تركيا والأكراد... صراع على رقعة «شطرنج»

تركيا والأكراد... صراع على رقعة «شطرنج»

حروب القواعد العسكرية ومواجهة على النفوذ والتمدد في سوريا



[caption id="attachment_55260195" align="aligncenter" width="1728"]الحدود التركية - السورية تشهد تحركات عسكرية مكثفة الحدود التركية - السورية تشهد تحركات عسكرية مكثفة[/caption]

أنقرة تستدعي المزيد من قواتها العسكرية استعداداً لعملية «سيف الفرات» وواشنطن تواصل تسليحها للقوات الكردية



* القيادة السياسية التركية تتخذ إجراءات عسكرية متوالية لتوظيف «القوة الخشنة» للتمدد على مسارح عمليات الإقليم وفى القلب منه الميدان السوري
* أنقرة تخطط لمحاصرة مدينة عفرين والسيطرة على مدينة إدلب والتدخل العسكري في مدينة تل أبيض في عملية لن تتجاوز السبعين يوماً
* تعمل القوى الكردية على مد قنوات التواصل مع روسيا والنظام السوري من أجل إيجاد توافقات مشتركة بشأن مدينة عفرين تسمح بتوسيع التمركز العسكري السوري في المدينة لإحباط المخططات التركية
* عمليات عسكرية تركية متعددة المراحل تتبنى مقاربة طرد ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردي من مناطق واسعة على الحدود السورية - التركية
* تعكس العمليات العسكرية التركية الرغبة في إعادة التمركز في شمال سوريا وتوسيع نطاق النفوذ التركي والسيطرة في مواقع تمنحها لاحقاً أفضلية عسكرية
* تشهد العلاقات التركية - الأميركية مسارات تصعيدية غير مسبوقة بسبب تسليح الولايات المتحدة للقوات الكردية وعدم التعاطي بجدية مع مخاوف تركيا من تصاعد الطموح الكردي في تشكيل إقليم حكم ذاتي بمحاذاة الحدود التركية
* يمثل قيام أنقرة بتصعيد قصفها العسكري لمناطق تمركز الأكراد حالة عدم الثقة في الشريك الأميركي الذي يعتبر أنقرة صانع اضطرابات، يربك الحسابات الأميركية على أكثر من ساحة إقليمية
* تشير المعطيات إلى أن موسكو لن تسمح لتركيا بالتحكم في مدينة إدلب بسبب محورية الموقع في جغرافيا الصراع السوري حال تحريرها لاحقاً بشكل كامل من الفصائل المتطرفة، حسب التصور الروسي



أنقرة - محمد عبد القادر خليل*

إجراءات عسكرية متوالية تتخذها القيادة السياسية التركية لتوظيف «القوة الخشنة» للتمدد على مسارح عمليات الإقليم، وفى القلب منه الميدان السوري، الذي بات يشكل أحد ميادين التحرك العسكري المكثف، إذ أقدمت أنقرة خلال الفترة الخالية على استدعاء المزيد من القوات العسكرية إلى الأراضي السورية، وذلك استعداداً لعملية قد تغدو الأكبر بالنسبة لها، تحت اسم «سيف الفرات». وقد جاءت تحركات أنقرة على محورين رئيسيين، أولهما ارتبط بتكثيف الحضور العسكري بمناطق الحدود مع سوريا، سيما ولاية كيليس التركية، ومدينة أعزاز السورية. فيما المحور الثاني تعلق بالعمل على رفع وتيرة حشد الجنود والآليات والمعدات العسكرية في الريف لمدينتي إدلب وحلب، وذلك من خلال معبري باب الهوى وباب السلامة الحدوديين، وذلك سعياً لتحقيق هدف ثلاثي، يشمل محاصرة مدينة عفرين، والسيطرة على مدينة إدلب، وفي مرحلة لاحقة التدخل العسكري في مدينة تل أبيض.

العملية العسكرية التركية وفق المخطط لها ستغدو متعددة المراحل، وقد لا تتجاوز السبعين يوماً. وهي على خلاف عملية «درع الفرات» - التي انطلقت في 4 أغسطس (آب) 2016، واستهدفت تنظيم داعش - تتبنى مقاربة طرد عناصر ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردي PYD))، من مناطق واسعة على الحدود السورية - التركية، تمتد من بلدة تل رفعت قبل التوجه شرقاً في ريف أعزاز الجنوبي، حيث مريمين، ثم الانعطاف نحو الجنوب الشرقي، وصولاً إلى القوس الشمالي لبلدتي كفر نبل والزهراء، فمدينة دارة عزة على بعد نحو 40 كم غرب حلب، والواقعة على مسافة قريبة من ريف إدلب الشمالي الشرقي. وثمة مسعى تركي للتمدد إلى منبج في ريف حلب الشمالي، والوجود عسكريا في إدلب، بما يضمن أن يتم وصل ريف حلب الشمالى بالريف الغربى، ليخلق «قوساً جغرافياً» تسيطر عليه تركيا داخل الحدود السورية، وبموازاة الحدود التركية.

لذلك، قد تبدو العملية العسكرية المرتقبة أكثر تعقيداً واتساعاً من حيث نطاق التحرك الجغرافي، أو عدد القوات المقرر مشاركتها فيها، فمن المقرر أن يشارك إلى جانب فصائل الجيش السوري الحر، نحو 7 آلاف جندي تركي، مرجح مضاعفتهم على نحو غير معلن - أي بزيادة ضعفين على عدد الجنود الذين شاركوا في معركة «درع الفرات». وتأتي هذه العملية على خلفية تطورات تكاد تكون يومية لقصف متبادل بين القوات التركية والميليشيا الكردية في الشمال السوري.
وقد ترتب علي ذلك استدعاء القوات الكردية تعزيزات عسكرية عاجلة من مناطق أخرى، وذلك في مشهد أثار تحديات مركبة وارتباكاً متصاعداً لكثير من الأطراف والقوى الفاعلة على مسرح العمليات السوري، سيما في ظل الوجود العسكري الروسي في مدينة عفرين، ورفع الأعلام الأميركية في مدينة تل أبيض، وعدم مقدرة أنقرة على إعادة التصعيد حيال روسيا أو قطع الصلة الواهنة بالأساس مع واشنطن، بما يدفع إلى طرح تساؤلات مركبة حيال مسار الأهداف التركية ومحركاتها ومواقف القوى الفاعلة في سوريا منها.

سياق التدخل العسكري التركي ومحركاته



تتأسس محركات الموقف التركي في الشمال السوري على تصاعد تمدد القوات الكردية عبر كثير من الساحات غير الكردية والنطاقات الجغرافية الواسعة في مناطق غرب نهر الفرات، سيما بعد السيطرة والتمركز في مدينة منبح، حيث أدت السلطات السورية، بالتنسيق مع القوات الروسية، أدوارا بارزة، في وقت سابق، من أجل الفصل بين القوات التركية والتمركزات الكردية. وقد أشار الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في هذا الإطار إلى «استعداد بلاده لإلحاق الرقة ومنبج بمناطق سيطرة القوات التركية، ضماناً لأمن حدود أنقرة». ونقلت وسائل إعلام روسية عن إردوغان قوله لجريدة «إزفيستيا» إن سوريا «تشهد في الوقت الراهن عمليات سلبية، وإذا تمخض عن هذه العمليات أي خطر يتهدد أمن حدودنا، فسنرد كما فعلنا خلال عملية درع الفرات».

وبينما ارتبطت عملية «درع الفرات» باستغلال التوتر الناتج عن حدوث مواجهات بين الجيش السوري والقوات الكردية في أغسطس 2016، فإن توسيع العمليات العسكرية عبر «سيف الفرات» والمقرر لها بداية أغسطس 2017، ترتبط أيضاً بمحاولة استغلال التوترات الناتجة عن أحداث ريف الرقة الجنوبي بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) Hêzên Sûriya Demokratîk، وتمثل، من جانب آخر، مسعى لتوظيف تصاعد التوتر بين القوات الروسية وحلفائها الإيرانيين والسوريين، من جهة، والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في الميدان السوري، من جهة أخرى.

ولا ينفصل أيضاً عن محركات العملية العسكرية التركية الرغبة في إعادة التمركز في شمال سوريا، وتوسيع نطاق النفوذ التركي، والسيطرة في مواقع تمنحها لاحقاً أفضلية عسكرية، وذلك قبيل المكاسب الجيواستراتيجية المتوقعة، والزخم الدولي المحتمل، والذي قد تحظى به القوات الكردية حال إتمام عملية تحرير مدينة الرقة، التي تمثل معقل تنظيم داعش في سوريا، بما من شأنه أن يعيد تجميع وتوزيع القوات العسكرية الكردية في مناطق تخوم القوات التركية لمنعها من التمدد أو حتى البقاء في أعزاز أو جرابلس أو كلتيهما معاً، إذ يُعتبر هذا الوجود، وفق قوات سوريا الديمقراطية، بمنزلة «احتلال تركي»، بما يعنى أن تحرك أنقرة، في أحد مضامينه وتوقيتاته، إنما يجسد تحركاً استباقياً لتحقيق مكاسب قد يتعذر بلوغها في مراحل لاحقة، أو قد يتطلب إنجازها تكلفة بشرية ومادية أكبر، بما قد يترتب عليه أضرار بالغة لصورة تركيا كثاني أكبر قوة في حلف الناتو، من حيث عدد القوات العسكرية.

[caption id="attachment_55260196" align="aligncenter" width="3500"]مجندات في صفوف قوات سوريا الديمقراطية مجندات في صفوف قوات سوريا الديمقراطية[/caption]

التوافقات الروسية – التركية



وتعمل تركيا في هذا الإطار على استغلال التوافقات الروسية – التركية بخصوص الوجود العسكري التركي في مدينة إدلب، سيما في ظل التطورات التي تشهدها علاقات البلدين على المستوى الثنائي، ونمط الأرضية المشتركة التي أوجدتها أدوار أنقرة التي أدتها لتحقيق الرؤى والسياسات الروسية في إطار اتفاقات التهدئة السابقة، والتي شملت سحب القوات المعارضة من مدينة حلب، أواخر عام 2016. وفي هذا الإطار، أشار المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، إلى أن ثمة خطة روسية - تركية لنشر قوات البلدين في إدلب، ونشر قوات روسية - إيرانية حول مدينة دمشق، بالتوازي مع نشر قوات أميركية - أردنية في درعا في الجنوب السوري.

ولا يغيب أيضاً عن محركات التحرك العسكري التركي في الشمال السوري، إدراك أنقرة أنها خرجت خالية الوفاض بخروج ملف حلب من يدها نهائياً، وإقصاء واشنطن لها عن معركة الرقة لمصلحة قوات سوريا الديمقراطية، بما دفعها إلى العمل على تعديل خريطة السيطرة في ريف حلب الشمالي ذي العمق الاستراتيجي لها بحيث تعمل على حصار عفرين، الإقليم الثالث في الإدارة الذاتية الكردية إلى جانب إقليمي الجزيرة وعين العرب، وعزلها عن محيطها الجغرافي الذي يصلها بحلب، فضلا عن إيجاد ممر جغرافي لمناطق سيطرتها في أعزاز وجرابلس والباب بريف حلب الغربي وأرياف إدلب لإيجاد رقعة جغرافية متصلة تخضع لنفوذها سواء على نحو مباشر أو عبر وكلاء محليين.

الموقف الأميركي حيال التحركات التركية



تشهد العلاقات التركية - الأميركية مسارات وملفات تصعيدية متوالية، فيما التوتر في الروابط المشتركة بلغ حداً حرجاً، وبحسبان بعض الأدبيات، غير مسبوق، وذلك بسبب استمرار عمليات تسليح القوات الكردية من قبل الولايات المتحدة، وعدم التعاطي بجدية مع المخاوف التركية من تصاعد الطموح الكردي في تشكيل إقليم حكم ذاتي بمحاذاة الحدود التركية، كما لا تزال العلاقات تعاني إشكاليات تصاعد التوتر بسبب السلوك التركي حيال ملفات الصراع الإقليمي، ومن جراء رفض الإدارة الأميركية تسليم المعارض التركي، فتح الله غولن، ورفض أنقرة، في المقابل، الإفراج عن مواطن أميركي معتقل في أنقرة.

هذا بالإضافة إلى إدانة مجلس النواب الأميركى، بأغلبية ساحقة، سلوكيات حرس الرئيس التركي حيال المظاهرات التي أحاطت بالسفارة التركية في واشنطن، أثناء زيارته للولايات المتحدة في مايو (أيار) 2017، بما أفضى إلى صدور مذكرات اعتقال بحق 12 من الحرس الشخصي لإردوغان، وذلك بعد الاعتداء على عدد من معارضيه، يحملون الجنسية الأميركية، وعلى النحو الذي تسبب أيضاً فى رفع دعاوى ملاحقة قضائية ضد الرئيس نفسه.

وتبدو خطورة التصعيد التركي حيال الأكراد، وفق رؤية الجانب الأميركي، في كونه يمثل ملفاً إضافياً مثيرا لقضايا عالقة، قد تُفاقم من مساحات الخلاف والتوتر، الذي لا يرتبط بحساسية توقيت التصعيد التركي وحسب، وبحسبانه أيضاً لا يضيف ملفاً جديداً للخلاف والاضطراب في علاقات الجانبين، وإنما كذلك لكونه يأتي في مرحلة تشتد فيها العمليات العسكرية الكردية ضد معاقل تنظيم داعش في مدينة الرقة، وتستهدف تركيا منه مدينة تل أبيض التي تعد أحد أهم مراكز الثقل الأميركي في سوريا، والتي يتركز فيها فرق ووحدات ومعسكرات تدريب أميركية لقوات سوريا الديمقراطية، أفرخت أخيراً نحو ألف مقاتل انضم أغلبهم إلى جبهتي الشرق والغرب في محاور حصار تنظيم داعش داخل مدينة الرقة، والتي على ما يبدو تحظى بتركيز واشنطن دون غيرها.

وقد أشارت إلى ذلك صراحة المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيثر نويرت، في معرض التعليق على الإجراءات التركية حيال المناطق الكردية، حيث أكدت أن واشنطن ينصب تركيزها العسكري في هذه المرحلة على دعم العمليات العسكرية في مواجهة تنظيم داعش في مدينة الرقة، وليس على أي من المناطق الأخرى. وعلى الرغم من أن الكولونيل ريان ديلون، المتحدث باسم قوة العمليات المشتركة، قال إن «قوات التحالف لن تصل إلى عفرين، وإنما سوف تعمل على دعم الشركاء في مدينة الرقة، ومن بعدها يمكن أن يستمر هذا الدعم في مناطق أخرى»، غير أنه من الواضح أن سياسات عدم اليقين التي توظفها الإدارة الأميركية لتوثيق علاقاتها مع الأكراد، بالتوازي مع العمل على ضبط حدود التصعيد في علاقاتها مع أنقرة، إنما تستهدف خدمة مصالح واشنطن مع الجانبين، وبما يضمن حرص كلا الطرفين على الحركة في «الفلك الأميركي».

ذلك أنه على الرغم من أن واشنطن عملت على مضاعفة معدلات تسليحها للقوات الكردية، فإن الرئيس الأميركي كان قد تعهد لنظيره التركي، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، بإقدامه على سحب السلاح من الأكراد عقب تحرير مدينة الرقة، آخذاً في الاعتبار أن تحرك واشنطن لدعم الأكراد في معركة منبج سواء في مواجهة تنظيم داعش أو مواجهة تركيا ارتبط بسياق التحرك السوري - الروسي حيال المدينة المحورية في سباق النفوذ المتصاعد بين موسكو وواشنطن في غير بقعة من سوريا.

وتعتبر تركيا أن الإعلان الأميركي المستمر عن دعم القوات الكردية عسكرياً، في مواجهة تنظيم داعش، سيما بعد التصريحات الأخيرة بشأن إدامة الدعم العسكري للأكراد، لا يمتد إلى مدينة عفرين. فعلى الرغم من تصريحات وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، عن احتمالية مواصلة تسليح الأكراد في سوريا حتى بعد تحرير مدينة الرقة من تنظيم داعش، في مخالفة للاتفاق الأميركي - التركي، فإن أوساطاً كردية أشارت إلى أن واشنطن أبلغت الجانب الكردي بالفعل، منذ فترة، أن تموضع القوات الكردية في مدينة عفرين في ريف حلب الشمالي منذ عام 2013، لا يشمله التنسيق بين الجانبين، كما أنه سابق للتوافقات الأميركية - الكردية، وللتعاون العسكري في مواجهة تنظيم داعش في الميدان السوري.

يدفع ذلك بعدم تعويل الأكراد على أية تطمينات أميركية بشأن نمط وأهداف التحركات التركية، ومن ضمنها ما عبر عنه بعض القادة العسكريين، كالمبعوث الأميركي الخاص، بريت ماكجورك، والذي نسبت له مصادر إعلامية كردية قوله، في أثناء لقائه أعضاء «المجلس المحلى للرقة»، إن «تنفيذ تركيا أي هجوم على عفرين أو أي منطقة أخرى في شمال سوريا، سيغدو بمنزلة انقطاع آخر خيوط العلاقات الأميركية - التركية».

وقد أشار السياسي الكردي، ريزان حدو، صراحة، إلى ذلك بقوله: «لا يمكن الرهان على الولايات المتحدة الأميركية»، مضيفاً أن «الثقة منعدمة بالأميركيين، لا سيما في موضوع عفرين». ولم يستبعد أن يضغط الأميركيون على أنقرة لإرجاء الأمر إلى ما بعد غلق ملف الرقة، لكنهم لن يذهبوا أبعد من ذلك، ولن يحولوا بين «الغزاة الأتراك» ومحاولتهم تطويق عفرين. يبرر هذه الرؤى والقناعات الكردية أو يدعمها تصريحات أميركية جاءت في سياقات مختلفة، منها ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، من أنه قد قام بإبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بأن أولويات إدارة ترامب في سوريا باتت «تقتصر على محاربة تنظيم داعش».

لماذا الرغبة التركية في السيطرة على «عفرين»؟



يبدو من ذلك أن معركة عفرين تمثل أزمة تركية - كردية كبرى في طور التشكل، وقضية قد تتفاقم لتفضي إلى تصعيد يدفع بتعقيد جديد للمشهد السوري المرتبك، كونها مدينة، من ناحية ذات وضعية مركزية تحظى بخصوصية بالنظر لموقعها في إطار المشروع الكردي في الشمال السوري، ذلك مقابل أهميتها بالنسبة للدولة التركية، التي تنظر إليها باعتبارها محطة مركزية، سواء لدعم النفوذ والسيطرة أو لوأد الخطط وإحباط المشروعات الكردية، والتي تعتبر أنقرة أنها تستهدف نطاقاً جغرافياً يمتد في جبال قنديل إلى مدن عفرين في الغرب، عبر شينكال، وصولاً إلى مدينتى الجزيرة وكوباني.

ويبدو أن معركة عفرين ترتبط مآلاتها، على جانب آخر، بنمط التوجه الروسي وخياراته، كون موسكو كانت قد استغلت بُعد واشنطن نسبياً عن المدينة الحدودية مع تركيا وقربها من قاعدة «حميميم» الروسية من أجل التحرك باتجاهها للتمركز في المدينة التي تشكل مساحتها نحو اثنين في المائة من الجغرافيا السورية، وتقع في ريف حلب الشمالي، وتشكل، إلى جانب مدينة تل رفعت، مراكز حضور عسكري كثيف للقوى الكردية، التي تعتبر بدورها أن التحركات التركية تمثل اختباراً جدياً للروابط الكردية مع موسكو.

هذا بالإضافة إلى أن الاتفاقات التي أدت إلى دخول قوات روسية إلى نقاط عسكرية في عفرين قامت على أساس أن تتولى تلك النقاط مهمة لجم الأتراك، والحيلولة بينهم وبين القيام بأى اعتداء، وذلك حسب طلال سلو، المتحدث الرسمي باسم قوات «قسد»، الذي اعتبر أن القوى الكردية في سوريا تتوقع من القوات الروسية أن تصوغ أدواراً شبيهة بتلك التي أدتها القوات الأميركية في مدينة منبج، حيث «وضعت حداً للأتراك»، و«فى حال عدم قيام الروس بهذا الدور، سيكون واضحاً أن موسكو أعطت ضوءاً أخضر لأنقرة». وفي هذا السياق المحفوف بالمناورات والتشابكات المعقدة تخوض أطراف كردية مفاوضات سرية مع القوات الروسية وممثلين عن النظام السوري لتسليم مدينة عفرين لنظام الأسد، وأداً للتحركات التركية، واستباقاً في الوقت نفسه لأي مواءمات قد تخضع لها الإدارة الأميركية.

[caption id="attachment_55260197" align="aligncenter" width="3500"]تحركات بشرية واسعة على الحدود التركية من جراء العمليات العسكرية بسوريا تحركات بشرية واسعة على الحدود التركية من جراء العمليات العسكرية بسوريا[/caption]

مدينة إدلب والمشروع التركي في الشمال السوري



تعمل تركيا منذ شهور خلت للسيطرة على مدينة إدلب عبر مشاريع مختلفة ومؤسسات متعددة ووجود مكثف للعمالة التركية والعناصر والميليشيا المحسوبة عليها، بما يعكس محورية المدينة، بحسبانها واحدة من مناطق التمركز الرئيسية المقرر التموضع عسكريا فيها بمقتضى التوجهات التركية الراهنة، والتي تأتي في إطار سياسات استغلال التوافقات الروسية - التركية الأخيرة والتي عكستها الجولة الخامسة من مفاوضات آستانة في 4 يوليو (تموز) 2017، وكذلك عبر تصاعد أوجه التعاون المشترك على مسرح العمليات السوري، من خلال التوجه لإرسال قوات مشتركة في بعض المناطق، سيما في مدينة إدلب، وذلك تطبيقاً لاتفاق «خفض التوتر» في مناطق أربع تشمل محافظة إدلب (شمال غرب)، وأجزاء من محافظات اللاذقية وحماة وحلب المجاورة، وبعض المناطق شمالي محافظة حمص (وسط)، والغوطة الشرقية بريف دمشق، ومحافظتي درعا والقنيطرة، جنوبي سوريا.

وتبدو مدينة إدلب وريفها محور اهتمام القيادة السياسية والعسكرية التركية، حيث تعمل أنقرة على إنشاء ثلاث قواعد عسكرية في المدينة، كما تخطط لإنشاء قاعدة عسكرية دائمة فوق قمة جبل الشيخ بركات بريف حلب الغربي، وهي من أعلى القمم في سوريا، وتكشف مساحات واسعة، خاضعة لسيطرة أطراف مختلفة: قوات المعارضة، والميليشيات الكردية، والجيش السوري وحلفائه.

التداعيات المحتملة... مسارات المقايضة وأنماط المواجهة



تعتبر أنقرة أن قضية الأكراد واحدة من التحديات الرئيسية التي يواجهها الأمن القومي التركي، غير أنها لا تؤخذ بعين الاعتبار من قبل «شركاء أنقرة التقليديين»، حسب تعبيرات الرئيس التركي، الذي كان قد صرح بأن وحدات حماية الشعب الكردية، لا تزال موجودة في منطقة شمال سوريا إلى الغرب من نهر الفرات، ويجب طردهم من هذه المنطقة، واعتبر أنه «من الخطأ تركيز الجهود العسكرية في سوريا على تنظيم داعش فحسب، لأن ذلك سيقوي شوكة جماعات متشددة أخرى».

ويبدو أن هذه القضية قد تشكل محور تفاعلات أنقرة الخارجية خلال المرحلة المقبلة، وقد تفضي إلى مواجهات ضخمة بعضها طارئ وبعضها الآخر مؤجل. فعلى صعيد العلاقات التركية - الأميركية، قد يمثل قيام أنقرة بتصعيد قصفها العسكري لمناطق تمركز الأكراد حالة عدم الثقة في الشريك الأميركي، الذي يعتبر بدوره أن أنقرة لم تعد وحسب تحاول التحرك في مدار مستقل نسبياً عن «المدار الأميركي»، وإنما باتت تشكل صانع اضطرابات Trouble Maker، يربك الحسابات الأميركية على أكثر من ساحة إقليمية، وأنها غدت تسعى لأن تضطلع بأدوار تتعدى مرحلة «الوكيل الإقليمي» إلى وضعية تجعلها تبدو أقرب إلى «حلقة الضعف» في استراتيجيات واشنطن حيال الإقليم.

يتداخل مع ذلك مسارات التصعيد المحتملة أو المؤجلة بين واشنطن وأنقرة، في ظل تصاعد أشكال التعاون بين الأخيرة وموسكو، سواء فيما يخص تطورات العلاقات الثنائية، أو في ما يتعلق بعمليات التنسيق بين الجانبين في الميدان السوري، عبر ما يمكن اعتباره مقايضة روسية - تركية، قد تخلق توافقات مؤقتة وصراعات مؤجلة. فقد أشارت بعض التقديرات الأمنية إلى أن ثمة صفقة بين الجانبين تقوم على معادلة «عفرين مقابل إدلب»، ترتبط بتوجه روسي لدعم محاصرة أنقرة لمدينة عفرين وتحركاتها باتجاه الجنوب الغربي، وصولا إلى مدينة تل رفعت، وذلك مقابل «توظيف» موسكو لأنقرة - كما تم من قبل في مدينة حلب - عبر حث أنقرة حلفاءها من الجماعات الإسلامية على مغادرة مدينة إدلب باتجاه مناطق النفوذ والسيطرة في مثلث جرابلس - الباب - الراعي، والذي قد يشمل لاحقاً، حال توافق الجانبين، مدينتي عفرين وتل رفعت.

هذا فيما يتم ترك حصار الجماعات المتشددة مثل «جبهة فتح الشام» للجيش الروسي وحلفائه في الميدان السوري، وذلك وفق استراتيجيات الإخلاء والسيطرة التي انتهجتها موسكو حيال كثير من المدن السورية، كما ستشكل مناطق تمركز القوات التركية مناطق إيواء للمواطنين النازحين من ميدان الصراع القادم في إدلب.
وفي مقابل ذلك، تعمل القوى الكردية على مد قنوات التواصل مع روسيا والنظام السوري من أجل إيجاد توافقات مشتركة بشأن مدينة عفرين، تسمح بتوسيع التمركز العسكري السوري في المدينة، لإحباط المخططات التركية، وعلى جانب موازٍ، تبدي القوى الكردية استعداداً عسكرياً ملحوظاً. فقد أصدرت وحدات حماية الشعب بياناً في 30 يونيو (حزيران) 2017، أشارت فيه إلى أنها تعتزم مواجهة «الاحتلال التركي من المنطقة الواقعة بين أعزاز وجرابلس».
وقد عكس ذلك الرغبة في التصدي والتحدي الكردي لأنقرة، سيما أنه بينما قامت القوات التركية بقصف وحدات حماية الشعب في جنوب غربي أعزاز وشمال تل رفعت بمدافع الهاوتزر التركية (عيار 155ملم)، فإن وحدات حماية الشعب ردت مباشرة بإطلاق قذائف الهاون (عيار 81ملم) على أهداف الجيش السوري الحر في مثلث جرابلس - أعزاز – الراعي، لتقع اشتباكات مباشرة بين وحدات حماية الشعب والجيش السوري الحر شرق تل رفعت.

وتعمل أنقرة من جهتها على مواجهة تنامي القدرات التسليحية والاستعدادات القتالية للقوى الكردية، عبر دعم الجيش السوري الحر، من خلال أطر تسليحية وتدريبية ومالية، ولا يغيب عنها العقيدة القتالية، ليشكل الذراع الطولى للقيادة التركية على مسرح العمليات السوري، ويناط به القيام بضبط المنطقة الأمنية من جرابلس حتى إدلب، ومهام مهاجمة قوات سوريا الديمقراطية، التي يتجاوز عدد مقاتليها 50 ألفاً. هذا فيما يتكون الجيش الحر من قوات تقدر بنحو 20 ألف عنصر، وقد بدا أن هذا الجيش مغاير لـ«الفيلق الأول» الذي كان من المفترض تأسيسه، ويتكون من قوات «درع الفرات»، بالتحالف مع نحو 17 فصيلاً. ذلك أن الصراعات المعقدة بين بعض فصائله من جانب، وتركيا من جانب آخر، دفعت أنقرة في النهاية إلى التفكير في تكوين «جيش موالٍ» يتأسس على قوات «درع الفرات» وعدد محدود من الفصائل السورية الأخرى المرتبطة بها، وعلى رأسها جبهة «أحرار الشام»، التي يشرف على تدريبها ويقودها عناصر الجيش التركي.
هذه المؤشرات التصعيدية والتحولات الميدانية والاستعدادات القتالية لدى الجانبين، توحي بأن ثمة مشكلات أمنية وصراعات مسلحة مركبة وغير مسبوقة قد تضاف إلى تعقيدات المشهد العسكري في سوريا، سيما أن المواجهات المسلحة المحتملة في هذا الإطار لن تكون محدودة. فالميليشيا الكردية الموجودة في عفرين تتمتع بالكفاءة القتالية والجدارة العسكرية، على النحو الذي أثبتته في أكثر من معركة ضد تنظيم داعش، كما أنها غدت تحظى بخبرات قتالية أكبر وقدرات تسليحية أوسع.

يزيد ذلك من التحديات العسكرية أمام القوات التركية التي احتاجت نحو 184 يوماً للسيطرة على مدينة الباب، ونحو 6 أشهر لتشكيل منطقة آمنة لم تتجاوز مساحتها بعد 3 آلاف كم، بما قد يوحي بأن أنقرة ستجابه معارك مركبة وتهديدات متصاعدة في نفس الوقت، فإلى جانب مواجهة قوات حماية الشعب الكردية، ثمة مواجهة تتفاعل مع جبهة فتح الشام التي تفرض سيطرتها على مناطق واسعة من إدلب. هذا في وقت تشير فيه المعطيات إلى أن موسكو لن تسمح لتركيا بالتحكم في مدينة إدلب لمحورية الموقع في جغرافيا الصراع السوري، حال تحريرها لاحقا بشكل كامل من الفصائل المتطرفة، حسب التصور الروسي، كما قد يتم في اللحظة الأخيرة وبعد تمرير التوافقات بشأن إدلب دخول الجيش السوري والميليشيا التابعة له إلى عمق مدينة عفرين.

وقد يُربك ذلك حسابات الأتراك في المعارك المعقدة بالميدان السوري، إلى جانب معاركهم المشتتة في الميادين الأخرى، ما قد يفضي على جانب موازٍ إلى تسعير المواجهة العسكرية مع حزب العمال الكردستاني على الساحة الداخلية التركية، والتي باتت تشهد بدورها عمليات نوعية متزامنة تستهدف القوات التركية، والتمركزات الأمنية، والمؤسسات الشرطية، وطائرات الهليكوبتر العسكرية. كما قد تدفع هذه التطورات إلى تكثيف عمليات استهداف التحركات التركية في الميدان العراقي، بما يحوِّل ساحة المواجهة إلى معارك إقليمية متزامنة بين الأكراد والأتراك، ستصب في النهاية لمصلحة الرؤى والتوجهات الروسية، التي قد تستفيد هي وحفاؤها من إنهاك القوى الكردية والتركية في آن واحد، وهو أمر قد يشكل خصماً من رصيد الولايات المتحدة التي باتت تعتمد على القوى الكردية وتؤسس لوجود عسكري دائم في سوريا قائم على التحالف بين الجانبين. لذلك، فرغم التحركات العسكرية التركية، ثمة جهود أميركية لن تتوانى حتى اللحظة الأخيرة عن استخدام كل الأوراق الممكنة لإحباط التحركات التركية، أو على الأقل تجميدها مرحلياً.

* رئيس تحرير فصلية «شؤون تركية»، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.



font change