استشعرت الولايات المتحدة الأميركية منذ أواخر تسعينات القرن الماضي وجود عدم رضا دولي ضد استئثارها بسلطة القرار على الصعيد العالمي، وبوادر تمرد على تعاملها ومعالجتها للقضايا الدولية السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية أيضا. ومن خلال بعض العمليات العسكرية التي أقدمت عليها واشنطن في عدد من المناطق مثل ضرباتها الجوية لمستشفى الشفا بالسودان ولقواعد تنظيم القاعدة في أفغانستان سنة 1998، وكذا عملية ثعلب الصحراء ضد العراق في نفس السنة بدا أنها تنتهز أي فرصة لاستعراض قوتها ونفوذها بغية ردع أي تحد أو تمرد على أحاديتها القطبية.
ولكن الفرصة المثلى للقيام بأكبر استعراض للقوة كميا ونوعيا يمكن تفهمه وعدم انتقاده على الأقل في الوهلة الأولى ستأتي لأميركا مخضبة بدماء مواطنيها إثر تعرضها لأول مرة منذ حادثة بيرل هاربر سنة 1941 لهجوم إرهابي في عقر دارها بتفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 .
واعتبرت واشنطن تلك التفجيرات استهدافا إرهابيا لرموز إمبراطوريتها المالية، وكشفا لثغرات نظامها الأمني، يتطلبان اتخاذ رد فعل كبير تستعرض من خلاله ضخامة قوتها، وآخر ما أنتجته مصانعها الحربية، وذلك ما قامت به في أفغانستان بإسقاط نظام طالبان الذي حملته مسؤولية حماية وإيواء العقول المدبرة لتفجيرات نيويورك، ثم في العراق بإسقاط نظام صدام حسين واحتلال البلاد، وإعادة تشكيل نظامها السياسي وفق الأهواء الأميركية.
ورغم فظاعة ذلك الاستعراض وفداحة الخسائر البشرية والمادية التي خلفها، فإنه لم يحقق الردع المطلوب، بل حول «موجة التعاطف العفوية غير المتحفظة في أعقاب 11 سبتمبر 2011 إلى موجة عداء لأميركا» كما يقول ستيفان هالبر، وجوناثان كلارك، في كتابهما «التفرد الأميركي: المحافظون الجدد والنظام العالمي»؛ الأمر الذي أدى إلى تأجيج شرارة التحدي للغطرسة الأميركية، الذي تبلور على مستويين:
* مستوى إقليمي محدود تجلى بصفة خاصة في الشرق الأوسط حيث تصاعدت قدرات التشويش الإيرانية على المشاريع الأميركية، وعلى حلفاء واشنطن في المنطقة من خلال أذرع إرهابية محلية في أكثر من بلد، كما تعددت محاولات تركيا للخروج عن الطوق الغربي والأطلسي سعيا إلى توسيع رقعة نفوذها، وتعظيم نسبة مكاسبها.
* مستوى كوني أوسع وأشمل يتمثل في:
- سعي روسيا للنهوض مرة أخرى بغية استعادة هيبتها الدولية التي فقدت الكثير منها بعد كبوتها إثر تفكك الاتحاد السوفياتي، وذلك من خلال بسط هيمنتها مجددا في محيطها الجغرافي ولو باستخدام قوتها العسكرية الضخمة إذا اقتضت الضرورة، فضلا عن توظيف مصادر الطاقة المتوفرة لديها لابتزاز القوى الأوروبية الغربية مستغلة ظمأها الشديد للطاقة.
- تواصل الصعود اللافت للصين على الساحة الدولية مستغلة ريادتها في مجالات التكنولوجيا الحديثة، ونموها الاقتصادي الكبير، الذي ساعدها على كسر الهيمنة الغربية على اقتصاديات العديد من مناطق العالم لاسيما في أفريقيا، ناهيك عن تطور قدراتها العسكرية، وجهرها بإرادتها في استكمال وحدتها الترابية بضم تايوان إليها، وترسيخ سطوتها في بحر الصين الجنوبي.
لقد استطاعت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن عبر سياسة العصا والجزرة احتواء التحديات الإقليمية المحدودة الرقعة الجغرافية ولم تسمح لها بالانفجار، كما استطاعت إلى حد كبير احتواء وتطويع أغلب التحديات الروسية قبل الأزمة الأوكرانية ؛ وذلك بغض الطرف عن مساعي موسكو لاسترجاع نفوذها في مناطق تعتبرها جزءا من مجالها الحيوي كما حصل في جورجيا، ثم فيما بعد في سوريا، حيث حرصت بدورها على قواعد اللعبة المرسومة في الشرق الأوسط، المتمثلة أساسا في عدم تعريض أمن إسرائيل للخطر، وعدم اعتراض ضرباتها الجوية الاستباقية على التراب السوري.
ولهذا، فإن التحديات الصينية ذات الطبيعة الكونية المتعددة المجالات ظلت وحدها تشكل الهاجس الأكبر، الذي يؤرق واشنطن، التي اضطرت إلى إعادة ترتيب جدول أولوياتها عالميا، وتوجيه بوصلة اهتمامها وتحويل معظم قدراتها العسكرية نحو الشرق الأقصى سعيا إلى احتواء تمرد الصين وكبح جموح طموحاتها؛ لأنها كما يقول المحافظون الجدد الذين سيطروا على السياسة الخارجية الأميركية مطلع الألفية الجديدة «خصم لا خيار معه سوى المجابهة والمواجهة والتحدي»، مؤكدين على أن الطموحات الصينية تتجاوز الرغبة في إخضاع معظم القارة الآسيوية كما كان يسود الاعتقاد سنة 2001؛ وإنما تسعى إلى تغيير النظام الدولي من أجل فرض هيمنتها، وهو هدف تأمل في تحقيقه، كما يزعمون، عندما ستحتفل سنة 2049 بالذكرى المئوية لوصول الحزب الشيوعي إلى السلطة في بكين.
وإدراكا من واشنطن بأنها غير قادرة لوحدها على احتواء شراسة التنين الصيني فقد سعت إلى تطويقه بتحالفات أسستها في الآونة الأخيرة تمثل أولها في ائتلاف «كواد» (QUAD) مع الهند واليابان وأستراليا، الذي أكدت قمته الأولى في واشنطن في سبتمبر 2021 على أن غايته هي الدفاع عن القيم الديمقراطية واحترام سيادة الدول، وحرية الملاحة البحرية والجوية في المحيط الهادي؛ فيما اعتبر الثاني المسمى AUKUS، الذي أسسته مع بريطانيا وأستراليا نواة لقوة بحرية ثلاثية وازنة ستغطي المحيطين الهادي والهندي معا لردع ما تدعيه واشنطن عن وجود أطماع صينية في دويلات الجزر الصغيرة هناك.
ولا شك أن هذه التحالفات استفزت الصين، التي تبدو مصممة على مزاحمة أميركا وحتى إزاحتها من على الريادة العالمية، ولكن من المستبعد في المدى المنظور أن يتطور التنافس بينهما إلى احتكاك عسكري نظرا لقوة الارتباط المتبادل بين اقتصادياتهما. فأكبر الشركات الأجنبية المستقرة في الصين أميركية، وأكبر الاستثمارات الخارجية بأميركا صينية، ومن الصعب فك هذا الارتباط سريعا.