واشنطن: أدى الغضب الأميركي العميق، الرسمي والشعبي، بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى اتخاذ قرارات تاريخية:
أولاً، إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا لتحرير «كل شبر» من أراضيها.
ثانيًا، زيادة العقوبات على روسيا حتى «تعاني إلى الأبد».
ثالثًا، إحالة روسيا إلى المحكمة الجنائية الدولية.
لكن، صارت النقطة الأخيرة مثيرة للجدل بين سياسيين، وأكاديميين، وعسكريين. وبينما أشار كثير من الذين تحدثوا عن الموضوع إلى تناقض (ونفاق) الولايات المتحدة، لأنها ليست عضوا في المحكمة، ولأنها عاقبت فاتو بنسوده، كبيرة المدعين في المحكمة، عندما بدأت إجراءات التحقيق في جرائم الولايات المتحدة في أفغانستان (ودول أخرى)، جادل آخرون بأن التناقض (والنفاق) أقل أهمية من وجوب معاقبة روسيا.
لكن، منذ البداية، كانت الولايات المتحدة مترددة نحو (إن لم تعارض) المحكمة الجنائية الدولية.
في سنة 2000، وقع الرئيس بيل كلينتون، مترددا، على قانون روما الأساسي (المعاهدة التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية). فعل ذلك خلال أيامه الأخيرة في منصبه. وذلك لأنه كان واجه معارضة قوية في الكونغرس، أكثرها من الجمهوريين.
كان هناك قلق بسبب المسيسين في رئاسة المحكمة، وبسبب تعدي المحكمة على النظام القضائي الأميركي. وبسبب وجوب حماية العسكريين.
في سنة 2001، في أول أيامه في البيت الأبيض، شطب الرئيس جورج بوش توقيع كلينتون. ومات الموضوع قانونيا.
في سنة 2016، حتى قبل أن يصبح رئيسًا، شتم دونالد ترامب، خلال الحملة الانتخابية، المحكمة الجنائية الدولية لمجرد قيامها بعمل تحضيري للنظر في جرائم الولايات المتحدة في أفغانستان. وعندما صار رئيسًا، فرض عقوبات على رئيسة الادعاء، فاتو بنسودة، وعلى مسؤولين آخرين معها.
فعل ذلك رغم أن العقوبات تفرض على الذين ينتهكون القانون الدولي، وليس على الذين يطبقونه.
عوقبت بنسوده رغم أن ما فعلته كان مجرد خطوات أولية. ورغم ان تفويضها لم يكن فقط عن الجرائم الأميركية في أفغانستان، بل، أيضا، عن جرائم طالبان.
في سنة 2017، هاجم جون بولتون، مستشارً الأمن القومي للرئيس ترامب، المحكمة الجنائية الدولية. وقال إنها «تفتقر إلى سلطة ممارسة الولاية القضائية». وأن الجرائم التي تحقق فيها «تنطوي على تعريفات قانونية غامضة».
وقال بولتون إن المحكمة الجنائية الدولية «أكثر مما نحتاج إليه»، وذلك لأن «الأنظمة القضائية المحلية تكفل للمواطنين الأميركيين أعلى المعايير القانونية والأخلاقية».
وأضاف أن الولايات المتحدة ستبذل قصارى جهدها «لحماية مواطنينا» إذا حاولت المحكمة الجنائية الدولية محاكمة الجنود الأميركيين عن «مزاعم إساءات لمواطنين أفغانستانيين».
وحذر بولتون من احتمال منع قضاة المحكمة الجنائية الدولية من دخول الولايات المتحدة. ومن احتمال تجميد أموالهم في البنوك الأميركية.
ولم ينس بولتون أن ينتقد، بهذه المناسبة، جهود الفلسطينيين لتقديم إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان في الضفة الغربية وغزة.
نقدم هنا رأيين متعارضين، من تغريدات صاحب كل رأي، وموقعه في الإنترنت، وتصريحاته لوسائل الإعلام.
في جانب، قال رأي: «الأميركيون مرعوبون بسبب دمار ماريوبول (في أوكرانيا). لكن، لا يعرف أكثر الأميركيين ما فعلت حكومتهم في الموصل، أو فى الرقة». هكذا جادلت ميديا بنجامين، المؤسسة المشاركة لجمعية «كود بينك» (الرمز الوردي) النسائية لحقوق الإنسان. وكانت ترشحت لعضوية الكونغرس باسم حزب الخضر في ولاية كاليفورنيا.
في الجانب الآخر، جادلت أونا هاثاواي، أستاذة القانون والعلوم السياسية في جامعة ييل، ومؤلفة كتاب: «الدوليون: خطة راديكالية لمنع الحروب في العالم»، بأن هيبوكراسي (النفاق) أقل أهمية من معاقبة روسيا بسبب جرائمها في أوكرانيا.
ميديا بنيامين: «الموصل، والرقة»
هل ستقنع جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا الولايات المتحدة بالتفكير في ماضيها القريب؟
الأميركيون غاضبون، وهم على حق، بسبب جرائم ماريوبول (في أوكرانيا). لكنهم لا يعرفون جرائم الولايات المتحدة في الموصل، أو في الرقة...
نعم، صدم الأميركيين الموت والتدمير في أوكرانيا بسبب الغزو الروسي. ونعم، امتلأت شاشات التلفزيونات الأميركية بالمباني التي تعرضت للقصف، والجثث الملقاة في الشوارع. لكن، شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها، حربا تلو حرب، في بلد تلو آخر، عقودا بعد عقود، وتسببوا في دمار كثير من المدن والقرى على نطاق أكبر كثيرا مما حدث في أوكرانيا حتى الآن.
وكما قالت مؤخرا أبحاث وسجلات عسكرية، أسقطت الولايات المتحدة وحلفاؤها أكثر من 337.000 قنبلة وصاروخا، أو بمعدل 46 في اليوم، على تسع دول منذ سنة 2001، بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول).
وكما قال مؤخرا مسؤول كبير في وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية (دي آي إيه) لمجلة «نيوزويك» إن أول 24 يومًا من أيام قصف روسيا لأوكرانيا كانت أقل تدميراً من اليوم الأول للقصف الأميركي في العراق (سنة 2003)...
وكما نشرت مؤخرا «أمنستى إنترناشيونال» (منظمة العفو الدولية) على لسان جنرال أميركي سابق، أن الهجوم الأميركي على الرقة في سوريا كان أعنف قصف مدفعي منذ حرب فيتنام (قبل 50 سنة تقريبا).
كانت الموصل في العراق أكبر مدينة بعد العاصمة بغداد. لكن، حولتها الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى أنقاض. كان عدد سكانها مليونا ونصف المليون نسمة، وهبط العدد إلى الثلث. وتضرر، أو دمر، حوالي 138 ألف منزل جراء القصف، بالطائرات، أو بالمدفعية.
وحسب تقرير استخباراتي كردي، قتل في الموصل ما لا يقل عن 40 ألف مدني...
الآن، بينما يطالب القادة الغربيون بمحاسبة روسيا على جرائم أوكرانيا، لم يتجرأوا على المطالبة بمعاقبة المسؤولين الأميركيين...
أثناء الاحتلال العسكري الأميركي للعراق، وثقت كل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، الانتهاكات المستمرة لاتفاقيات جنيف من قبل القوات الأميركية. هذه وثائق جاهزة لتقديمها إلى أي محاكمة...
يشعر الأميركيون بالرعب عندما يرون مدنيين يُقتلون بسبب القصف الروسي في أوكرانيا. وهم محقون في ذلك. لكنهم يقبلون تفسيرات المسؤولين الأميركيين لعمليات القصف الأميركية التي قتلت مئات الآلاف، وشردت الملايين في العراق وسوريا، واليمن، والصومال. ويقبلون، أيضا، تغاضى الإعلام الأميركي عن ذلك.
صار واضحا أن شركات الإعلام العملاقة تلعب دورًا رئيسيًا في هذا. في جانب، أظهرت الجثث، وعويل النساء في أوكرانيا. وفي جانب، أهملت الصور المشابهة للذين قتلوا بأيدي القوات الأميركية.
هكذا، لا يقل تواطؤ الإعلام الأميركي عن تواطؤ السياسيين والعسكريين الأميركيين.
أونا هاثاواي: نفاق.. ولكن
هل من النفاق أن تتبنى الولايات المتحدة محكمة رفضتها بشدة في الماضي؟
ربما نعم، وربما لا. لكن، هذا لا يغير حقيقة أن الولايات المتحدة محقة في وجوب التحقيق في الجرائم المروعة التي ترتكبها روسيا في أوكرانيا...
نعم، لا مجال للالتفاف حول تهمة النفاق. لكن دعم المحكمة الجنائية الدولية الآن من شأنه أن يوفر قدرًا من العدالة لشعب أوكرانيا، الذي لا يزال يعاني في حرب روسيا غير الشرعية.
هذا الهدف أهم من المنطق الأحمق...
هذه نقطة. النقطة الثانية هي وجود احتمال ضئيل أن تغير الولايات المتحدة رأيها في المحكمة الجنائية الدولية. وذلك بسبب الآتي:
أولاً، لن تتراجع الولايات المتحدة عن معارضتها لتحقيقات المحكمة في الجرائم الأميركية المزعومة في أفغانستان، وفي أماكن أخرى.
ثانيًا، يمنع قانون إجازة الكونغرس سنة 1999 الحكومة الأميركية من صرف أي دولار لدعم المحكمة،
ثالثًا، يمنع «قانون حماية العسكريين الأميركيين» أي نوع من أنواع الدعم.
هذا القانون الأخير حسم كل الموضوع:
أولاً، فوض الرئيس باستخدام «جميع الوسائل الضرورية والمناسبة للإفراج عن أي فرد من أفراد الولايات المتحدة، أو الحلفاء المحتجزين، أو المسجونين، من قبل، أو نيابة عن، أو بناءً على طلب، المحكمة الجنائية الدولية».
ثانيًا، منع المساعدات العسكرية الأميركية للدول التي انضمت إلى المحكمة الجنائية الدولية ما لم تكن أعضاء في حلف الناتو. أو هي حليف رئيسي من خارج الناتو. أو وافقت على عدم تسليم المواطنين الأميركيين إلى المحكمة...
من الناحية المثالية، أعتقد أنه يمكن تعديل هذه القوانين للسماح بنوع من أنواع التعاون مع المحكمة. وأعتقد ان هناك مجالات لتسويات يمكن أن تفيد الجانبين، المحكمة والولايات المتحدة...
مثلا، تشارك وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) معلوماتها مع المحكمة في تحقيقات جرائم الروس في أوكرانيا.
ومثلا، تنفض وزارة العدل الرماد عن قانون أصدرته سنة 2010 عن تقديم «معلومات استخباراتية، ومعلومات عن تنفيذ القانون، وتقارير دبلوماسية، وإجراءات قانونية، وشهادات... إلى المحكمة الجنائية الدولية لإجراء تحقيقات مع مواطنين أجانب متهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية، أو جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية».
نلاحظ كلمة «أجانب»، وصلتها بالحرب ضد الإرهاب. لكن الروس أيضا «أجانب»، وما يفعلونه في أوكرانيا ليس إلا «إرهابا» و«إبادة جماعية» و«جرائم ضد الإنسانية»...
هكذا، تستطيع الولايات المتحدة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، بدون أن تدخل في تعقيدات أخلاقية عن أشياء حدثت في الماضي.