القاهرة: شهدت العشر الأواخر من رمضان حراكا دبلوماسيا سعوديا على أصعدة مختلفة عربيا وإقليميا، هدفت من خلاله حلحلة الأزمات في ظل تصاعد حدتها وتداخل أبعادها وتزايد تأثيراتها وتنوع انعكاساتها على أمن المنطقة واستقرار دولها، وهو ما دفع المملكة العربية السعودية بقيادتها الحكيمة وبرؤيتها المستقبلية 2030 التي تتضمن في جزءٍ منها أهمية العمل على تعزيز مكانة المملكة إقليمياً وعالمياً، والدفع بمسيرة التعاون المشترك بين الأشقاء والحلفاء الإقليميين الساعين لتعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة ومواجهة التدخلات الإقليمية غير العربية التي تستهدف تأجيج الصراعات في المنطقة لخدمة مصالحها وقضاياها على حساب مصالح شعوب المنطقة وأمنها.
ولذا، حرصت المملكة العربية السعودية على أن تكون برؤيتها السياسية وقوتها الاقتصادية ومكانتها الدينية حائط صد أمام التدخلات الخارجية التي تستهدف زعزعة الاستقرار وإثارة الصراعات سواء بين بلدان المنطقة أو حتى داخل هذه البلدان، فمن استضافة للمجلس الرئاسي اليمني ودعمه كخطوة فى سبيل حلحلة الأزمة اليمنية، إلى عقد لقاءات مع رئيس المجلس العسكري الانتقالي في جمهورية تشاد محمد إدريس ديبي، والرئيس السنغالي ماكي سال، وعثمان غزالي رئيس جمهورية القمُر المتحدة، والحسن واتارا رئيس جمهورية كوت ديفوار وذلك على هامش أدائهم مناسك العمرة، حيث تم خلالها استعراض أوجه العلاقات الثنائية بين البلدين وآفاق التعاون في مختلف المجالات، إضافة إلى بحث عدد من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك. هذا إلى جانب استقبال المملكة لاثنين من قادة الدول الفاعلة إقليميا، هما: تركيا وباكستان، فضلا عن إجراء عديد الاتصالات وتلقي عديد الرسائل مع قادة وكبار مسؤولي دول العالم. في خضم كل ذلك، كانت السعودية محورا لتفاعلات مهمة إقليميا ودوليا، وهو ما يستعرضه التقرير من خلال ثلاثة محاور على النحو الآتي:
أولا: اليمن في القلب من الاهتمام السعودي
في رؤية غير مسبوقة حملت الكثير من التفاؤل لوضع نهاية للأزمة اليمنية، جاءت مبادرة الرياض بتأسيس المجلس الرئاسي اليمني، للعبور باليمن في مرحلته الانتقالية إلى بر الأمان، إذ هدفت هذه المبادرة إلى حلحلة أزمة عاشها اليمن ليس فقط كما يقال بسبب أحداث ما عُرف بالربيع العربي على غرار ما شهدته بلدان عربية أخرى (تونس ومصر وسوريا)، بل ترجع جذورها إلى ستة حروب خاضتها الحكومة اليمنية ضد جماعة الحوثيين قبل تفاقم الأزمة الأخيرة.
وكان للمملكة العربية السعودية موقف ثابت في مساندة الشعب اليمني وحكومته الشرعية ضد أية تحركات أو تهديدات تأتي من بعض الأطراف اليمنية المدعومة من الخارج، وهذا الموقف الثابت للمملكة لم يتغير مع تفاقم الأزمة اليمنية الأخيرة، وهو ما يؤكد على محورية الموقف السعودي النابع من إيمان قيادتها السياسية بأن الشعب اليمني عانى الكثير من الصراعات والأزمات بفعل الخلافات السياسية، وأن الوقت جاء لوضع نهاية لهذه الخلافات، فكانت استضافة الرياض للمشاورات اليمنية التي شارك فيها 800 يمني مثلوا مختلف المكونات السياسية، نقطة الانطلاق للتوصل إلى خريطة طريق تضمنت 11 بنداً، حملت مخرجات تفصيلية في كل مسار من مسارات المشاورات الستة: (السياسي، والاقتصادي والتنموي، والمسار الأمني، والاجتماعي، والإعلامي، والإنساني والإغاثي). وكان من أبرز هذه المخرجات قرار الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، تشكيل مجلس القيادة الرئاسي (مكون من 8 أعضاء) لإدارة الدولة سياسياً وعسكرياً وأمنياً خلال الفترة الانتقالية، واستكمال تنفيذ مهام تلك المرحلة، مع تفويضه بكامل صلاحيات رئيس الجمهورية. وقد تسلم المجلس السلطة في السابع من أبريل (نيسان) الماضي، وفي أعقاب أدائه اليمين الدستورية أمام مجلس النواب اليمني في 19 أبريل، جاءت زيارته الخارجية الأولى إلى كل من المملكة العربية السعودية والإمارات، حيث أكدت الدولتان على دعمهما للمجلس في أداء مهامه؛ بدءا بالدعم الاقتصادي من خلال تقديم مساعدات مالية قُدرت بثلاثة مليارات دولار أميركي على النحو الآتي: مليارا دولار أميركي مناصفةً بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، دعماً للبنك المركزي اليمني، مليار دولار أميركي من السعودية، منها 600 مليون دولار لصندوق دعم شراء المشتقات النفطية، و400 مليون دولار لمشاريع ومبادرات تنموية، 300 مليون دولار أميركي لتمويل خطة الاستجابة الإنسانية التي أعلنتها الأمم المتحدة لعام 2022، وذلك بهدف تخفيف المعاناة عن الشعب اليمني وتحسين أوضاعه المعيشية والخدمية، هذا فضلا عن دعوتها بعقد مؤتمر دولي لحشد الموارد المالية اللازمة لدعم الاقتصاد اليمني والبنك المركزي اليمني وتوفير المشتقات النفطية. وإلى جانب هذا الدعم الاقتصادي، جاء دعمها السياسي أيضا من خلال مطالبة المملكة للمجلس الرئاسي بضرورة الإسراع في بدء التفاوض مع جماعة الحوثيين تحت إشراف الأمم المتحدة، بهدف التوصل إلى حل سياسي نهائي وشامل يتضمن فترة انتقالية تنقل اليمن إلى السلام والتنمية التي تنعكس على حياة المواطن اليمني الذي عانى على مدار السنوات الماضية، وهو ما كان موضع تقدير وإشادة من جانب رئيس المجلس الانتقالي رشاد العليمي عقب عودته إلى اليمن بعد لقاءاته في السعودية والإمارات، إذ وصف زيارته بـ«الناجحة والمثمرة»، معبرا عن «ارتياحه البالغ للمحادثات التي جرت ونتائج الجولة المثمرة التي ستظهر ثمارها قريباً بما يقود لتخفيف معاناة الشعب اليمني... وأن المواقف الأخوية للسعودية والإمارات ليست غريبة على أشقاء قدموا دماءهم رخيصة في سبيل نصرة اليمن قبل المال والمعونات في مختلف المجالات».
ثانيا: لقاءات قمة... رؤى متطابقة وعلاقات متميزة
في لقاءي قمة، استضافت المملكة العربية السعودية خلال الأسبوع الأخير من رمضان، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في أول زيارة له للمملكة منذ خمس سنوات هدفت إلى طي صفحة الماضي القريب الذي شهد توترا في علاقات البلدين، إذ أدرك الرئيس التركي مدى الأهمية التي تشغلها المملكة العربية السعودية إقليميا ودوليا، وأن مصالح بلاده وأمنها لا يمكن أن يتحققا بعيدا عن التعاون والتفاهم مع الجوار العربي وخاصة المملكة العربية السعودية، وهو ما أكده بقوله: «إننا لا نفرق بين أمننا وأمن منطقة الخليج».
وقد شهدت الزيارة لقاءات على مستوى القمة مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حيث تم الاتفاق كما صرح الرئيس التركي على إعادة تفعيل الإمكانات الاقتصادية الكبيرة بين البلدين من خلال فعاليات تجمع المستثمرين من الجانبين، معلنا دعم بلاده تنظيم معرض إكسبو 2030 الدولي في السعودية، واصفا زيارته في تغريده له عقب عودته إلى تركيا بأنها: «زيارة ناجحة».
وغني عن القول إن من أهم ثمار تلك الزيارة إدراك تركيا لضرورة تصحيح مسارها التعاوني مع جوارها العربي، كما أكد على ذلك الرئيس التركي بقوله: «يتعين علينا الدخول في مرحلة جديدة مع الدول التي نتقاسم معها نفس المعتقدات والأفكار إنها مرحلة كسب أصدقاء وليس خلق أعداء».
وفي السياق ذاته، استقبلت المملكة كذلك رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف في أول زيارة خارجية له بعد تولي منصبه عقب إزاحة رئيس الوزراء السابق عمران خان في عملية سحب الثقة منه في البرلمان الباكستاني عقب تفجر أزمة سياسية بين الحكومة والمعارضة، حيث نجحت الأخيرة في إسقاطه في عملية تصويتية هي الأولى من نوعها في الحياة السياسية الباكستانية.
وقد حرص رئيس الوزراء الجديد أن تكون أولى زياراته الخارجية إلى المملكة العربية السعودية، مؤكدا في حوار أجراه مع جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية على هامش زيارته بأن توجهه إلى المملكة إنما يعكس: «رغبتنا الجادة الآن في تحويل هذه العلاقة إلى شراكة استراتيجية عميقة ومتنوعة ومفيدة للطرفين... يعمل الجانبان الآن على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري من خلال استكشاف الفرص غير المستغلة المتاحة بموجب رؤية السعودية 2030 وأولويات التنمية في باكستان».
ومن نافل القول إن التوجه الباكستاني إلى المملكة العربية السعودية لم يكن وليد اهتمام الحكومة الجديدة، وإنما يتمتع البلدان بعلاقات تاريخية طويلة الأمد في تنوع مجالاتها وأهميتها الاستراتيجية على مدى العقود السابعة الماضية منذ استقلال باكستان، إذ تطابقت رؤاهما وتعاظم تعاونهما في مختلف القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما عبرت عنه مفردات البيان الختامي الصادر في نهاية الزيارة وتأكيده على أهمية تعزيز العمل المشترك بين البلدين من خلال مجلس التنسيق الأعلى السعودي الباكستاني، وتنويع التجارة البينية، وتكثيف التواصل بين القطاع الخاص الهادف إلى البحث عن الفرص التجارية والاستثمارية وترجمتها إلى شراكات ملموسة، مع تأكيدهما على استمرارية العمل على تنسيق مواقفهما الداعمة لتوطيد الأمن والاستقرار ونبذ العنف والتطرف والإرهاب، ودعم وحدة واستقلال دول المنطقة وسلامة أراضيها، وتغليب الحلول السياسية للصراعات بما يعود بالنفع على دول المنطقة وشعوبها كافة.
ثالثا: المملكة في عالم متغير... ركيزة للأمن والاستقرار
ليست مبالغة القول إن العالم اليوم بما يشهده من تحولات عدة وتغيرات عديدة وتقلبات متسارعة واصطفافات متباينة، يعاني من أزمات متصاعدة وملفات متشابكة، خلقت حالة من الضبابية في المشهدين العالمي والإقليمي، وفرضت أهمية البحث عن فواعل إقليمية قادرة على التعامل مع تداعيات كل هذه التحولات على أمن المناطق الإقليمية واستقرارها.
وإذا كان ما سبق ينطبق على معظم المناطق الإقليمية التي تشهد اضطرابات وصراعات بمستوى ما، فإن هذا الأمر ينطبق على منطقة الشرق الأوسط بشكل أكثر دقة، إذ تعد هذه المنطقة واحدة من المناطق الأكثر التهابا في العالم، إذ يوجد بها أقدم صراع في عمره الذي يتجاوز 70 عاما، وهو الصراع العربي الإسرائيلي، فضلا عما شهدته من صراعات وحروب وأزمات عدة، ليس أقلها ما تشهده المنطقة اليوم، بل كانت المنطقة ساحة لثلاثة حروب: حرب الخليج الأولى (1980- 1988) وحرب الخليج الثانية (1990) ثم حرب الخليج الثالثة (العراق 2003)، هذا إلى جانب استمرار الأزمات بين دول المنطقة كل في جواره الجغرافي، سواء بسبب صراعات على الحدود أو على الموارد أو على تباين التوجهات السياسية.
وفي كل تلك الأزمات التي تعاني منها المنطقة، حيث تتعقد أبعادها وتتداخل أسبابها، يصبح التحرك في ملفاتها أشبه بالتحرك في بيت للعنكبوت، إذ إن خيوطها عديدة ومتشابكة ولكن هشة، وهذا ما تدركه القيادة السعودية في تعاملها مع ملفات المنطقة وأزماتها، إذ تنطلق سياستها من قراءة صحيحة لأبعاد تلك الملفات، وتحليل دقيق لأسبابها، وتصنيف واعٍ لمواقف أطرافها، ورؤية بعيدة لسيناريوهات حلها في ضوء واقعها المتغير، وهو ما أكسب المملكة دورا فاعلا في إدارة هذه الأزمات من خلال بناء شراكات استراتيجية مع الحلفاء الإقليميين الساعين لتعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة.
نهاية القول إن الدبلوماسية السعودية لديها سمت متفرد لا تتشابه مع أية أنواع أخرى من الدبلوماسية، يمكن أن نطلق عليه «دبلوماسية العشر الأواخر من رمضان»، والتي عادة ما تأتي بنتائج مهمة في معالجة قضايا الأمتين الإسلامية والعربية، عبر العمل على تعزيز التضامن بين دولها وتذويب الخلافات بين أطرافها، ولعل التاريخ يحمل عديد النماذج الدالة على نجاح هذا النمط من الدبلوماسية، بدءا من توقيع معاهدة الصلح بين أطراف القيادات الدينية العراقية (سنة وشيعة) في أكتوبر (تشرين الأول) 2006 خلال لقاء تركز على محاولة جمع شتات القيادات لتوحيد الصف ونبذ الخلافات الطائفية والسياسية، حيث وقع علماء عراقيون من السنة والشيعة على وثيقة مكة التي تؤكد على حرمة إراقة الدم العراقي، وتضمنت 10 نقاط رئيسية من بينها تحريم تكفير المسلمين، والابتعاد عن استهداف المساجد، والعمل على تعزيز المصالحة الوطنية في العراق، مرورا بإعلان «ميثاق مكة المكرمة لتعزيز التضامن الإسلامي» الذي صدر في ختام قمة التضامن الإسلامي الاستثنائية التي عقدت في مكة يومي 14 و15 أغسطس (آب) 2012 ما وافق (26-27 رمضان) بمشاركة ملوك ورؤساء 57 دولة إسلامية أعضاء منظمة التعاون الإسلامي، وصولا إلى استضافة مكة ثلاث قمم في العشر الأواخر من رمضان يومي 30 و31 مايو (أيار) 2019؛ منها قمتان خليجية وعربية طارئتان صدر في ختامهما بيان ختامي، ثم قمة إسلامية عادية صدر في ختامها بيان ختامي مطول من 102 بند، إضافة إلى قرار بشأن فلسطين، وإعلان حمل اسم «إعلان مكة».
ويأتي هذا العام (رمضان 2022) ليؤكد على استمرارية هذا النمط من الدبلوماسية السعودية المتفردة من نوعها، والتي يمكن الاستفادة منها في قادم الأيام في حلحلة عديد القضايا والأزمات التي لا تزال تواجه أمتنا الإسلامية والعربية.