وما يتبقى هو 112 مليون دولار من عائدات أربيل والسليمانية تتوزع كالآتي، أربيل 57 في المائة، والسليمانية 43 في المائة، لكن السليمانية لم تستطع توفير تلك النسبة من عائداتها ما جعل مشكلة الرواتب تتفاقم في المحافظة».
ويمتلك إقليم كردستان العراق 3 مصادر للإيرادات العامة، وهي: حصته من الموازنة العامة الاتحادية، وعائدات بيع النفط، والعوائد غير النفطية من الضرائب ورسوم الجمارك.
كما لا يغفل صالح أيضا «الهيمنة الاقتصادية لكل من تركيا وإيران على واردات إقليم كردستان». ويقول في هذا الخصوص: «طبعا لإيران وتركيا تأثير كبير ولهما حضور قوي في السوق المحلية، وإذا افترضنا أنه تم إنشاء عدد من المعامل تؤثر على تصريف المنتج التركي في السوق المحلية فسوف تتم عرقلتها، بالتأكيد يسري ذلك على المنتج المحلي على سبيل المثال الدجاج المحلي يغطي حاجة السوق ولكن مع ذلك لا يمكن لحكومة الإقليم اتخاذ قرار يوقف استيراد الدجاج المجمد التركي، وكثيرا ما يتم إدخال مواد ومنتجات فاسدة تركية وإيرانية للإقليم بدون أن يكون للإقليم أي موقف بسبب هيمنة تلك الدول أولا. وثانيا قد يكون لدينا اكتفاء ذاتي ببعض المنتجات لكن في العديد من المجالات الأخرى إقليم كردستان غير منتج لعدد كبير من المنتجات التي تلبي مطالب المستهلكين لتغدو أسواق الإقليم بل العراق هي أسواق لتصريف بضائع الدول الأخرى».
العقد الخمسيني الغامض
وفي جانب آخر يلفت البرلماني الكردي إلى أن الفساد المستشري في ملف النفط وغياب الشفافية في العقود الموقعة مع الشركات النفطية العاملة في إقليم كردستان دون أن يمر على ما يسمى العقد الخمسيني الموقع مع تركيا والتي بموجبها ينقل نفط الإقليم عن طريق أنابيب تركية إلى ميناء جيهان التركي ومنها إلى دول أخرى. ويكشف قائلا: «أحد بنود العقد حسب علمي هو نقل نفط إقليم كردستان عن طريق الأنابيب التركية إلى ميناء جيهان مقابل 50 مليون دولار لتركيا ثمن نقل النفط عبر أنابيبها، وحاليا ما يبقى من بيع نفط إقليم كردستان فقط 42 في المائة، ما تبقى يذهب تكاليف نقل ومستحقات الشركات، مثلا إذا كان سعر خام برنت 112 دولارا، فإن الإقليم يبيع نفطه بـ100 دولار، صافي ما يتبقى من الـ100 دولار لوزارة المالية هو 42 دولارا، ما تبقى هو أجرة النقل لتركيا ومصاريف أخرى، إضافة إلى أن أجرة الأنابيب تقريبا 15 في المائة لكل برميل وهذا مبلغ كبير جدا»، مشيرا إلى أن الإقليم وقع عددا من العقود مع الشركات النفطية بعد تشريع برلمان إقليم كردستان لقانون النفط في 2007، معبرا في نفس الوقت عن قناعته بضرورة العودة إلى بغداد فيما يخص ملف نفط الإقليم.
بعد صدور الدستور العراقي عام 2005، تمت بعض الاتفاقات النفطية بين إقليم كردستان وبغداد حيث صدر قانون النفط والغاز العراقي في 15 فبراير 2007 والذي وافق مجلس الوزراء عليه في نفس الشهر، إلا أن القانون بقي حبيسا في مرحلة الصياغة بسبب خلافات، الأمر الذي ترك الباب مفتوحا للمناورة في تفسيرات المواد الدستورية.
وأعلن رئيس حكومة العراق ورئيس الوزراء العراقي في ذلك الوقت أنه على الحكومة العراقية وإقليم كردستان إدارة ملف النفط والغاز معاً وفقاً للمادة 112 من الدستور الفيدرالي، وتلكأ مجلس النواب العراقي في تشريع القانون، وفي 6 أغسطس (آب) 2007 وافق إقليم كردستان على قانون النفط والغاز في البرلمان.
وتنص المادة 112 من الدستور العراقي في فقرته الأولى على أنه «تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدة محددة للأقاليم المتضررة، التي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد».
فيما تنص الفقرة الثانية من المادة نفسها على الآتي: «تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي، معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار».
وبيع إقليم كردستان للمشتقات النفطية بدأ في سنة 2012 بشكل مستقل عن بغداد. بعد ذلك قرر الإقليم بيع النفط الخام المستخرج من منطقة شيخان ونقله إلى الموانئ التركية عبر شاحنات لنقل النفط.
وبحسب التسريبات الشحيحة حول الاتفاقية الخمسينية، ففي مارس 2013 عقدت اتفاقية بين الإقليم وتركيا لخمسين سنة.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 تم التوقيع على الاتفاقية من قِبَلِ نيجيرفان بارزاني الرئيس السابق لحكومة الإقليم، ورجب طيب إردوغان رئيس وزراء تركيا وقتها.
وفي يونيو (حزيران) عام 2014 كشف نيجيرفان بارزاني في برلمان كردستان أنهم عقدوا اتفاقية حول الطاقة لخمسين سنة مع تركيا، وإذا ما اقتضى الأمر فإنهم سوف يُمدِّدونها لمرة واحدة، وفي مايو 2014 تم بيع نفط الإقليم عبر ميناء جهان التركي.
وما زال الغموض يَلُفُّ تفاصيل وبنود الاتفاق الخمسيني لحد اليوم ورغم مطالبات النواب في برلمان كردستان مرات عدة كشف النقاب عن الاتفاقية إلا أن جميع الدعوات لم تأت بنتيجة.
وخلال الأسابيع الأخيرة من ولاية نوري المالكي الثانية في عام 2014، رفعت دعوى في محكمة تجارية تابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس ضد تركيا بشأن مبيعات نفط إقليم كردستان عن الأراضي التركية، وأعلن العراق في حينها عن تقديم طلب تحكيم ضد الجمهورية التركية وشركة بوتاس لخطوط نقل النفط التابعة للدولة، إلى غرفة التجارة الدولية في باريس، لأن تركيا نقلت النفط الخام من إقليم كردستان عبر ناقلة في ميناء جهان التركي، ومن دون إذن من وزارة النفط العراقية.
لكن الدعوى تم تجميدها من قبل رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في نهاية 2014، ثم فعلها في مطلع 2017، قبل تجميدها في أيامه الأخيرة على رأس الحكومة، ثم أوقفها رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي بطلب من القيادة الكردية، وعاد رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي لتفعيل الدعوى من جديد.
وتطلب الحكومة العراقية بموجب الدعوى من الحكومة التركية سداد نحو 26 مليار دولار إلى العراق، ناجمة عن قيام الأخيرة بتصدير نفط الإقليم خلال السنوات الماضية من دون موافقة رسمية من بغداد.
النائب علي حمه صالح يعبر عن قناعته بأنه في النهاية يجب أن يتم الاتفاق بين أربيل وبغداد حول ملف النفط والغاز.
المسؤولون في حكومة إقليم كردستان من جهتهم يعزون الأزمة إلى أن الإقليم لم يستلم حصته من موازنة العراق الاتحادية البالغة 12.5 في المائة بشكل منتظم منذ عام 2014، وأيضا إلى نزوح أكثر من مليوني عراقي نحو الإقليم، خلال الحرب على داعش مما تسبب في تراكم الالتزامات المالية بخصوص رواتب الموظفين ومستحقات شركات النفط والمقاولين.
كما أن انتشار جائحة كورونا أدى لانخفاض أسعار النفط لمستويات غير مسبوقة وتصفير العائدات العامة، مما رفع سقف الالتزامات المالية والقروض إلى 30 مليار دولار وهناك عجز مالي شهري لدى الإقليم يبلغ 25 مليون دولار كون جميع عقود كردستان النفطية مشاركة، أي لم تستثمر في الصناعة النفطية، الأمر الذي أدى لذهاب أكثر من نصف عوائد النفط للشركات المستثمرة في حقول الإقليم.
الإقليم يعتمد بنسبة 85-90 في المائة على واردات النفط، إذ ينتج يوميا 500 ألف برميل تشكل إيراداتها مليارا و200 مليون دولار شهريا حسب الأسعار الحالية، في وقت يبلغ فيه مجموع الرواتب نحو 600 مليون دولار..
وقد بلغ معدل التغيير السنوي للتضخم في محافظات الإقليم لسنة 2021 نحو 7.5 في المائة، وفق آخر مسوحات هيئة إحصاء إقليم كردستان.
الطموح التركي والردع الإيراني
أيام والحديث يجري حول ملف الغاز في الأروقة الاقتصادية، يتسرب الكثير منه إلى الشارع الكردي ويتعامل معه المواطن بقلق وتوجس، عكس ما تريد أن تصوره الحكومة على أنه طوق نجاة من اختناق الإقليم في الديون والعجز.
وهناك من يجزم بأن الشارع الكردي لا يخفي وجود قلق من مسألة عدم تحقيق الاكتفاء المحلي، من الغاز الطبيعي قبل تصديره إلى دول أخرى، كما يحصل حالياً مع النفط، إذ ترتفع الآن أسعار البنزين، والنفط الأبيض مقارنة بباقي المحافظات العراقية، وهي مشكلة تؤثر على دخل المواطن. إن سيناريو تصدير الغاز الطبيعي سيكون مماثلاً لملف النفط، الذي تستغله تركيا أسوأ استغلال، إذ يصدر الإقليم النفط بأسعار رخيصة من دون تحقيق الاكتفاء الذاتي المحلي، وهو ما انعكس سلبا على حياة المواطنين.
ولحد اليوم لم يحل الإقليم معضلة تصدير النفط بمعزل عن الحكومة الاتحادية ليفتح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عين بغداد وطهران على ملف غاز الإقليم، وليأتي رد بغداد وطهران سريعا من خلال إصدار المحكمة الاتحادية العليا في العراق، بعد إعلان إردوغان بأيام قليلة، حكما يقضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان، الصادر عام 2007، وإلغائه لمخالفته أحكام مواد دستورية، فضلا عن إلزام الإقليم بتسليم الإنتاج النفطي إلى الحكومة الاتحادية.. وفي الجانب الآخر من الحدود أطلقت إيران في 13 مارس 12 صاروخا باليستيا على مدينة أربيل، وأصابت معظم الصواريخ الإيرانية فيلا يملكها الرئيس التنفيذي لمجموعة «كار» للطاقة باز كريم البرزنجي.
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أعلن في فبراير الماضي بحث مشروع استيراد الغاز مع رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، الذي أكد أنه سيناقش الأمر مع حكومة بغداد.
إلا أن صالح يؤكد عدم إبرام الإقليم أي اتفاقية حول تصدير الغاز وأنه ليس هناك أي غاز في إقليم كردستان يصدر للخارج، وليس ممكنا خلال الثلاث سنوات القادمة أن يتم ذلك، وكل ما يجري الحديث عنه لا أساس له، إذ إنه لحد الآن إقليم كردستان لم يوفر 50 في المائة من احتياجاته ونصف محطات توليد الكهرباء في الإقليم لا تعمل بسبب نقص الغاز، موضحا: «في الإقليم حقل إنتاج غاز هو قادر كرم بطاقة إنتاجية يومية 440 مليون قدم مربع لإنتاج الطاقة الكهربائية، في الوقت الذي يحتاج فيه الإقليم إلى 800 مليون متر مربع لإنتاج الكهرباء، وفي العام المقبل القدرة الإنتاجية اليومية ستصل إلى 750 مليون متر مكعب، وقتها حاجة الإقليم ستصل إلى مليار، لذا ليس هناك أي عقد وليس هناك أي خطة ولا برنامج لتطوير حقول الغاز، لتصل على الأقل إلى ملياري متر مكعب وقتها فقط تستطيع توفير 20 في المائة من حاجة تركيا للغاز، فكيف ستصدر الغاز إلى أوربا، وهذا بحاجة على الأقل إلى 8 سنوات في حال حلت المشاكل العالقة مع العراق لأن العراق سيكون عائقا أمام تحقيق ذلك، أؤكد أن عقد تطوير الحقل لزيادة الإنتاج لم يبرم لحد الآن».
عواقب كارثية
لكن أحمد حمه رشيد، النائب السابق في البرلمان العراقي وعضو اللجنة المالية الاتحادية، يقول لـ«المجلة» إن «تعامل إقليم كردستان مع ملف النفط ومؤخرا ملف الغاز بمعزل عن بغداد أدى إلى هذه الأزمة الحالية باعتبار أن العراق يعتبر أن النفط ملك للشعب العراقي وأن الحكومة الاتحادية حصرا ووزارة النفط لديها صلاحية التعامل مع الشركات العالمية لإبرام العقود وبيع النفط، لذلك هذه الأزمة قبل أن تكون بسبب تركيا والعراق أو إيران فإن المسؤول عنها هي السلطات في إقليم كردستان».
ويحذر قائلا: «إذا مضت حكومة الإقليم في ملف الغاز فالمنطقة أمام منعطف خطير، وبعد فشل مفاوضات الإقليم مع بغداد حول تطبيق قرار المحكمة الاتحادية حول النفط، والزيارة المفاجئة لرئيس حكومة الإقليم والاجتماع مع الرئيس التركي والتباحث حول غاز الإقليم يا ترى هل أبدت تركيا استعدادها لحماية مصالحها ومصالح الإقليم حتى ولو أدى إلى اجتياح عسكري»، مضيفا: «إقليم كردستان يلعب لعبة خطيرة خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني يتوجه لأن يكون بديلا للغاز الروسي أو الإيراني، وهناك عقد غاز إيراني تركي ينتهي في 2026 لذلك فالإيرانيون يريدون أن يبقوا على ورقة الضغط بيدهم وليس بيد إقليم كردستان، الغاز الروسي والنفط الروسي ورقة ضد الأوربيين لذلك الروس يرفضون ويمنعون بكافة الوسائل إقليم كردستان أن يكون بديلا لجزء من الغاز أو النفط الروسي بالتالي إقليم كردستان بضعفه وانقسامه السياسي ستكون نتائجه كارثية ومسؤول عنها الحزب الذي يمضي بهذا المشروع منفردا».
ويضيف: «المسألة الثانية نحن سألنا العديد من الخبراء في مجال الطاقة والغاز الذين أفادوا بأن إقليم كردستان ليس لديه احتياطي كافٍ يغطي الحاجة المحلية فكيف به أن يصدر الغاز إلى تركيا وأوربا، وأيضا أن العراق حاليا يشتري الغاز سواء المصاحب أو السائل من إيران ولا يستطيع دفع نفقاتها إلى إيران مباشرة، إذ لا العراق ولا إيران ولا روسيا يمكن أن يقبلوا أن يكون إقليم كردستان بديلا عنهم بالتالي هناك مخاوف عبرنا عنها بأن هذه القضية قد تنتج عنها نتائج وخيمة لمواطني إقليم كردستان».
ويستدرك قائلا: «عدم تشريع قانون للنفط والغاز في برلمان العراق لا يبرر بأن يصدر إقليم كردستان قانونا للنفط والغاز بخلاف المواد الدستورية، الأمر الذي أدى إلى إصدار المحكمة الاتحادية قرارا بعدم دستورية هذا القانون. ثانيا أن الإقليم تعامل مع ملف النفط بشكل غير علمي أو أكاديمي وأبرمت عقودا بالحقيقة هي مجحفة بحق الإقليم وبحقوق مواطني الإقليم وتم إهدار الثروة النفطية من قبل الساسة في إقليم كردستان».
ويشير إلى أن «المشكلة الأساسية للقائمين على إدارة الإقليم هي عدم الشفافية وعدم الوضوح في الملفات الاقتصادية حيث تم إبرام حوالي أكثر من 58 عقدا مع شركات عالمية عددها 37 دولة لا يعرف تفاصيلها إلا الدائرة الضيقة التي تحكم الإقليم، ولا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة بالتالي عدم الشفافية في هذا الملف أدى إلى عدم وجود قانون للموازنة خلال العشر سنوات الماضية في الإقليم، وبالتالي فقدت حكومة إقليم كردستان الثقة لدى مواطنيها، ليس أحزاب المعارضة فقط تنتقد الانفرادية بل حتى هناك خلاف حاد بين الحزبين الرئيسيين الحاكمين في الإقليم».
ويقول: «نحن مقبلون على تغيير جيوسياسي في المنطقة، هناك تغير في تبادل الأدوار في المنطقة وإقليم كردستان يريد أن يكون ضمن قائمة هذه التغيرات أو لاعب فيه وأن يأخذ مكانه على مستوى الطاقة العالمية لكن هذا الطموح قد يؤدي إلى نتائج كارثية والحزب الديمقراطي الكردستاني منفردا يحاول مع الحليف التركي أن يلعب هذا الدور وأن يحصل على مبتغاه».
الماء مقابل النفط
وحول إمكانية أن تضغط تركيا على العراق بالتلويح بورقة المياه، يجيب قائلا: «ليس مستبعدا خاصة أن الأتراك لوحوا بهذه الورقة في وقت سابق وأدت إلى تجميد العراق للدعوى المقدمة ضد تركيا في محكمة غرفة التجارة بباريس وتم تجميد الدعوى مقابل سماح تركيا لجزء من مياه أليسو أن يدخل العراق، لذا العراق يحاول من خلال استثمار الدبلوماسية مع تركيا ومع الشركات العالمية النفطية التي تشتري نفط الإقليم أن تنذرهم بأن النفط الذي يشترونه مخالف للقانون، وهناك مباحثات داخل الأروقة وخلف الكواليس وفي حال فشل الأسلوب الدبلوماسي يمكن أن يعاد انتشار القوات الاتحادية في المناطق المتنازع عليها والتي يدعي العراق أو الحكومة الاتحادية أنها تابعة له ومن ضمنها مناطق وجود النفط وبالأخص إحدى الآبار التي تنتج يوميا 170 ألف برميل، لذلك هناك نية في انتشار القوات العسكرية تابعة للحكومة الاتحادية في محيط آبار النفط لا أستبعدها، وحذرنا القائمين على الحكم في حكومة إقليم كردستان بأنه في حال إقدام الحكومة الاتحادية على هذه الخطوة سيؤدي إلى نتائج كارثية».
ويلفت إلى أن «مقايضة النفط مقابل الماء لا يخفيها الأتراك.. كنت عضوا في إحدى اللجان المشكلة في مجلس النواب الاتحادي حول قضية (إي سي سي) لذلك في وقتها كانت هناك زيارات ومناقشات واجتماعات بين وزارة المياه التركية ووزارة الموارد المائية في الحكومة الاتحادية وقد طرح الأتراك أنهم يستطيعون أن يكافئوا العراق بالمقدار الكافي من الماء مقابل الشراء من الشركات النفطية حصرا من الدولة التركية حتى يحصلوا على المياه من جانب آخر إذ يمكن مبادلة النفط بالمياه والغاز بالمياه في سبيل أن تراعى المصلحة لدى البلدين لكن يبقى السؤال الأهم: ضمن أي مشروع المحورين وماذا سيستفيد الإقليم».
ويذكر أن تركيا باشرت منذ العام 1985 بتنفيذ مشروع الكاب Gap الضخم على نهري دجلة والفرات ويتألف من 13 قسماً، 6 منها على نهر دجلة و7 على نهر الفرات ويغطّي ست محافظات تركية، ومن الناحية الفعلية، فإن تركيا ومن خلال هذا المشروع العملاق بحسب مختصين فإن تركيا يمكنها أن تتحكم بالمياه وتستخدمها لفرض سياسات واقتصاديات على كل من سوريا والعراق، خصوصاً حين تصبح أيضا «سلة غذاء» لتزويد الشرق الأوسط بما يحتاج من مزروعات وفواكه وذلك بالضد من معاهدة هلسنكي التي تنظّم حقوق الدول المتعلقة بالأنهار الدولية لعام 1973 ومؤتمر الأرجنتين حول الموارد المائية لعام 1977، تلك التي تنظّم طرق الاستفادة من الأنهار الدولية وفقاً لقواعد الحق والعدل والحاجة الضرورية، وبما لا يؤدي إلى إلحاق ضرر بالسكان والممتلكات والبيئة وغيرها من الاستخدامات غير المشروعة.
والسؤال يبقى إذا لم تنجح مقايضة تركيا وتلويحها بورقة المياه للضغط في إقناع بغداد بطموحها بمشروع الغاز هل سنكون أمام سيناريو تقسيم الإقليم والتحول من منطقتي نفوذ اقتصادي إلى إداريين أتباع منطقة لتركيا وأخرى تدار من بغداد مباشرة خاصة أن الخلافات المتفاقمة بين الحزبين الكبيرين في إقليم كردستان (الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني بزعامة بافل طالباني) تتفاقم- إلى جانب خلافات الإقليم مع الحكومة الفيدرالية في بغداد- والتي تعد أهم المعرقلات أمام مشروع غاز الإقليم نحو أوروبا.
وأعلن رئيس حزب الاتحاد الوطني بافيل طالباني، نجل الرئيس العراقي الأسبق الراحل جلال طالباني، معارضته الواضحة لمد الأنبوب من مدينة السليمانية التي يسيطر عليها حزبه، وقال طالباني: «أعلن هنا بأنه على جثتي سيُمد أنبوب الغاز إلى الخارج، إذا خالف ما يطلبه المواطنون ولم يكن في خدمتهم».
يجيب النائب أحمد حاجي رشيد مستبعدا حدوث ذلك قطعيا ويقول إن «إقليم كردستان من التسعينات ولحد اليوم لم يكن موحدا كانت هناك إدارتان حتى بالموازنة المرسلة من الحكومة الاتحادية كان يتم تقسيمه في الطائرة الموجهة للإقليم كالتالي 47 في المائة لإدارة الاتحاد الوطني و53 لإدارة الديمقراطي الكردستاني في أربيل ودهوك، لكن شكليا بعد مفاوضات دبلن تم تشكيل حكومة في إقليم كردستان ولكن على الأرض توجد إدارتان، هناك قرية اسمها ديكله تعتبر الخط الفاصل إذ من زاخو إلى ديكله منطقة نفوذ الديمقراطي الكردستاني ومن ديكله إلى منطقة كلار وجنوبا إلى كفري يسيطر عليها الاتحاد الوطني»، مستنأنفا: «اليوم الهوة تتسع بين الحزبين الشريكين في السلطة؛ الاتحاد الوطني يطالب بأن يكون التعامل مباشرا مع الحكومة الاتحادية ببغداد حول ملف النفط والغاز، لكن الديمقراطي يصر على أن يكون ملف نفط وغاز الإقليم مستقلا عن بغداد وأن يكون تصدير الغاز والنفط عن طريق تركيا رغم الخلاف إلا أن سيناريو تقسيم الإقليم غير وارد قانونيا لأن الإقليم كيان دستوري ولا يمكن تعديل الدستور إلا من خلال استفتاء عام، وموضوع الكونفدرالية ليس مطروحا وحين طرحه رئيس وزراء الإقليم قبل أيام أؤكد أن هذه الدعوة غير مستجابة لا من العراقيين ولا من الأحزاب الكردية لحد الآن».
تضاد مصالح
بين تركيا من جهة التي تعتبر ملف غاز الإقليم ذا أهمية استراتيجية بالنسبة إليها، فمن جهة سيحررها من أداة تحكم إيرانية تقليدية، تتحكم بها منذ سنوات، كذلك سيحسن من موقع تركيا في المنظومة الأوروبية، فغاز إقليم كردستان سيضاف إلى الغاز المنوي تصديره من أذربيجان، وتالياً ستتحول تركيا إلى معبر حتمي للاقتصاد وشريان الحياة في أوروبا، ومن جهة أخرى سعي إيران للاستمرار كمصدّر حصري للغاز الطبيعي إلى العراق، والذي يستخدمه هذا البلد في مجال إنتاج الكهرباء، ويوفر للخزينة العامة الإيرانية مبالغ مالية طائلة، وخصوصاً أن العراق يستطيع منذ سنوات الحصول على إعفاءات من منظومة العقوبات الأميركية على إيران، وتالياً يُعد مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة لطهران، يقف إقليم كردستان بين فكي كماشة أحلاهما مر، خاصة أن الإقليم يعاني إضافة إلى الانقسام السياسي يعاني من أزمة مالية واقتصادية متراكمة، وعليه كتلة من الديون الخارجية. كما أن الاستخراج والتصدير الاستراتيجي للغاز يتطلب استثمارات خارجية بمبالغ ضخمة، في وقت تبدو نسبة المخاطرة في تلك الاستثمارات عالية نسبياً، بسبب الخلاف القانوني مع المركز، والتوترات الأمنية المحيطة بالإقليم. وفوق الأمرين، فإن استخراج وتصدير الغاز يعني إلى حد ما ضرباً للمصالح الروسية، إذ تملك استثمارات ضخمة في إقليم كردستان، وفي القطاع النفطي بالذات، وهي معضلة ثالثة يجب تجاوزها.
ويشير خبراء هندسيون إلى أن الإقليم يحتاج إلى قرابة خمس سنوات من العمل الاستراتيجي، ليستطيع البدء باستخراج وتصدير الغاز في شكل تجاري، فيما لو توافرت الاستثمارات ومعها الاستقرار القانوني والأمني خلال هذه الفترة.
ويقع إقليم كردستان العراق على حدود كل من إيران وتركيا، وهما دولتان عالقتان في شبكة من المصالح المعقدة والمتضاربة في الكثير من الأحيان في الشرق الأوسط.
وبحسب محللين ما يحدث اليوم بين القوتين الإقليميتين في إقليم كردستان والمناطق المتنازع عليها في شمال العراق وبالتحديد منطقة سنجار هي أقرب ما يكون إلى حروب الإنابة.
فالتحركات التركية الأخيرة في سنجار والتوجس الإيراني وتحريك أذرعها في العراق لفرض سيطرتها على سنجار لا يمكن عزله عن جهود بناء خط أنبوب الغاز.
واقعيا كثيرا ما تتفق القوتان ضد أي طموح كردي وحتى صراع القوتين عادة ما يستهدف استقرار الكرد فمن تقاسم للنفوذ إلى حرب الإنابة تعددت أشكال الصراع على إقليم كردستان بين القوتين ولعبت دورا أساسيا في وأد الحلم الكردي في تشكيل أي كيان.
صراع على الإقليم
المؤرخ والمفكر الكردي دكتور جبار قادر يعتبر في حوار لـ«المجلة» أن «الصراع على كردستان عموما بأجزائه الأربعة صراع طويل ودائما كانت هذه المنطقة مقسمة بين إمبراطوريتين أو أكثر حتى قبل ظهور الدولة العثمانية وظهور إيران الصفوية ولكن إذا تجاوزنا العصور القديمة واكتفينا بالخمسمائة عام الماضية يمكن أن نتحدث عن الصراع الذي حدث أثناء معركة جالديران عام 1514 والتي كانت من نتائجها المباشرة تقريبا تقسيم كردستان إلى جزأين الجزء الأكبر خضع للسيطرة العثمانية، السيطرة كانت شكلية من خلال الأمراء الكرد والزعماء القبليين الإقطاعيين الكبار، وبين إيرن الصفوية».
ويضيف قادر: «في الحرب العالمية الأولى جرى التقسيم الثاني، هذه المرة جرى تقسيم الممتلكات العثمانية في كردستان إلى ثلاث مناطق وهي الأجزاء المعروفة اليوم كردستان العراق وكردستان سوريا وكردستان تركيا بينما كردستان إيران بقيت ضمن الحدود المعروفة ولم يميزها أو تتطرق إليها هذه الاتفاقيات المعروفة نتيجة لفشل الكرد في إقامة دولة مستقلة لهم بعد الحرب العالمية الأولى، وأصبحت هذه المنطقة حتى في القرن العشرين منطقة تنازع خاصة عندما كانت تضعف سلطة الدولة المركزية، وفي عام 1925 بقرار من عصبة الأمم تم إلحاق ولاية الموصل بالعراق وإلحاق جنوب كردستان بالعراق وعقدت اتفاقية عام 1926 بين تركيا والعراق بتحديد الحدود بين الدولتين والتي قسمت نهائيا كردستان العراق وكردستان تركيا وعندما كانت الدولة العراقية مركزية قوية وتسيطر بقوة على كردستان عند ذلك كان التدخل الإيراني أو التركي يتراجع، لكن عندما تحرك الكرد للمطالبة بحقوقهم القومية ومع استمرار العمليات القتالية عند ذلك اضطرت الحركة الكردية أن تلجأ لطلب العون من هذه الدولة أو تلك وطبعا هذا العون لم يأت دون ثمن وأحيانا كان الثمن كبيرا وأدى إلى كوارث على الكرد».
ويتابع: «كما نعلم أن الدول تتنافس فيما بينها ولديها مواقف متباينة من القضايا العديدة ولكن في نفس الوقت عندما يتعلق الأمر بالكرد دائما تتوحد وقد رأينا ذلك في حالات كثيرة جدا في 1963هذه الدول اتفقت كلها ضد الحركة الكردية، من جهة شارك الجيش السوري في قمع الكرد، ومن جهة أخرى كانت هناك عملية مشتركة بين العراق وتركيا وإيران عرفت بعملية دجلة، وكان الهدف منها تطويق الحركة الكردية من قبل الدول الثلاث وبمساعدة الجيش السوري أيضا ولخنق هذه الحركة، إلا أن الحرب الباردة والموقف السوفياتي في ذلك الوقت أدى إلى تراجع الدول من تنفيذ مخططاتهم وفي المرحلة التالية جرى الاتفاق بين تركيا والعراق بإعطاء الحق للجيش التركي لملاحقة المقاتلين الكرد داخل الأراضي العراقية ورسميا كان للعراق أيضا نفس الحق لكن العراق لم يتمكن أبدا من أن يدخل جيشه الأراضي التركية».
ويضيف: «»وبعد 2003 ونتيجة للحالة التي وصلت إليها الأوضاع في العراق بدأت التدخلات بصورة كبيرة، الإيرانيون يسيطرون على المفاصل الحيوية في الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية العراقية والأتراك من جهتهم يحاولون أيضا أن يلعبوا دورا في هذا الصراع رغم أنهم يعادون الكرد وهم ضد كل تطلعاتهم إلا أنه وبسبب غياب السنة العرب عن العملية السياسية ومن ثم مقاومتهم للاحتلال الأميركي ودخولهم في إطار القاعدة ومن ثم داعش وتدمير مدنهم وقواهم العسكرية لم يتمكن السنة العرب من أن يكونوا ذراع تركيا القوية عند ذلك وجدت تركيا نفسها مجبرة وحاولت أن تاخذ من المسألة الكردية في كردستان العراق ورقة لها من خلال العلاقات الاقتصادية القوية والتدخل العسكري المباشر في العديد من المواقع في كردستان العراق».
اتفاق على تقاسم النفوذ
الهيمنة التركية والإيرانية على إقليم كردستان عابرة للهيمنة الاقتصادية بل اتخذت شبكة الهيمنات أبعادا عسكرية مباشرة وبالتأكيد للقواعد العسكرية لتركيا مثلا دلالة هامة على نفوذ تركيا وقوتها العسكرية وحضورها في المشهد السياسي والأمني لإقليم كردستان وبالتأكيد شبكة الهيمنات تلك تزعزع استقرار الإقليم وأمنه وبالتالي تؤثر حتى على شعور المواطن بثقته في حكومته وبثقته في تغيير الحال.
ويوجد في إقليم كردستان عشرات القواعد العسكرية والاستخباراتية التركية كما لا تتردد تركيا ولا إيران في انتهاك أجواء الإقليم تحت أي مبرر أو ذرائع مقابل صمت مطبق في أربيل وبغداد.
رئيس تحرير موقع «شار بريس» الإلكتروني، الصحافي كمال رؤوف، يربط أزمة إقليم كردستان بشكل مباشر بالتدخلات الإقليمية خاصة تركيا وإيران ويوضح رأيه في حور لـ«المجلة» بأن تركيا وإيران «الدولتان الإقليميتان اللتان لهما تأثير في عمق سلطة الحكم في إقليم كردستان، وأحيانا كثيرة التدخل يكون مباشرا من خلال التدخل العسكري لحسم الأزمات أو لفرض الإرادة وتوجهاتهم وأجنداتهم من الأحداث التي تقع في إقليم كردستان».
ويضيف رؤوف: «في حقبة ما كانت الحكومة العراقية أيضا جزءا لحسم أو فرض طرف على طرف آخر أو إحداث توازن بين الطرفين المتصارعن الكرديين، هذا كله جعل المواطن في إقليم كردستان يشعر بأن الأحزاب الكردية، بالأخص الحزبين الرئيسيين الحاكمين الاتحاد الوطني، والديمقراطي الكردستاني، ليس لديهما أي قضية وطنية أو قومية، أو قضية ذات عمق استراتيجي مع إيران وتركيا والعراق، ودائما كانا يرضيان تلك الدول قبل أن يرضيا المواطن.. وقبل أن يشكلوا إدارة وحكومة تلبي تطلعات الشعب ومتطلباته التي جاءت في الشعارات التي كانوا يتبنونها. هذا كله جزء من الأزمات وهذا مرتبط بموقع إقليم كردستان الجيوسياسي كونه محكوما بحقبة جالديران (أول تقسيم لكردستان بين الصفويين والعثمانيين) كحدث مفصلي في تاريخنا ومستمر لحد الآن كوننا أصبحنا جزءا من صراعاتهم الممتدة من ذلك التاريخ وحتى عصرنا الحالي».
ويتابع: «إقليم كردستان أصبح جزءا في ساحة هذه الصراعات وشعب كردستان زج في النهاية في حلبة صراع الدولتين كل ذلك كان على حساب شعب كردستان وثرواته واقتصاده، لذا باعتقادي الخروج من تحت نير هاتين الدولتين يعني الخروج من تحت نير الفساد، لأن هاتين الدولتين ببساطة تدعمان الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان وتدعمان حكم الأمر الواقع في إقليم كردستان، وبات لدى الحزبين قناعة كاملة بأنه لا الانتخابات ستغير الواقع، ولا الحراك الاحتجاجي سيأتي بأي تغيير، وفي النتيجة السلطة الحاكمة في الإقليم ترى أن قرار بقائه على سدة الحكم من عدمه مرتبط بموقف وقرار تركيا وإيران، والآن أضيف إليها بغداد».
ويكاد يجزم بأنه «إذا لم يتغير نظام الحكم في كل من تركيا وإيران فلن نرى في إقليم كردستان سلطة شعبية مستقلة في قراراتها ومواقفها، وباستمرار دعم هاتين الدولتين للسلطة الحالية في إقليم كردستان من المحال إحداث أي إصلاح إداري أو اقتصادي أو القضاء على الفساد، ولن تجبر لا المظاهرات الغاضبة ولا الحركات الاحتجاجية السلطة الحاكمة على القيام بالإصلاحات».
ويتابع قائلا: «أحيانا نسمع أنهم (تركيا- إيران) يتدخلون في الانتخابات ويتم التلاعب بنسب الأصوات لحساب الحزبين الحاكمين، وهناك وثائق تثبت ذلك، للأسف الطرفان يقبلان ذلك.. بالنتيجة هناك طرف لحساب إيران وطرف آخر لحساب تركيا، بالمحصلة هو إحداث توازن بين نفوذ الدولتين، لكن للأسف هذا التوازن لا يحقق حكما رشيدا لإقليم كردستان ولن يسمح أيضا بإيجاد بديل يتولى الحكم في الإقليم هذا ما يخص إقليم كردستان».
ويضيف: «أيضا تدخل هاتان الدولتان الإقليميتان كان سببا في إحداث صراع مع الأجزاء الأخرى في كردستان على سبيل المثال إغلاق الحدود بين إقليم كردستان وروج آفا (مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا) وهو جزء من المخطط التركي وأيضا الاقتتال مع حزب العمال الكردستاني وأيضا تشكيل فصيل روج العسكري في إقليم كردستان والممول من قبل تركيا، لذا ليس لتدخلات تركيا وإيران تأثير وتبعات فقط على إقليم كردستان بل يؤثر أيضا على الأجزاء الأخرى من كردستان».
ويؤكد أن «نهب ثروات إقليم كردستان واحدة من المسائل التي تقلق المواطن الكردي إذ لا يصح أن تفتح باب خزينة الثروات الباطنية وواردات الإقليم على مصراعيها أمام أعداء هذا الشعب ودولة لا تخفي عداءها للكرد وإصرارها على ضرب أي مشروع كردي، الشعب الكردي يدرك اليوم أن عداء دول إقليمية ليس مرتبطا بجغرافيا إنما بالفرد الكردي، أي عداءهم للكردي أينما كان وأينما حل، لذا فالمواطن الكردي غير راض.. لا بمنتجات الدولتين التي تغرق أسواق الإقليم بمنتجات منخفطة الجودة ومنتهية الصلاحية وفاسدة، وأهم من ذلك أن ثروة الإقليم من النفط والغاز سلمت أيضا».