التاريخ بدد أحلام محمد علي جناح

التاريخ بدد أحلام محمد علي جناح


في نظر الكثيرين من متابعي الأوضاع الباكستانية داخل المؤسسات البحثية الكبرى في الغرب، أن باكستان دولة آيلة إلى السقوط عاجلا أو آجلا. وبطبيعة الحال فإن القرائن التي يستندون إليها كثيرة ومتشعبة ولا يمكن الاستهانة بها.


فهذه البلاد، منذ أن استُقطعت من الهند البريطانية استجابة لطموحات محمد علي جناح السياسية الشخصية، لم تهنأ طويلا بالأمن والاستقرار، بمعنى أن تاريخها منذ العام 1947، طغت عليه صور الصراعات والاضطرابات والانقلابات والمؤامرات عطفًا على ملامح الفقر والجهل والتخلف والتعصب. وبعبارة أخرى؛ لا يجد المتصفح للتاريخ الباكستاني سوى مدنيين يتآمرون ضد بعضهم البعض، ومحافظين يحاولون إقصاء العلمانيين، وسنود يزاحمون البنجابيين على المناصب العامة، وقبليين أميين يتمددون على حساب سكان المدن والحواضر المتعلمين.


غير أن اللاعب الأكبر في كل الأحوال كان ولا يزال هو الجيش، شاملا على وجه الخصوص مؤسسة المخابرات الدولية الباكستانية المعروفة اختصارًا باسم: آي إس آي، فمؤسسة الجيش بفروعه المختلفة هي التي تُمسك بزمام الأمور، حتى في الفترات التي يجلس فيها المدنيون في السلطة، وهي التي لها الكلمة الفصل في السياسات الداخلية والخارجية، وهي التي تحدد اسم رئيس البلاد ورئيس حكومته وربما أعضاء الحكومة أيضًا. ومن هنا لم يكن غريبًا أن تكون أفضل الحقب في تاريخ باكستان الحديث لجهة الاستقرار والتنمية، وهي الحقب التي تولى الحكم فيها جنرالات الجيش مباشرة، باستثناء حقبة الجنرال يحيى خان القصيرة التي شهدت حرب البنغال وانفصال ما كان يعرف بباكستان الشرقية، وحقبة الجنرال ضياء الحق التي جاءت في زمن شهد تطورات إقليمية خاصة، ونقصد بها تطورات الأوضاع في أفغانستان المجاورة على إثر الغزو السوفيتي للأخيرة في عام 1979. فمثلا عهود الجنرالات إسكندر ميرزا ومحمد أيوب خان، وإلى حد ما عهد الجنرال برويز مشرف، كانت بصفة عامة عهود رخاء وأمن نسبية، استطاعت باكستان من خلال توثيق علاقاتها التحالفية والإستراتيجية بالغرب، وتقديم نفسها على أنها ضرورة من ضرورات الحرب الباردة، ولاحقا كضرورة من ضرورات التحالف ضد الإرهاب الدولي، أن تغرف الكثير من المساعدات العسكرية والمعونات الإنمائية من الولايات المتحدة وشريكاتها الغربيات، وبما وفر لها ضمانة وقتية ضد الإفلاس الاقتصادي وعجوزات الخزانة العامة.


ورغم ما لحق بالجيش الباكستاني من مهانة بسبب هزيمته المُرَّة في حرب البنغال في عام 1971،  ثم ما لحق به من خلل شوه كوادره ومنسوبيه وصورته كأحد أكفأ جيوش الشرق الأوسط وأكثرها انضباطًا ومناقبية وتقاليد عسكرية بفضل ما رسخه الإنجليز فيه منذ زمن استعمارهم لشبه القارة الهندية، بل أكثر جيوش المنطقة أيضًا لجهة القدرات الاستخباراتية بفضل ما أغدقه الغرب عليه خلال سنوات الحرب الباردة من أنظمة متطورة ومعونات وبرامج تدريبية، وذلك جراء قيام الرئيس الأسبق الديكتاتور ضياء الحق بإعطائه جرعة إسلاموية ضمن مشروعه الأوسع بأسلمة جميع مظاهر الحياة في البلاد  أثناء سنوات حكمه السوداء التي شهدت أيضًا، بسبب حرب الجهاد في أفغانستان، تجذر وانتشار ما عرف بثقافة "الكلاشينكوف" في المجتمع الباكستاني، الأمر الذي كانت له تداعيات خطيرة على مجمل أوضاع المؤسسة العسكرية، مثل اختراق أجهزتها من قِبل العناصر المتشددة، وانحدار صورتها تدريجيًّا من جيش يحرص عناصره على الانضباط والطاعة والولاء والنظافة والمناقبية والاهتمام بالمظهر الخارجي، إلى جيش يشكل الملتحون والأميون والقبليون والريفيون نسبة كبيرة من منسوبيه، وتختفي منه مشاهد الوجوه والأحزمة والأحذية المصقولة والطموح اللا محدود في الارتقاء بالذات.


رغم كل هذا التراجع، ورغم ما تلقاه أخيرًا في وضح النهار من ضربات جريئة غير مسبوقة طالت مقر قيادته العامة في راوالبندي في يوم 11 أكتوبر 2009، من قِبل عناصر ميليشيات طالبان/ باكستان، بل من قِبل عناصر طالبانية تنحدر من إقليم البنجاب الذي عرف تقليديًّا بأنه يمد الجيش بأكثر من نصف جنوده وضباطه، لا يزال الجيش الباكستاني هو الآمر الناهي في البلاد، والذي لا يمكن للساسة والمشرعين المدنيين أن يخالفوا أوامره أو أن يرفضوا له طلبًا، وإلا فإن دباباته جاهزة للخروج فجرًا والاستيلاء على السلطة بهذه الحجة أو تلك، على نحو ما فعله أكثر من أربع مرات بحجة حماية البلاد من فساد الساسة المدنيين أو تحت مبرر حماية باكستان من أطماع العدو الهندي، وبطبيعة الحال فإن هذا الجيش بات يتخذ اليوم من مخاوف الغرب حول احتمالات سقوط الترسانة النووية الباكستانية في أيدي العناصر والجماعات المتطرفة وسيلة لتعزيز مواقعه داخليًّا، وللحصول على المعونات خارجيًّا باعتباره الأمل الوحيد لصيانة وحماية قوة باكستان النووية التي لو وقعت في أيدي الطالبانيين وأنصارهم من تنظيم القاعدة الإرهابي المجرم، لكان ذلك بداية لحقبة سوداء مظلمة في تاريخ البشرية جمعاء.


لقد اتخذت عملية تأسيس الكيان الباكستاني شكلا خاطئًا منذ البداية، بمعنى أنها أغفلت عملية ترسيخ مبدأ خضوع العسكري للمدني، وليس العكس (أي على النحو الذي حدث وترسخ في الهند المجاورة على يد جواهر لال نهرو ورفاقه من زعماء الاستقلال)، فسارت الأمور بالتالي وفق منحى يشك الكثيرون  في أنه المنحى الذي أراده مؤسس البلاد محمد علي جناح. وزادت الأمور تعقيدًا حينما رحل الأخير بعد عام واحد فقط من قيام دولته، تاركًا مصيرها ومقاليد أمورها في يد خلفاء تنقصهم التجربة والكاريزما والدهاء السياسي أو الشرعية التاريخية، الأمر الذي كان وراء الكثير من حالات الصراع والتنافس والتآمر اللاحقة.


 الأمر الآخر الذي مهد لسقوط باكستان في أتون الخلافات وأعاق قيام تجربة ديمقراطية راسخة مسنودة بركائز علمانية على نحو ما كان يتمناه الزعيم المؤسس محمد علي جناح، هو انتقال الجماعات والقوى والأحزاب الإسلامية المتشددة ممثلة في رموز المدارس الديوباندية وأنصار أبي الأعلى المودودي (منظِّر فكر حركة الإخوان المسلمين) من الهند إلى باكستان برفقة جناح، وقيامهم بعد وفاة الأخير بدور تدميري وتخريبي ضد فكرة الدولة المدنية الحديثة القائمة على ركائز الديمقراطية والعلمانية والفيدرالية.




د.عبد اللـه المدني
- باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين

font change