يبدو أن نسبة الذين سيقاطعون الانتخابات لعام 2022 ستكون مهّمة هذه المرة مع الاستحقاق النيابي الذي يطل برأسه بعد أيام معدودة في لبنان. هناك أسباب كثيرة يرددها البعض لقرارهم العزوف عن الاقتراع، كما أن هناك وقائع أيضا لا يمكن تجاهلها ستعزز حتما من نسب «المقاطعة».
البعض يقاطع عملا بالمثل اللبناني الشائع «من جرب المجرب كان عقله مخرب». ولا شيء يستطيع إقناعهم بغير ذلك. يقولون إن المجلس النيابي القادم لن يختلف عن الذي سبقه، ويضيفون أن جمهور الأحزاب كبير وقانون الانتخابات المعروف بـ«قانون عدوان» نائب رئيس حزب القوات اللبنانية، يعطي أفضلية لهذا الجمهور الذي يدار من قبل القيادات على «الريموت كنترول». لذا الكلام عن المعركة الانتخابية وما شابه هو بالفعل والواقع تنافس بين «المجربين». ولا أمل يرتجى.
هناك فئة لن تنتخب لأنها ترى أن الشعارات المرفوعة من قبل كل الأحزاب والشخصيات السياسية هي وهم. يعتقدون أن هناك دجلا سياسيا مخيفا موجها للداخل والخارج. فهل يعقل أن يصدق الناخب أن حزب الله مثلا يريد أن «يبني ويحمي»؟ أو أن «ورقة بيضاء» يمكن أن تقضي على سلاح «المقاومة».
يقولون إن كان صحيحا ما يردده خصوم حزب الله أنه قاتل وإرهابي فكيف يعقل مواجهة تلك «الميليشيا» بالسياسة؟ هل يعني أن تلك الفئة تدعو للحرب الأهلية؟ قطعا لا، ولكن ما تطلبه هذه الفئة أن تكون الشعارات التي تطلقها الأحزاب قابلة للتطبيق. ليجدوا حلا مثلا لأوتوستراد جونيه حيث ازدحام السير آفة عمرها عشرات السنين. تعيق حركة السياحة التي هي أساس في شعارات البعض الانتخابية. لنبدأ من هنا الخطوة الأولى في الألف ميل لنصل إلى «تحرير لبنان من إيران». حتى الصورة التي يرسمها طالبو الدعم المالي من الخليج إلى الولايات المتحدة الأميركية عن الانتخابات النيابية وما يمكن جنيه منها إن هم ربحوا في الوصول إلى الندوة التشريعية غير واقعية. يعدون هذه الدول أنهم في حال استحوذوا على الأكثرية في مجلس النواب سيمارسون الديمقراطية العددية فيما يؤمنون ويعملون ضمن إطار الديمقراطية التوافقية. نقيضان لا يلتقيان.
هناك أيضا فئة تقول إنها اقترعت في الأعوام السابقة من وحي الأزمة «أي لبنان نريد»؟ وأن ما دفعها للاقتراع اقتناعها بما قيل آنذاك «هذا الاستحقاق مصيري»، وأن الاقتراع هو على الإبقاء على الهوية اللبنانية، والثقافة التي يراد لها أن تتغير، وأن الاختيار هو بين لبنان (هانوي) ولبنان (هونغ كونغ) ليتضح بعد الانتخابات النيابية أن أنصار فكرة هانوي وأنصار فكرة هونغ كونغ لا يجدون حرجا في أن يتشاركوا مجلس النواب والحكومات من دون أن يتعرض المصير للضياع والهوية لخطر الذوبان والثقافة للتغيير.
هذه الشراكة بين الفكرتين كانت قائمة بعد الطائف، وحاول التأقلم معها الرئيس رفيق الحريري ونجح بعض الشيء. بالرغم من الصعوبات الكبيرة التي اعترضته إنما أعاد بعضا من الحياة للبنان واختصر بشخصه وديناميته وعلاقاته فكرة هونغ كونغ. اليوم ما تزال تلك المعادلة قائمة ولو بوهج أقل بكثير لعدم وجود الحريري ولأسباب أخرى أيضا لا مجال لتعدادها الآن.
عندما تقول لمن سيقاطع: لماذا لا تقترع للوجوه الجديدة مثلا؟ الجواب هو أن خطاب الوجوه الجديدة لا يختلف عن خطاب ديناصورات مجلس النواب. ليس لديهم طرح جديد. ليس هناك فكرة تهز الكيان الطائفي المقيت من أركانه، البعض يردد بببغائية، في عصرنا هذا دروس التاريخ والجغرافيا التي تلقاها قبل 40 عاما: «اقتصاد لبنان حر»، «لبنان صلة بين الشرق والغرب». عن أي اقتصاد يتكلمون؟ وعن أية صلة بين شرق وغرب في عصر «الميتافرس»؟
إلى جانب كل تلك الأسباب التي يرددها أنصار المقاطعة هناك وقائع ستخفض نسب الاقتراع، منها تضاؤل أعداد المسيحيين بشكل كبير ومقاطعة جمهور سعد الحريري للانتخابات النيابية.
بالمحصلة، المقاطعون يؤكدون أنهم سيقترعون عندما يقدم أي من «جهابذة» السياسة اللبنانية أو «قادة» المجتمع المدني أو «ثوار» ثورات لبنان الكثيرة جوابا عن أي «دور للبنان في محيطه»، والكلام هنا ليس محصورا في السياسة إنما بالاقتصاد قبل كل شيء. فموضوع لبنان الرسالة والعلاقة الروحانية بين سكان هذه الأرض وخالقهم لا تحل معضلة الإنتاج والصناعة والمال والزراعة... إلخ. فحتى المؤمن وإن كان لا يحيا بالخبز وحده فهو بحاجة إلى الخبز. أما الخبز فهو بحاجة لخطة كي يُصنع ولمخابز وأفران وماكينات ويد عاملة وقمح ومواد أولية وبترول وخطة توزيع. فإن كان صحيحا أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان فالأصح أنه من دونه يموت.