القاهرة: رغم مرحلة الانسداد التي تعاني منها الأزمة الليبية سواء على مسار لجنة «5+5» العسكرية والتي فشلت إلى الآن في إيجاد وسائل أو سبل لتوحيد المؤسسة العسكرية وإنهاء حالة الانفلات التي تعاني منها ليبيا، وسواء مع تنازع السلطة في ظل وجود حكومة شرعية معترف بها دوليا، وهي حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة موازية أخرى مدعومة من البرلمان تسوق انتهاء ولاية حكومة الدبيبة، وهو ما يجعل البلاد في مرحلة سخونة سياسية متواصلة، زادت من حدتها، تصريحات الناطق العسكري باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري والتي أكد فيها أن تمسك رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بالسلطة، وعدم تسليم السلطة لحكومة فتحي باشاغا، يهدد بعودة لغة السلاح في ليبيا.
وحذر من محاولات بعض الجهات التي لم يسمها نقل الصراعات الإقليمية إلى ليبيا والذي قد يقود إلى انفلات الوضع، مشددا في ذات الوقت على محاولة الجيش الليبي الحفاظ بقدر المستطاع على وقف إطلاق النار رغم الانسداد الذي يواجه لجنة «5+5» العسكرية، ومحذرا في ذات الوقت من العبث بإنجازات اللجنة العسكرية المشتركة التي قادت البلاد لوقف إطلاق النار، وأن الوضع في ليبيا خطير جدا مع استمرار الميليشيات في نهب المال العام بإيعاز من رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة مما قد يؤدي إلى انزلاقات خطيرة لا تحمد عقباها.
تصريحات الدبيبة فتحت الباب نحو تساؤلات مهمة أبرزها، هل يعود الصراع المسلح إلى ليبيا مرة أخرى، وهل ينتوي الجيش الليبي بقيادة حفتر التحرك عسكريا باتجاه الغرب خاصة العاصمة طرابلس لإزاحة حكومة الدبيبة، وتولية حكومة باشاغا؟ وهل يسمح الوضع الدولي والإقليمي الراهن بحدوث ذلك؟ وما هو أفق الصراع السياسي في ظل تمسك كل من عبد الحميد الدبيبة، وفتحي باشاغا بموقفيهما من الأحقية في الجلوس على رأس السلطة في البلاد؟
وضع دولي لا يسمح بإشعال الحرب
رغم الانسداد الذي يواجه لجنة «5+5» وبعد تصريحات المسماري، التي حذر فيها من أن تمسك رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة بالسلطة قد يقود إلى الانفلات وعودة لغة السلاح، «وفي حقيقة الأمر تعد تصريحات الناطق الرسمي باسم قوات حفتر غير مسؤولة وينبغي المحافظة على وقف إطلاق النار»، وذلك حسب مصدر حكومي رفيع المستوى في حكومة الدبيبة في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، مؤكدا أن أي تهديد مسلح يعني محاولة إدخال البلاد في أتون الحرب والفوضى لصالح أجندات إقليمية، يكون الخاسر الوحيد فيها هو الشعب الليبي.
ولكن أعتقد أن الوضع الدولي لا يساعد على إشعال حرب في ليبيا، خاصة في ظل وجود جسم تنفيذي غير معترف به دوليا، و فشل رئيسه في تسويق منتج مجلس النواب.
كما أنه ليس مستبعدا حدوث صراع، ولكن على أقل تقدير في هذا التوقيت لن يتغير الوضع، أما عن خطة حكومة الوحدة الوطنية فهي تريد تسليم السلطة لحكومة منتخبة من خلال خطتها بعودة الأمانة، وذلك يتطلب وجود قاعدة دستورية وأساسا قانونيا مناسبا لإطلاق العملية الانتخابية في البلاد لكي يتمكن الشعب الليبي من اختيار ممثليه في السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما أعتقد أن الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر غير مؤهل للقيام بالتحرك عسكريا لإزالة حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وإلا فإنه سيضمن صفعة جديدة أقوى من الأولى في توقيت حرج لأن درس الحرب على طرابلس سنة 2019 لا يزال حيا، حيث نال حفتر هزيمة تاريخية أضيفت لسلسلة هزائمه المعروفة طوال تاريخه العسكري.
كما أنه لا بد من العودة للشعب لنيل الشرعية والتخلي عن فكرة الاحتكام لقوة السلاح التي لم يجني منها الشعب الليبي إلا الويلات والدمار، كما أن حكومة الوحدة الوطنية بقيادة الدبيبة استطاعت كسب ود أغلب الشارع الليبي، وبالتالي هي قادرة على وضع السفينة على شاطئ الأمان.
هيمنة أنجلوسكسونية على مقدرات البلاد
وحسب الكاتب والمفكر السياسي الليبي عز الدين عقيل في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، فإن لجنة العشرة منسدة ومتخشبة بطبيعتها، لأنها تعبر عن أشنع صور الخداع والنفاق الدولي الذي تتعرض له ليبيا من جانب ما يسمى بالمجتمع الدولي وتحديدا التحالف الأنجلوسكسوني المهيمن كليا على ليبيا.
وأضاف أن هذه اللجنة هي أشد المسارات عقما، لأن فاعليتها لا توجد ولا تتوفر إلا بطرف واحد منها فقط وهم الخمسة التابعون للمشير خليفة حفتر، باعتبارهم يأتمرون بأوامر قيادة محددة، ويتموضعون ضمن سلسلة قيادة عسكرية واضحة. وأما الخمسه الآخرون أي خمسة غرب البلاد فهم الساق المقطوعة بهيكل اللجنة العملي، حيث إنهم ضباط افتراضيون مشوهون بشبهة التمليش (أي قوات ميليشياوية) ولا وجود لهم بجيش حقيقي أو سلسلة قيادة عسكرية حقيقية بل هم شيء يشبه النبتة الصناعية التي لا جذور ولا أصل لها، كما أنهم يعانون من انفصام مهني حقيقي حيث إنهم ليس لديهم قيادة عسكرية يمكنهم الرجوع إليها ليتلقوا منها خواتيم مواقفهم وقراراتهم، وليسوا قادرين عمليا على العودة إلى التشاور مع أمراء الحرب الفاعلين الحقيقيين بالسيطرة المسلحة على الأرض بغرب البلاد، وذلك لأنهم أولا: ممنوعون من هذا النوع من التواصل من السفيرين الأميركي والإنجليزي، عبر البعثة الأممية المدارة بقرارهم، ولأنهم ثانيا حتى لو تيسر لهم هذا النوع من التواصل فإنهم سيواجهون خطر انقسام أمراء الحرب أنفسهم وتنافسهم السلبي وتمزقهم الشديد لجهة القرار المسلح، وبالتالي لا يمكنهم الانتفاع من التواصل معهم بشيء.
وأما ثالثا فلأن أمراء الحرب يعتبرون أنفسهم قائمين على الشرعية الثورية باعتبارهم ثوار فبراير، بينما العسكريون الخمسة هم من جيش معمر بحسب اتهام الميليشيات للجيش الوطني وخاصة المؤدلجة منها، إلى جانب أنهم لا يعترفون أصلا بهذا المسار. كما أن العسكريين الخمسة الذين يمثلون المنطقة الغربية من البلاد التي لا جيش فيها، ولا وجود لمظاهر الجيش فيها، فهم يمثلون منطقة يسيطر على القرار العسكري والشرطي فيها (أو قل المسلح) بمعنى أدق شبكه ميليشياوية لا يربط بين مكوناتها من الجماعات المسلحة أي رابط سوى مصدر التمويل الواحد، وهو ما يفسر كثرة التنافس على موارد الدولة فيما بينهم، الذين غاليا ما عبروا عنه بكثرة الحروب والمواجهات المسلحة بينهم، واتجاه ولائهم دائما نحو من يملك التحكم في المال العام، والذي ترجموه مؤخرا إلى التنافس على جيوب «دبيبه- آغا».
وأضاف عز الدين عقيل: من كان يجب أن يكون شريكا للجيش بهذا المسار (الذي لا يصلح أبدا أن يُختزل بمجرد لجنة لأنه المسار الجوهري الأكثر أهمية لصناعة السلام الليبي بحال كان ما يسمى بالمجتمع الدولي مخلصا بسياساته تجاه ليبيا) هم أمراء حرب غرب البلاد، وخاصة الأقوياء منهم الذين يحكمون دويلات ميليشياوية تكاد تتمتع بحكم ذاتي تام، ويسيطرون كليا على منشآت استراتيجية غاية في الأهمية والخطورة.
كما أن الانفلات وعودة لغة السلاح لا تحدده لجنة العشرة ولا باشاغا، ولا الدبيبة، بل تحدده واشنطن ولندن، من خلال المخابرات الأميركية والإنجليزية، وقائد أفريكوم تاونسند، وسفيريهما في ليبيا، ومخططيهم الاستراتيجيين الذين خصصوهم لوضع سياساتهما تجاه ليبيا والتي هي منسقة تماما فيما بينهما. لو ترك قرار الحرب لهؤلاء (لجنة العشرة- وآغا ودبيبة) لكانت النار قد اشتعلت منذ اليوم الأول لتنصيب باشاغا حاكما جديدا للبلاد.
لقد بدأ السفيران الأميركي والإنجليزي عمليا تحذير باشاغا من عواقب إشعاله لحرب بالبلاد. وهو ما أكمله تاونسند عند زيارته إلى آغا بقمرت التونسية صحبة أسامه الجويلي الذي حامت حوله شبهة قيادة مليشياته ومليشيات آغا ضد دبيبة وذلك ليسمع التحذير بنفسه إلى جانب آغا. ولعل هذا هو السبب الجوهري لحرص آغا على التكرار المستمر لتمسكه بدخول طرابلس سلميا. بل إن التحالف الأنجلوسكسوني هو الذي أجبر آغا على نقل مقر حكومته إلى فندق بضاحية قمرت التونسية وكلف الصديق الكبير بتمويل هذه الإقامة رغم كلفتها العالية جدا على شعب بات يموت فقرا وجوعا ومرضا، وذلك لأن التحالف أراد إبعاد آغا باعتباره (البنزين) عن الجيش الوطني أو حفتر باعتباره النار. ومن يقرر الحرب في ليبيا ليس من ذكرت، ولا أحد غيرهم بما فيهم عملاؤهم الإقليميون، بل واشنطن ولندن.
كما أنه وفي المطلق فإن عودة الصراع المسلح لعزل دبيبة أو لتنصيب طبيب بيطري هي مسألة يعود القرار فيها برمته لواشنطن ولندن كما أسلفت. ولكن بالنسبة للدبيبة لن ينزع أبدا إلا بنتائج انتخابات. ومن خطط للعودة بالليبيين إلى داء وسرطان التوازي الحكومي هما واشنطن ولندن، وهذان الأخيران هما اللذان يمارسان الانتفاع اليوم من تنافس آغا ودبيبة على قلب الإنجليز والأميركان ضمن وضعهما المعلق الراهن. ولعلنا لاحظنا كيف أن أحدهما قبل الأمر الأميركي الموجه له بمضاعفة الإنتاج النفطي رغم أضراره الكبيرة على القطاع بظروفه الراهنة حد رفض وزير النفط بشدة لهذه الورطة وهو الذي يعد واحدا من أكبر خبراء وعلماء النفط على مستوى ليبيا والعالم، والذي كان جزاؤه الأميركي الإنجليزي إبعاده من حضور الاجتماع النفطي الذي تقرر فيه هذا الأمر وهو وزيز النفط المعني والمسؤول الرئيسي والأول عن مثل هذا القرار.
وضمن ذات التنافس على قلب التحالف الأنجلوسكسوني الذي خلقته مؤامرة وجود الحكومتين المتوازيتين بين آغا ودبيبة سعى آغا إلى عرض ليييا كاملة على الإنجليز عبر لقاء خطط له بشكل متعمد مع إحدى الصحف البريطانية بل إن آغا بدأ يمهد فعليا من خلال تصريحاته الأخيرة إلى واحدة من أعظم الكوارث الأنجلوسكسونية التي يمكنها أن تحط على رؤوس الليبيين وهى إقرار آلية مالية دولية تسعى لها واشنطن ولندن ليسيطرا من خلالها على الأموال والبترول الليبي في برنامج سيستنسخ عن برنامج النفط مقابل الغذاء العراقي الفاسد والسيئ السمعة والمرعب الصيت.
هل يتحرك الجيش الليبي؟
وأضاف المفكر السياسي الليبي عز الدين عقيل، ستكون كارثة حقيقية على البلاد لو أن المشير حفتر لم يستوعب بعد درس لعبة الأميركان والإنجليز التي ورطا فيها صدام حسين في الكويت وجعلا منها لاحقا السكين الشنيع والغادر الذي ذبح به العراق بلا رحمة حتى إنه ما يزال ينزف منها حتى اليوم. ولبالغ الأسف والحسرة فقد أعادوا ذات الغدر وفعلوا الشيء نفسه مع المشير حفتر. فقد اعتبره كل من جون بولتون وترامب في مكالمتين مباشرتين معه شريكهما بمكافحة الإرهاب وحماية المصالح الدولية بالنفط الليبي حد أنهما عرضا عليه إمكانية الدخول إلى طرابلس وتطهيرها من الميليشيات والفوضى إن شاء. وما كاد الجيش يحقق هدف تحرير البلاد من السلاح الفالت والضال وصار على بعد كيلومترات معدودة من قلب طرابلس حتى تدخلت طائرات «إف-16» والمدمرات الأميركية التابعة لجيش الأفريكوم الأميركي لتقصف الجيش بنفسها، إلى جانب تكليف تركيا بتسيير المقاتلات المسيرة عبر نظام التوجيه الفضائي الذي يملكه الناتو لتقوم بذبح الجيش والضغط عليه للانسحاب والتراجع، وهو ما مكنهم من رد الجيش حيث هو اليوم، خلال يوم وبضع يوم.
وعليه يمكن القول بأن أغلب الظن أن لا يورط المشير حفتر الجيش الليبي مرة أخرى بلعبة خطرة جديدة من هذا النوع خاصة وأنه ليس هناك أي ضمانات عملية لدى الجيش حتى الآن تفيد فعلا بأن باشاغا لن يعود من جديد للانقلاب على الجيش كما فعل بحرب 2019 بمجرد سيطرته على حكم طرابلس بالعودة للتحالف من جديد مع ميليشيات مدينته مصراته والإسلاميين. لذا فمن المتوقع أن يترك الجيش باشاغا يقلع شوكته بيديه.. خاصة وأن الجيش كان صاحب فضل فعلا على باشاغا بعملية تنصيبه رئيسا لحكومته الافتراضية حتى اليوم. ويكفي الجيش تقديم هذا الفضل حتى الآن، وعليه أن ينتظر مواصلة باشاغا إكمال شأن دخوله إلى طرابلس بنفسه وبالطريقة التي يشاء ويتحمل مسؤوليتها وحده، وهذا هو ما يتوقع أن يفعله الجيش، أو على الأقل ما كنت سأفعله لو كنت مكان المشير حفتر.
مال فاسد يحكم البلاد
كل هذه المكونات، سواء الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، وحكومتي الدبيبة، وباشاغا، هي عبارة عن أدوات لإدارة الأزمة وليس حلها في ليبيا، وذلك حسب الكاتب والمحلل السياسي الليبي عثمان بن بركة في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، قال فيها: العالم كله يعرف أن مؤسسة الجيش الوطني تمت شيطنتها وتدميرها منذ عام 2011 حتى يسهل تحقيق ما يسمى الفوضى الخلاقة في ليبيا، وعليه فلا الدبيبة ولا باشاغا، ولا يوجد جيش بالمفهوم التقليدي المعروف في العالم، فكل هذا عبث مقصود ومدروس.
الصراع المسلح على نهب ثروات الليبيين لم يذهب حتى يعود، ففي العام 2011 كانت في الشارع الليبي وخارج سلطة القانون 20 مليون قطعة سلاح، واليوم بعد سرقة أكثر من ألف مليار دولار من خزينة الدولة نتحدث عن عودة الصراع المسلح؟ البلد يحكمها المال الفاسد والسلاح غير القانوني، ولا علاقة لطمع الدبيبة في الاستمرارية ولا باشاغا في استغفال الناس، فالذي أتى بالدبيبة يمكنه أن يبعده في عشية أو ضحاها. وما علاقة المشير خليفة حفتر بالدبيبة وبأي قانون يتحرك حفتر؟ الجيش بالمنطق مؤسسة وطنية لا يحق له أن يكون طرفا في الصراع المسلح بين الجماعات المسلحة وهذا غير موجود، فلا حفتر سيتحرك لمنطقة الدبيبة، ولا الدبيبة بالقوة التي تحتاج لجيش يتحرك من أجلها، فإذا تحرك حفتر بقوته في اتجاه الغرب وطرابلس تحديدا فإنه يريد السلطة فقط وإذا ذهب الدبيبة خارج طرابلس فإنه ينفذ أجندة القوة التي فرضته في هذا المنصب.
لذا لا يوجد أفق ولا أمل في إصلاح حال البلاد ما دام القرار السياسي من خارج الوطن وبأدوات مرهونة للخارج، فالوطن محتل والمواطن مقهور والله المستعان.