الجيش والقوى الدينية طرفان أساسيان في المعادلة

الجيش والقوى الدينية طرفان أساسيان في المعادلة


رغم أن تاريخ الحكم في باكستان هو تاريخ الصراع بين النخبتين العسكرية والمدنية، فإن الجيش لم يغب عن الحياة السياسية في أي من تلك المراحل، بل إنه في بعض المراحل التي سيطرت فيها النخبة المدنية على السلطة، كان يتم استدعاء الجيش للقيام ببعض الوظائف المدنية، مما يشكل اعترافًا واضحًا من النخبة المدنية بصعوبة استبعاد الجيش باعتباره أحد أطراف المعادلة السياسية التي لا يمكن تجاهلها بسهولة. ومن الأمثلة البارزة في هذا الإطار؛ نظام نواز شريف الذي اعتمد على الجيش في إدارة الكثير من ملفات الإدارة المدنية.


والواقع أن هناك طرفًا ثالثًا لم يستطع السيطرة على السلطة المركزية في باكستان، ولكنه ظل مكونًا مهمًا في النخبة السياسية، سواء من خلال سيطرته على بعض البرلمانات والحكومات المحلية، أو من خلال تحالفه مع النخبة الحاكمة في بعض الفترات. هذا الطرف هو القوى الدينية التي دخلت في علاقة تحالف مهمة مع النخبة الحاكمة، خاصة النخبة العسكرية، وهي علاقة تعود إلى مرحلة تأسيس الدولة ذاتها، وظلت قائمة بعد التأسيس، كجزء من علاقات المصلحة التي نشأت بين الجيش وبين القوى الإسلامية، وامتدادًا في الوقت ذاته لطبيعة الدولة الباكستانية التي قامت على أساس ديني.


وهكذا، فإن الحقيقة الأولى التي تشير إليها خبرة تركيب النخبة الحاكمة في باكستان هي؛ حضور الجيش في الحياة السياسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وعدم قدرة النخبة المدنية على الاستبعاد الكامل للجيش من المعادلة السياسية .. الحقيقة الثانية هي؛ الدور المهم الذي اضطلعت به القوى الدينية.


واستنادًا إلى هاتين الحقيقتين، فإن ما يحدث الآن في باكستان هو نوع من التحول في مضمون وجوهر هذه الثوابت التي حكمت باكستان طوال العقود السابقة.


ويتمثل أول مظاهر هذا التحول في إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والقوى الدينية، وهي العملية التي بدأها على استحياء الرئيس السابق برفيز مشرف، إلا أنها لم تتسم بالوضوح والالتزام السياسي. ففي الوقت الذي أدخل فيه مشرف تغييرات جوهرية على توجهات السياسية الخارجية (التخلي عن نظام طالبان أفغانستان، والاندماج في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وإعادة صياغة ثوابت الخطاب الباكستاني تجاه الصراع حول كشمير) لم تواز ذلك تحولات بنفس القوة والوضوح على المستوى الداخلي، فرغم الإجراءات المهمة التي اتخذها مشرف ضد عدد من الجماعات الإسلامية المتشددة، فإنها لم تنل من السمات الهيكلية للنظام. فقد اقتصرت تلك المواجهة على التنظيمات الإسلامية العنيفة، والتي شكلت تهديدًا للنظام، كما جاءت في جزء منها تحت تأثير الضغوط الخارجية وليس نتيجة مبادرة من جانب النظام. وظلت تلك المواجهة بعيدة عن الأحزاب الستة الإسلامية الرئيسية، ممثلة في "مجلس العمل الموحد" الذي أصبح شريكًا أساسيًّا للنظام بعد انتخابات سنة 2002.


أما التحول الثاني فهو؛ التحجيم النسبي للدور السياسي للجيش، وهو المشروع الذي رعته الولايات المتحدة، والذي قام على إحياء وتشجيع الأحزاب السياسية العلمانية ودعْمها للوصول إلى السلطة ضمن حزمة من التطورات، بدأت بإجبار الرئيس برفيز مشرف على التنازل عن قيادة الجيش، وانتهاءً بنجاح القوى السياسية المدنية في إجباره على الاستقالة، ووصول حزب الشعب إلى السلطة.


وقد شهدت الفترة منذ تولي القوى المدنية السلطة، حالة من التناغم بين الجناحين ـ العسكري والمدني ـ عبّرت عنها بشكل واضح العمليات العسكرية الجارية التي يقوم بها الجيش ضد حركة طالبان- باكستان. غير أن هذا التوافق السياسي قد تحقق نتيجة تلاقي مصالح كلا الجناحين. فمن ناحية، وفي ظل المراجعات التي كانت قد بدأتها إدارة أوباما للسياسة الأمريكية في منطقة جنوبي آسيا، كان من المنطقي أن تعيد تلك الإدارة حساباتها وتقييمها لنظام آصف زرداري، وكانت قد بدأت بالفعل بعض الإشارات حول فتْح الولايات المتحدة قناة اتصال مع نواز شريف. وكان لتلك الإشارات تأثيرها المهم على زرداري، فهو أكثر مَن يعلم مخاطر البارجماتية الأمريكية بالنسبة لمستقبله السياسي. ومن ثَم، كان من الطبيعي أن يتراجع زرداري عن نهجه المهادن الذي كان قد بدأه تجاه حركة طالبان، بتوقيع اتفاق تطبيق الشريعة الإسلامية في وادي سوات، بعدما كشفت الإدارة الأمريكية عن موقفها الرافض لهذا الاتجاه، وأن يتحول إلى الاستخدام المكثف للقوة العسكرية ضد الحركة. وكان من شأن الاعتماد المكثف على الجيش في هذه العمليات أن يحقق لزرداري مكاسب عدة، الأول: هو توجيه رسالة قوية للإدارة الأمريكية بأهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه الجناح المدني في السلطة في إطار الحرب على الإرهاب. والثاني: أن توريط الجيش في هذه المواجهة المفتوحة مع طالبان كان يعني إبعاد الجيش نسبيًّا عن الحياة السياسية، وتحييده، حتى ولو مؤقتا. والثالث: أن هذه المواجهة شكلت مناسبة للتأكيد على خضوع المؤسسة العسكرية للقرار السياسي للجناح المدني في السلطة.


أيضا، كانت للجيش مصالحه وحساباته الخاصة، يأتي على رأسها الحفاظ على علاقة جيدة مع الولايات المتحدة كشرط رئيسي لضمان تدفق المساعدات العسكرية. كما أن قيام الجيش بتلك العمليات كان من شأنه التأكيد للولايات المتحدة على أنه هو - وليس القوى المدنية -  الطرف الأقوى داخل باكستان؛ الذي يمكن الاعتماد عليه في مواجهة طالبان وغيرها من القوى الدينية المتشددة، وأن الجيش لا يزال هو الشريك الحقيقي للولايات المتحدة وليس القوى المدنية.


إلا أن هذا التوافق بين الجناحين قد بدأ في التراجع النسبي على أرضية الخلاف بينهما حول شروط المساعدات الاقتصادية الأمريكية المقترحة لباكستان، والتي تقدر بنحو 1.5 بليون دولار سنويا، لمدة خمس سنوات، الأمر الذي يشير إلى؛ أنه رغم أهمية التحولين السابقين في طبيعة النخبة الحاكمة في باكستان، فإن استمرار سيطرة القوى المدنية على السلطة، وتحجيم الدور السياسي للجيش يظل مرهونًا في النهاية بإجراء إصلاحات هيكلية للأجهزة الأمنية من ناحية، وتراجع دور القوى الدينية من ناحية ثانية، واستمرار المشروع السياسي الخاص بإحياء القوى السياسية المدنية- العلمانية، ونجاح هذه القوى في التوسع على حساب القوى الدينية، وملء الفراغ السياسي الذي أحدثته سياسات مشرف، من ناحية ثالثة، وإصلاح نظام التعليم والمدارس الدينية من ناحية رابعة.




محمد فايز فرحات -
باحث متخصص في الشئون الباكستانية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.

font change