القامشلي: تواصل السلطات الأمنية السورية الإفراج عن عشرات المعتقلين بعدما أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد عفواً عن «الجرائم الإرهابية» المرتكبة والتي أدين فيها سوريون قبل صدور المرسوم يوم السبت الماضي في 30 أبريل (نيسان) من عام 2022 الجاري، والذي استثنى العفو عن المدانين بارتكاب جرائم «إرهابية» أفضت إلى موت إنسان.
ولم يُعرف على وجه التحديد أعداد المسجونين الذين شملهم العفو الرئاسي، لكن المرصد السوري لحقوق الإنسان وثّق الإفراج عن 150 سجيناً بعد مرور 48 ساعةٍ على صدور العفو، وكان من بينهم أشخاص تم اعتقالهم قبل 10 سنوات وكانوا يقبعون في سجن صيدنايا الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـ«المسلخ البشري» بعدما وثّقت إعدام نحو 13 ألف سجين في الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2015.
النظام يحاول تلميع صورته بالعفو
ويبدو أن خطوة إصدار قانون العفو عن الجرائم الإرهابية التي لم تؤدِ لمقتل إنسان تأتي كمحاولة من نظام الأسد لتلميع صورته واستغلال العفو بهدف التهرّب من الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبها في سجونه منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، خاصة مع توالي التقارير الدولية وضغط المنظمات الإنسانية والحقوقية بخصوص ملف التعذيب والتجاوزات الخطيرة لحقوق الإنسان التي حصلت في السجون والمعتقلات، حيث تكشف إحصائيات المرصد السوري عن مقتل أكثر من 105 آلاف معتقل تحت التعذيب داخل سجون نظام الأسد منذ انطلاقة الثورة السورية في العام 2011.
وحصلت «المجلة» على تسريبات من العاصمة السورية دمشق تفيد برغبة السلطات الأمنية في الإفراج عن المزيد من المعتقلين تباعاً بموجب العفو الصادر مؤخراً والذي من شأنه أن يؤدي إلى الإفراج عن عشرات آلاف المسجونين في سجون النظام السوري منذ سنوات.
العفو جاء بعد نشر مقاطع فيديو وثّقت مجازر بحق معتقلين
وجاء العفو الرئاسي عقب أيامٍ من نشر صحيفة «الغارديان» البريطانية لتحقيقٍ صحافي مطول حول مقتل عشرات الأشخاص على يد عناصر من قوات النظام، وأثارت مقاطع الفيديو التي نُشرت مع التحقيق صدمةً في الأوساط السورية لا سيما الحقوقية منها ومؤسسات المجتمع المدني.
وأظهر واحدٌ من بين عشرات مقاطع الفيديو التي تعود لعام 2013، ونُشرت الأسبوع الماضي، عنصراً من قوات النظام يطلب من أشخاصٍ قُيّدت أياديهم وعُصِبت أعينهم أن يركضوا، ليتم إطلاق النار عليهم مع وقوعهم في حفرةٍ تكوّمت فيها الجثث في حي التضامن الواقع في جنوب ريف دمشق. وعلى أثر ذلك بات يعرف هذا الفيديو الذي وثّق الجريمة بـ«مجزرة التضامن».
وُنشرت هذه المقاطع وعددها 27 مع تقريرٍ صحافي مطول أُجري بالتعاون بين «الغارديان» ومعهد «نيولاينز» الأميركي. وتعرّفت عدّة عائلاتٍ على أبنائها الذين تمّ توثيق تصفيتهم ببرود أعصاب في تلك الفيديوهات. ويبلغ عددهم 41 رجلاً تم قتلهم وإحراق جثثهم في الحفرة، بحسب مقاطع الفيديو نفسها التي انتشرت بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي وأحدثت حالة من الغضب الشعبي.
يصعب على عائلات المعتقلين التعرّف على أبنائهم!
وأفادت مصادر لـ«المجلة» بأن من بين ضحايا «مجزرة التضامن» 16 فلسطينياً سورياً، لكن لم يتسنّ التأكد من هوياتهم بالضبط.
وقال أفرادٌ من 3 عائلات سورية لديها معتقلون في سجون النظام منذ سنوات إن «تلك المقاطع تظهر وحشية كبيرة ومع ذلك حاولنا التعرّف على أبنائنا لنعرف إذا ما قُتِلوا، لكن آثار التعذيب غيّرت أشكالهم وبدلت ملامحهم وبات التعرّف على أبنائنا مهمة في غاية الصعوبة وغير ممكنة».
ومن خلال «المجلة»، طالب سوري آخر سُجن نجله في دمشق عام 2012، المنظمات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان بضرورة ملاحقة نظام الأسد لارتكابه جرائم بشعة، خاصة وأنه منذ بدء الحرب يُتهم النظام السوري بانتهاك حقوق الإنسان من خلال التعذيب في السجون والاغتصاب والاعتداءات الجنسية، وصولاً إلى الإعدامات خارج إطار القانون.
ومن جهته، قال حقوقي سوري إن «مقاطع الفيديو ليست جديدة بل قديمة وكانت موجودة منذ سنوات لدى الشخص الذي قام بتصويرها، لكن التحقيق الصحافي استمر لسنوات، ولهذا تمّ نشرها مؤخراً».
المرسوم لصرف الانتباه عن مجزرة التضامن
رأى فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان لـ«المجلة» أن «العفو الذي أصدره النظام مؤخراً يأتي لصرف الانتباه عن مجزرة التضامن والفيديوهات الأخرى، ولكنه بلا جدوى، إذ يقبع في سجونه 132 ألف معتقل حتى الآن».
وتابع أن «المرسوم يشمل أعداداً محدودة من المسجونين لأن المعتقل يكون خاضعا لعشرات التهم، وعلى سبيل المثال إذا شمله العفو بتهمةٍ مذكورة تكون لديه ترسانة من التهم الأخرى التي لا يشملها العفو، ولهذا يبقى خلف القضبان».
كما شدد عبد الغني على أن «النظام يحاول صرف الانتباه عن مقاطع الفيديو التي تدينه ونتيجة ذلك تداولت وسائل إعلامٍ تدعمه أنباء عن تعرّضه لمحاولة اغتيال. وكل هذا كي يطوي صفحة مجزرة التضامن وفيديوهات أخرى توثق انتهاكاتٍ لا تتوقف عند القتل فقط وإنما تشمل الاغتصاب ونهب الممتلكات وأنماطا أخرى من انتهاكات حقوق الإنسان».
العفو لن يشمل معتقلي الرأي والسياسيين
وأكد أن «مرسوم العفو لم يُطبق كي يتبين لنا عدد المشمولين، لكن باعتقادي أنه لن يشمل معتقلي الرأي والسياسيين، إذ إن هناك دفعة واحدة تمّ الإفراج عنها من سجن صيدنايا، لكن أعدادهم كانت محدودة جداً».
ولفت إلى أن «أعدادا كبيرة من المسجونين لن يشملهم العفو لأن هناك من يقبع في السجون منذ سنوات ولم يخضع إلى محاكمة في الأساس وهؤلاء أيضاً أعدادهم ضخمة».
واعتبر أن «مقاطع الفيديو هذه تشكل ضغوطاً كبيرة على النظام، خصوصاً أن مثل هذه الفيديوهات لم تُنشر منذ وقتٍ طويل، وقد رأينا أثرها وصداها لدى أنصار النظام أيضاً، كما أن وزارة الخارجية الأميركية علّقت بشأنها وهذا يعني أن هناك دولا أخرى ستتحرك بشأن هذه الفيديوهات، علاوة على الأمم المتحدة ولجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا».
«مجزرة التضامن» تشكل ضغطاً على الأسد
وأشار عبد الغني إلى أن «مقاطع الفيديو ستحظى باهتمام كبير وسيسلط الضوء عليها تباعاً، ونحن في الشبكة السورية لحقوق الإنسان نعمل على تحديد هوية الضحايا لنقوم بعدها بإصدار تقريرٍ خاص عنهم».
وأكد أن «مئات المختفين قسراً لدى النظام قد يكونون من بين أولئك الذين ظهروا في مقاطع الفيديو التي توثق مقتلهم، وإثر ذلك هناك مخاوف من مصير مئات المعتقلين بحي التضامن وعشرات الآلاف الذين اعتقلهم النظام وشبيحته خاصة أن أعدادا كبيرة من عناصر الشبيحة لديهم وسائلهم الخاصة في التخلص من جثث المعتقلين كالحرق مثلاً».
المرسوم غامض والنيابة ستتلاعب به
وشرح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما سماها الجوانب الغامضة في مرسوم العفو الذي تلا نشر مقاطع الفيديو التي تؤكد ارتكاب النظام لجرائم وحشية بحق المسجونين لديه.
وقال في هذا الصدد إن «هذا المرسوم فيه كثير من الجوانب الغامضة وخلافاً للمراسيم السابقة التي كانت تحدد بشكل واضح أرقام المواد القانونية التي يشملها العفو، لكن هذا المرسوم لم يحدد المواد القانونية المشمولة بالعفو من (قانون العقوبات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم (148) لعام 1949)».
وأضاف أن «تطبيق هذا المرسوم شبه مستحيل على المعتقلين غير المحكومين لأن النيابة العامة لن تتمكن من تحديد المواد القانونية التي احتجزوا بموجبها. لأنهم لم يُحاكموا بعد وبهذا لن تقوم السلطات الأمنية بإطلاق سراح معظم المعتقلين».
وتابع أن «هناك كثيرا من المعتقلين تمّ الحكم عليهم بموجب أكثر من قانون وأكثر من مادة قانونية بمعنى أن مرسوم العفو يشمل بعضها ولا يشمل بعضها الآخر، وبالتالي لا يستفيد من هذا المرسوم الذي يتضمن العفو عن الجرائم المنصوص عنها بواحدٍ فقط من قوانين الإرهاب الثلاثة التي صدرت سنة 2012 وهو القانون 19 ولم يشمل القانونين 20 و21 لعام 2012 والمتعلقين بتسريح الموظفين وبخطف الأشخاص».
لا ضمانة لمن يقوم بتسليم نفسه إذا كان خارج البلاد
ورجح عبد الغني أن «يقوم قضاة النيابة العامة المكلفين بتنفيذ المرسوم التعامل بذات الطريقة التي تعاملوا فيها مع مراسيم سابقة، فهم سيتلاعبون بتغيير الوصف القانوني للجرائم المحكوم بها الموقوف وبموجب ذلك يستبعد أن يصار إلى تطبيق المرسوم بشأنهم، وبالتالي لا مصداقية لهذا المرسوم والمراسيم التي سبق للنظام أن أصدرها، فالثقة مفقودة به ولن يضمن العفو اللاجئين الموجودين في الخارج وبالتالي هؤلاء لن يسلموا أنفسهم لأن هناك سوابق للنظام بالغدر، خاصة وأن هناك حالات كثيرة من الذين سلموا أنفسهم بعد العفو عن مرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي ولكن تم اعتقالهم ولا يعرف ذووهم مصيرهم حتى الآن».
وكان رئيس النظام السوري قد أصدر قبل أيام، المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022 الذي يقضي «بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من قبل السوريين قبل تاريخ 30/ 4/ 2022 عدا التي أفضت إلى موت إنسان، والمنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 وقانون العقوبات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 148 لعام 1949 وتعديلاته»، بحسب ما جاء في نص المرسوم المنشور على وسائل إعلامٍ مؤيدة للأسد.
و«لا يؤثر هذا العفو على دعوى الحق الشخصي، وعلى المتضرر في جميع الأحوال أن يقيم دعواه أمام المحكمة المدنية المختصة»، بحسب ما نقلت وسائل إعلام سورية حكومية.
وجاء هذا العفو الرئاسي للمرة الأولى، والذي لم يشترط أن يسلم المطلوب نفسه للعدالة، كما جاء في المراسيم السابقة، وبذلك تسقط العقوبة بشكل كامل عن أصحابها دون مراجعتهم لأي فروعٍ أمنية أو محاكم محلّية، بحسب ما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان.