موسكو: تعقدت الأمور وتشابكت على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية إلى الحد الذي بلغت فيه «أحلام» عدد من الخبراء والساسة الغربيين، أنهم صاروا يُمَنون النفس برحيل الرئيس فلاديمير بوتين عن سدة السلطة في الكرملين، والبحث عن بديل يمكن التوصل معه إلى السبيل الأمثل للخروج من المأزق الراهن.
القصة قديمة، جذورها تمتد لعقود طويلة مضت، منها ما يعود إلى تاريخ اندلاع ثورة البلاشفة في أكتوبر (تشرين الأول) 1917، ومنها ما يعود إلى سنوات «بيريسترويكا غورباتشوف» في منتصف ثمانينات القرن الماضي، بما أعقبها من سنوات انهيار الاتحاد السوفياتي وتنصيب بوريس يلتسين رئيسا للدولة الروسية، أعلن ذكرى تاريخ إعلان استقلالها في 12 يونيو (حزيران) 1990 عيدا قوميا لروسيا، تظل روسيا البوتينية، ولغرابة الأقدار، تحتفل به حتى اليوم!
لم يعد سرا أن الأزمة الراهنة لا تتعلق بأوكرانيا، بقدر ما تتعلق بما يقال حول ضرورة الحد من طموحات بوتين التوسعية. كما أن الأمر يظل أبعد من ذلك بكثير، وكشفت عنه مصادر أميركية سبق ووقفت وراء فكرة إشعال الثورات الملونة في الفضاء السوفياتي السابق منذ مطلع القرن الجاري، وغرس ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني لاتخاذها سبيلا صوب الهدف المنشود. وكان الرئيس فلاديمير بوتين حذر من مغبة مثل هذه التوجهات في أكثر من مناسبة، بقوله إن «المشكلة المتكررة دائما في تاريخ روسيا هي سعي جزء من نخبتها للقفز إلى الثورة بدلا من التطور المطرد، في الوقت الذي لا تؤكد فيه الخبرة الروسية وحسب، بل وكل الخبرات العالمية، سلبية القفزات التاريخية ومعارضتها للواقع، وأن القفز إلى الأمام يؤدي إلى السقوط إذا أغفلنا البناء على أسس سليمة».
وبعد سلسلة من مشاهد المهادنة ومحاولات الانضمام إلى الركب الأوروبي، وفيلقه الضارب المتمثل في حلف الناتو، توقف بوتين ليعيد النظر في استراتيجية المسيرة، وما ينبغي الاستناد إليه في علاقاته مع «خصوم روسيا التاريخيين».
في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ في فبراير (شباط) 2007 اعلن بوتين عن رفض بلاده لعالم القطب الواحد، ولانفراد قوة بعينها بالقرار الدولي بعيدا عن الشرعية الدولية ومؤسساتها العالمية. قال بضرورة تعدد الأقطاب، ورفض تجاوز الولايات المتحدة لحدودها الوطنية في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والإنسانية. أعاد الرئيس الروسي إلى الأذهان ما سبق وتعهدت به القيادات الأميركية في أعقاب حل حلف وارسو في مطلع عام 1991، حول عدم التقدم خطوة واحدة إلى ما هو أبعد عن حدوده الحالية في ألمانيا الغربية. حذر بوتين من «تزايد الاستخفاف بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي، فضلا عن تجاوز بعض قواعد، بل وتقريبا كل المنظومة القانونية لدولة واحدة وبالدرجة الأولى الولايات المتحدة قبل غيرها لكل حدودها الوطنية في كل المجالات الاقتصادية والسياسية، وكذلك في الساحة الإنسانية لتفرض ما تشاء على الدول الأخرى».
وعاد بوتين ليتساءل عمن يمكن أن يروقه مثل هذا الأمر؟
قال بوتين ذلك في مطلع عام 2007، وظل ينتظر تغيرا لم يتحقق على مدى ما يزيد على 15 عاما، لتضطره المتغيرات الدولية، وما طرأ من تغيرات على خريطة السياسة الدولية وفي مقدمتها توالي موجات توسع الناتو واقترابه من أعتاب الدولة الروسية، إلى الإعلان عن ضرورة وقفة مع الصديق. أعلن في نوفمبر (تشرين تالثاني) الماضي عن مطالب بلاده الأمنية، بكل ما أعقب ذلك من مداولات ولقاءات لم تسفر عن النتائج المرجوة.
الدعوة إلى «عقد اجتماعي جديد»
وما بين التاريخين.. تاريخ خطاب الرئيس بوتين في مؤتمر الأمن الأوروبي في فبراير 2007، وتاريخ الإعلان عن وقفته مع الناتو والكشف عن مطالبه الأمنية في نوفمبر 2021، جرت في النهر مياه كثيرة.
فقد تغيرت الإدارات الأميركية، وتعاقب الرؤساء ومعهم تباينت المواقف، وإن كانت لم تخرج عما سبق وجرى الإعلان عنه من تصميم على توسع الناتو، والتهام ما بقي من بلدان شرق أوروبا، في وقت مواكب لتكثيف الأجهزة الأميركية لنشاطها الذي كانت استهلته بعدد من الثورات الملونة في عدد من بلدان الفضاء السوفياتي السابق، ومنها جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان قبل انتقالها إلى محاولات العبث بالداخل الروسي.
وجاء رحيل الرئيس بوتين عن موقعه في الكرملين في 2008 بعد انتهاء ولايتين دستوريتين، في إطار اتفاق مع رفيقه ديمتري ميدفيديف حول خلافته، في محاولة للالتفاف حول النص الدستوري الذي يحظر البقاء في موقع الرئيس لأكثر من ولايتين متواليتين، فرصة مناسبة لتكثيف نشاط الأجهزة الأميركية وما ارتبط بها من منظمات المجتمع المدني. وفي محاولة للحيلولة دون عودة بوتين إلى سدًة الحكم في الكرملين، خرجت المظاهرات إلى شوارع موسكو في وقت مواكب للإعلان عن رغبة مكتومة من جانب ميدفيديف في عدم الرحيل عن السلطة. كان واضحا أن الأجهزة الأميركية وراء هذه التحولات والتحركات، ومنها تلك الحملة التي تزعمها عدد من الشخصيات، من ذوى الميول الليبرالية الموالية للغرب. ويذكر المراقبون ما رفعته هذه الحملة من شعارات وما قامت بترويجه من بيانات، ومنها نداء «بوتين يجب أن يرحل»، الذي كان شعاراً لحملة عامة استهدفت جمع التوقيعات التي تطالب باستقالة بوتين من موقعه كرئيس للحكومة، بما يتوجب معه عمليا رحيله عن الساحة السياسية.
جرى تداول هذا النداء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان شعارا للكثير من المظاهرات والمسيرات التي خرجت إلى شوارع موسكو، وعدد من كبريات المدن الروسية بمشاركة العديد من الشخصيات الفنية والثقافية والإعلامية المعروفة على نحو بات يهدد استقرار الدولة مع حلول عام 2010.
وعلى الرغم من أن الصراع بين بوتين وميدفيديف حول قرار عودة بوتين إلى سدة الرئاسة لم يخرج إلى العلن، فقد تولى مهمة الدعوة إلى بقاء ميدفيديف لفترة ولاية ثانية وبايعاز من الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، شلًة من المنتفعين ممن كان معظمهم من اليهود المحيطين بميدفيديف، ممن وقفوا وراء انتقاداته العلنية للحكومة الروسية التي أودعها مقالته الشهيرة تحت عنوان «روسيا إلى الأمام»، ونشرها عبر موقعه الإلكتروني في عام 2009. وللحقيقة فقد اتسم الصراع غير المعلن بين الرفيقين بقدر من العقلانية، وإن بدا حرص ميدفيديف واضحا على ترك المهمة لآخرين ومنهم إيجور يورجينس مدير معهد التنمية المعاصرة الذي تولى الدعاية إلى حاجة موسكو إلى «عقد اجتماعي جديد يؤكد أقل قدر من تدخل السلطة في شؤون الشعب، وأكبر قدر من حق الشعب في التدخل في شؤون السلطة». وتوالت التحركات والشعارات التي تدعو إلى التغيير وضرورة الحد من تسلط الأجهزة الأمنية وإتاحة الفرصة والحرية للأجهزة الإعلامية والمؤسسات الثقافية.
ولم يكتف الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف بالعمل من وراء ستار، في إطار جهوده الرامية إلى البقاء على رأس الدولة لفترة ولاية ثانية. فقد أعلن عن انضمامه إلى منتقدي الحياة الحزبية في روسيا من خلال تقرير صدر تحت عنوان «روسيا في القرن الحادي والعشرين.. نموذج الغد الذي نريده»، عن معهد التنمية المعاصرة الذي كان وراء تأسيسه في عام 2008 بعد توليه منصب الرئاسة.
وتوقف الكثيرون من المراقبين عند تكثيف ميدفيديف لمحاولات إعادة ترتيب البيت من الداخل، ونجاحه في إقصاء قرابة نصف عدد محافظي المقاطعات والأقاليم ورؤساء الجمهوريات ذات الحكم الذاتي ممن كانوا يدينون بالولاء للرئيس بوتين، فضلا عن الكثيرين من جنرالات وزارة الداخلية، إلى جانب مجالس إدارات عدد من المؤسسات الأكثر ربحية ومنها مؤسسات «غاز بروم»، و«روس نفط». ويذكر المراقبون ما كتبته صحيفة «نوفايا فريميا» المعارضة التي خصها رئيس الدولة ميدفيديف بحديث صحافي لأول مرة في تاريخها، حول ثورية قرارات ميدفيديف التي وصفتها بأنها حملة صليبية ضد رأسمالية رفاق بوتين. ومن هنا كان قرار بوتين حول ضرورة العمل من أجل مواجهة ما يمكن تسميتة محاولة الانقلاب الصامت، بقراره حول تشكيل الجبهة الشعبية لتكون سنده في حملته الانتخابية التي قرر خوضها لاستعادة موقعه السابق في الكرملين.
ولم يكن ذلك ليروق المتربصين ببوتين وبتحركاته ممن كانوا يقفون على مقربة. وكانت أكبر مظاهرات عرفتها موسكو منذ تحركات القوى الليبرالية في موسكو التي حملت بوريس يلتسين إلى قمة السلطة في روسيا نكاية في خصمه وغريمه ميخائيل غورباتشوف في عام 1990 وما كان في صدارة أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في نهاية عام 1991. جاءت مظاهرات بولوتنويه على مقربة من الكرملين في نهاية عام 2011 لتميط اللثام عن الدور التخريبي الذي لعبه عدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني بإيعاز من الدوائر الغربية والإدارة الأميركية، بغية الحيلولة دون عودة بوتين رئيسا للدولة الروسية.
أوباما وبايدن ومخطط الإطاحة ببوتين
لم يكن سرا ما واصلته الإدارة الأميركية من نشاط اتسم إلى حد كبير بالعداء لفكرة عودة بوتين رئيسا للدولة. ومن هنا وقفت واشنطن وراء عودة الأصوات التي راحت تنادي بضرورة «رحيل بوتين». وجاءت الأزمة الأوكرانية بما أعقبها من انقلاب أطاح بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في فبراير 2014، لتكون المقدمة اللازمة لاستئناف الصراع «غير المعلن» بين أوباما وبوتين، والفرصة الملائمة لتركيز الإدارة الأميركية لجهودها من أجل استغلال هذه الفرصة لتخيرها من أجل خدمة مآربها العسكرية في المنطقة، والعودة إلى فكرة الإطاحة بالرئيس بوتين.
وعاد الرئيس بوتين إلى ما سبق وأعلنه حول رفضه لعالم القطب الواحد، وأكد رفضه لإصرار الولايات المتحدة على إنشاء منظومة الدرع الصاروخية، ونشر عناصرها في عدد من البلدان الأوروبية على مقربة مباشرة من الحدود الروسية. قال إنها يمكن أن تطال قوات الردع الاستراتيجي النووي للدولة الروسية وتُخِل بتوازن القوى السياسية والعسكرية القائم في هذه المناطق لعقود طويلة. حذر الرئيس الروسي من مغبة استمرار محاولات الولايات المتحدة من أجل زعزعة استقرار الكثير من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق وما يتعلق باحتمالات ضمها إلى الناتو.
تذكر بوتين، ولم يكن قد ركن إلى النسيان، العقيدة العسكرية الروسية، في صياغتها الصادرة في 5 فبراير (شباط) 2010 بما تنص عليه من جواز إعادة النظر في أحكام العقيدة العسكرية بالتغيير والتعديل والإضافة بما يتناسب مع الأخطار والتهديدات ضد أمن ودفاع البلاد وظروف تطور الدولة الروسية. استدعت الذاكرة ما تطرحه هذه المعاهدة من إجراءات تتناسب مع الأخطار التي صارت تهدد أمن الدولة في أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية وما أعلنه حلف الناتو من خطط لتعزيز قواته وقواعده على مقربة مباشرة من الحدود الروسية، فضلا عما كابدته وتكابده موسكو من مخاوف احتمالات اندلاع الثورات الملونة على مقربة ومنها ما اضطر موسكو في وقت لاحق من ذلك التاريخ، إلى التدخل المباشر لإخماده، مثلما حدث في بيلاروس في أغسطس (آب) 2020، وفي كازاخستان في يناير (كانون الثاني) 2022.
وبهذه المناسبة نشير إلى أن العقيدة العسكرية الروسية تتضمن بين طياتها ما يؤكد اعتبار العدو الأول الخارجي هو توسع حلف شمال الأطلسي شرقا باتجاه الحدود الروسية، إلى جانب اعتبار أن خطة الولايات المتحدة حول نشر الدرع الصاروخية في أوروبا على مقربة من الحدود الروسية، مصدر قلق للأمن القومي الروسي.
ولعل ذلك كله يمكن أن يكون استشرافا لما سبق وحذر منه الرئيس بوتين منذ سنوات طوال، لم تكف الأجهزة الغربية والأميركية منها في المقدمة، عن تدخلاتها في الشؤون الداخلية لبلدان الفضاء السوفياتي السابق. ولم تكن أوكرانيا استثناء من هذه الدول. وبدا ما يشبه الإجماع في الساحة السياسية الروسية الداخلية حول أن ما جرى ويجري في أوكرانيا، يتعلق بروسيا في المقام الأول، حيث أشار كثيرون إلى ما يعرفه العالم بأسره، حول أن أوكرانيا تخوض هذه الحرب بالوكالة، وان من يتعهدون بأمور هذه المعركة، يستهدفون البحث عما يمكن أن يتولى أعباء الإطاحة بالرئيس بوتين بالدرجة الأولى على أن يجري التفرغ لاحقا لتحقيق الحلم المؤجل ويتعلق بتدمير روسيا من الداخل.
وفي هذا الشأن يقول سيرغي ماركوف المتخصص في الدراسات السياسية وعضو مجلس الدوما السابق إن الغرب يحاول الإطاحة بفلاديمير بوتين، وليس إيقاف العملية الخاصة. وفي حديثه إلى صحيفة «موسكوفسكي نوفوستي» خلص ماركوف إلى أن سياسات الدوائر الغربية لا تستهدف وقف العملية الخاصة في أوكرانيا، بل تهدف إلى الإطاحة بالحكومة الروسية بمساعدة ضغط العقوبات على المواطنين. وخلص ماركوف إلى أن الهدف الرئيسي للعملية بالنسبة للغربيين ليس انسحاب الجيش الروسي من أراضي أوكرانيا، بقدر ما يتمثل في الإطاحة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وعاد ماركوف ليقول في حديث آخر إلى قناة «360» إنهم يريدون بالتالي أن يعاني سكان روسيا بشكل خطير للغاية. وأضاف أن العقوبات الغربية موجهة ضد الروس، من أجل تأليبهم وتحريضهم على الإطاحة بالحكومة الروسية.
ولعل الكثيرين يذكرون ما قاله الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن حول نظيره الروسي فلاديمير بوتين. ففضلا عن الكثير من الاتهامات التي وجهها إلى الرئيس الروسي، ومنها وصفه بـالقاتل تارة، وبـالجَزار تارة أخرى، عاد بايدن ليقول إنه لا يمكنه البقاء في السلطة، في دعوة صريحة إلى الإطاحة به وبنظامه. ورغم أن البيت الأبيض اضطر في وقت لاحق إلى تقديم الاعتذار، فإن الطلقة كانت قد خرجت من فوهة المسدس، ولا فرار من تحمل المسؤولية، بما في ذلك تجاه تحريضه على الانقلاب في روسيا.
ولعله أيضا من سخريات القدر أن يشترك الديمقراطيون في الولايات المتحدة في كراهيتهم لبوتين التي لم يشذ عنها سوى الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الذي استهل ولايته الأولى بفترة وفاق واتفاق مع بوتين منذ حادث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، والتنسيق الذي شهدته بداية علاقاتهما على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
وكان الرئيس الأسبق أوباما في صدارة الرافضين لعودة بوتين إلى السلطة لفترة ولاية جديدة في 2012. كشف عن موقف صريح من تأييده لبقاء ميدفيديف لفترة ولاية ثانية، لما توسمه فيه من توجهات ليبرالية ومرونة في تعامله مع المعارضة الروسية، واستجابة لما تطرحه واشنطن من رؤية تجاه العديد من القضايا الإقليمية والعالمية. وكان ميدفيديف انضم إلى مواقف واشنطن ضد إيران وبرنامجها النووي، إلى جانب حظر حصولها على الأسلحة، كما انضم إلى قرار قصف الناتو لليبيا بامتناعه عن التصويت على قرار مجلس الأمن حول فرض منطقة حظر الطيران في سماء ليبيا، بل وبلغ به الأمر إلى استدعاء سفيره في طرابلس في قرار كان الأول من نوعه في تاريخ الدبلوماسية الروسية.
بلينكن وأصوله اليهودية الأوكرانية
كثيرون يتوقفون أيضا عند ما يبدو من حميمية في العلاقة بين وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن والرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي. لكن نقرة واحدة على الكي بورد، يمكن أن تميط اللثام عن خلفية هذه العلاقة التي تعود إلى الأصول اليهودية والأوكرانية المشتركة، التي تجمع بين الشخصيتين. وذلك فضلا عما هو أقرب إلى مشاعر الكراهية التي تجمع بين الشخصيتين تجاه الرئيس الروسي بوتين. وكان بلينكن كشف عن الكثير من الاتهامات بحق بوتين، قبل التصديق على ترشيحه وزيرا للخارجية الأميركية، وهو ما تغاضت عنه العاصمة الروسية لأسباب ليست بخافية على أحد. ومن المعروف أن أنتوني بلينكن ولد لأبوين يهوديين، من أصول أوكرانية. وقد جاءت الأزمة الأخيرة التي نشبت بسبب تصريحات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف حول ما قيل بشأن يهودية هتلر لتكشف عن عنصرية زيلينسكي، وأبعاد تعاونه مع النازيين الجدد في أوكرانيا تحت سمع وبصر رفاقه فيما وراء المحيط، ممن يواصلون دعمه والتستر على جرائم القوميين المتطرفين في أوكرانيا.
وكانت الخارجية الروسية أصدرت بيانا تتهم فيه الحكومة الإسرائيلية بدعم النازيين الجدد في أوكرانيا، في وقت يواصل فيه العالم بأسره تغاضيه عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والفلسطينية لما يزيد على السبعين عاما. وانتقد بيان الخارجية الروسية، الصحافة العالمية التي تواصل تسترها على تعاون زيلينسكي مع النازيين الجدد، وإنكارها لوجود أمثالهم في أوكرانيا، من خلال الاستشهاد بيهودية زيلينسكي. وأشار البيان أيضا إلى تعاون اليهود في بولندا إبان سنوات الاحتلال الهتلري مع النازيين الألمان تأكيدا لما نشهده من تعاون في الحاضر بين زيلينسكي ورفاقه من فصائل آزوف والقطاع الأيمن وإيدار، وغيرها من قوات النازيين الجدد الذين يفرضون سيطرتهم على الأوضاع في أوكرانيا منذ ما قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية في 2014، وذلك ما يقف في صدارة أسباب النزاع القائم بين السلطات الأوكرانية ومواطني جمهوريتي دونيتسك، ولوغانسك في جنوب شرقي أوكرانيا. وخلص بيان الخارجية الروسية إلى وصف ما تسوقه السلطات الأوكرانية حول تبرير تعاون زيلينسكي مع النازيين في أوكرانيا بأن «الحجة ليست فقط غير مقبولة، ولكنها أيضا خبيثة. التاريخ، للأسف، شهد أمثلة مأساوية للتعاون بين اليهود والنازيين».
بديل بوتين .. من يكون؟
رغم أن فترة الولاية الدستورية للرئيس فلاديمير بوتين لم تنته بعد، فإن الأوساط المحلية والعالمية لا تكف عن طرح تساؤلاتها حول الشخصية التي يمكن أن تخلف الرئيس بوتين في منصبه على عرش الكرملين. ورغم أن التعديلات الدستورية الأخيرة فتحت الباب أمام ترشح الرئيس بوتين لفترة أو فترتين متواليتين أخريين اعتبارا من 2024 موعد نهاية الولاية الحالية وحتى عام 2036، فإن الجدل يظل يحتدم حول مستقبل الرئيس بوتين وماهية الشخصية التي يمكن أن تخلفه في منصبه.
وكان ديمتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين أجاب على هذا السؤال بقوله إن بوتين سيكون له رأيه فيمن سوف يخلفه. وقال: «بالتأكيد سيكون للرئيس يومًا ما تفضيلاته الخاصة فيما يتعلق بشخص ما، وسيوصي بالتأكيد بهذا الشخص. سيكون له الحق في التعبير عن تفضيلاته، لكن سيكون من الواضح من هو الرئيس المقبل، ومن سنصوت لصالحه». وحول احتمالات الترشح لفترة ولاية جديدة بعد عام 2024، قال بيسكوف: «نحن نعلم أن بوتين له الحق في مواصلة الترشح إذا أراد ذلك. لم يقرر بعد، على الأقل لم يخبرنا ما إذا كانت لديه مثل هذه الرغبة أم لا».
وكان الرئيس بوتين سبق وأجاب على مثل هذه الأسئلة بقوله: «إن من حقه إعادة انتخابه رئيسًا لروسيا، لكنه لم يقرر بعد ما إذا كان سيفعل ذلك». وأشار إلى أن «مجرد وجود هذا الحق يعمل بالفعل على استقرار الوضع السياسي الداخلي، لكن من السابق لأوانه الحديث عن خطط عام 2024».
غير أن السؤال يظل مطروحا، بغض النظر عن كل محاولات بوتين وأعضاء فريقه التملص من الإجابة عليه. وثمة شواهد تقول إن القادم لا بد أن يكون حتما واحدا من أعضاء فريقه سواء ممن هم داخل الدائرة الصغرى التي يعتمد عليها اليوم في قراراته المصيرية، أو الدائرة الأوسع التي تقف على مقربة في انتظار الدعوة إلى المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في صناعة القرار. ويتوقف عدد من المراقبين عند أسماء تحظى بثقة الرئيس وتتمتع بما يعهده إليها من تكليفات ومناصب منذ بداية سنوات ولايته الأولى، أو ممن التحقوا بالفريق في وقت لاحق، ومن هؤلاء الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن القومي، وفي مقدمتهم نيكولاي باتروشيف السكرتير الحالي للمجلس الذي سبق وتوقفت عنده بعض المصادر الروسية بوصفه المرشح الأوفر حظا، وألكسندر بورتنيكوف الرئيس الحالي لجهاز الاستخبارات الداخلية. وثمة من يقول إن الإعلان عن مثل هذه الترشيحات يمكن أن يكون كافيا لاستبعادهما من جانب بوتين. لكنه لن يكون كذلك إذا ما جنح بوتين إلى ما يقال حول تزايد احتمالات أن يجيء المرشح القادم من بين ممثلي الشباب من أبناء رفاقه ممن عهد إليهم بعدد من المناصب المحورية، تفاديا لعدم السقوط في شرك اختيار كبار السن على غرار ما حدث في آخر سنوات الاتحاد السوفياتي السابق.
ومن هؤلاء ديمتري باتروشيف وزير الزراعة وابن صديقه ورفيقه نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن القومي، الذي أثبت قدرات هائلة في مجال الارتقاء بإنتاج روسيا من الحبوب إلى المرتبة الأولى في العالم خلال سنوات قلائل. وقد يكون أيضا بافيل فرادكوف النائب الحالي لرئيس مكتب شؤون الرئاسة، وابن ميخائيل فرادكوف رئيس الحكومة الأسبق الذي سبق وشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية. وهناك من يرشح أندريه تورتشاك النائب الأول لرئيس مجلس الاتحاد والأمين العام للهيئة التنفيذية للحزب الحاكم. وتأكيدا لمنطقية مثل هذه التوقعات نستشهد بما قاله بوتين حول:
«هناك عدد كاف من الشباب في البلاد يمكنهم بنجاح خلافة رئيس الدولة الحالي في المستقبل، وسيحدد الناخب في الاتحاد الروسي اسم الخليفة. لكن، بالطبع، أعتقد أن جيلًا جديدًا من المديرين سينشأ في بلدنا- أشخاص مسؤولون سيكونون قادرين على تحمل المسؤولية عن مستقبل روسيا».
لكننا نتوقف عند هذا الحد لنؤكد أن التنبؤ والتوقعات، مسألة لا بد أن تكون آخر ما يمكن للصحافي المحترف ممارسته أو التفكير فيه... نظرا وببساطة لأن لكل مقام مقال تحدده الظروف والمتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية. وإن غداً لناظره قريب!