بيروت: تتعدّد الروايات والنتيجة واحدة، وتختلف الأسباب والموت حتمي في بلد أضحى العيش فيه أشبه بـمغامرة، نهايتها مأساوية، على برّه كما في بحره، الذي يلفظ كل فترة ضحاياه الهاربين من جحيم جهنّم حيث الوطن يغرق، كما شعبه، في مركب فساد وإهمال حكّام الدولة.
«اللي مش عاجبوا يهاجر»، عبارة وجهها رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون إلى شباب «ما عاجبهم» الحالة المزرية التي يعيشون فيها، واختاروا، بتشجيع من ربّان سفينة العهد، الفرار من جحيم سلطة كبّلت بقيود الجوع والفقررياح التغيير، التي ستعصف مجدداً، في وجه السياسيين، بعد حادثة زورق الموت في طرابلس، لتقتلع من أوصل أطفالهم وشبابهم، كما النساء والشيوخ، إلى أن ينشدوا الهروب من أرضهم، ويرموا أنفسهم في البحر، حتى ولو كان الثمن أرواحهم.
غرق المركب الذي كان أشبه بـطوق نجاة، واستعاد اللبنانيون مع قسوة المشهد، ذكرى انفجار مرفأ بيروت، من دون أن يغفلوا دور الطبقة السياسية الحاكمة في كل ما يحصل، وما وسم «#دولتي_فعلت_هذا»، المرفق بصورة الطفلة التي ابتلعها البحر، والذي تم إطلاقه بالتزامن مع الحادثة الأليمة، إلا انعكاس لنقمة المواطنين الذين بات مصيرهم الموت إما بحريق وإما بانفجار، أو قتل أو غرق، وهم في طريق الهروب إلى خارج سجن على مساحة وطن بحكم ممارسات مسؤولين غير مسؤولين.
قبيل أسابيع من الانتخابات النيابية، وفي وقت تقف السلطات اللبنانية عاجزة أمام كل الأزمات ومنها ظاهرة الهجرة غير الشرعية، أثارت فاجعة غرق قارب قبالة ساحل القلمون شمال لبنان، غضباً في طرابلس عاصمة الشمال، التي لا يكفي غرقها في البؤس والحرمان، لتكون المدينة على موعد مع فاجعة جديدة في رزنامة المعاناة، وتُكلّل منازل سكّانها وأهلها بالأسود حداداً على من يسقطون ضحايا المتاجرة بأرواحهم، إما في عرض البحر عبر قراصنة الموت الذي يرمونهم في عبّارات الموت باتجاه رحلة مجهول، أو على أرض الوطن علي يد السياسيين الذين يتفنّنون في تجويعهم ومحاصرتهم في أبسط الحقوق.
أرقام تتزايد ورحلة الهروب مستمرة
تدفع الظروف المعيشية الصعبة اللبنانيين إلى الولوج للبحر نحو المجهول، بعد أن باتوا يشعرون بأنهم أموات وهم على قيد الحياة، جراء انسداد أفق ويأس وحرمان دفعهم إلى رمي أنفسهم بين أمواجه التي قذفت بهم إلى الموت، في قرار لا يُصنّفه اللبنانيون في خانة الهجرة بل في خانة التهجير، إذ إن غالبية السكان تحت خط الفقر ويفتقدون مقومات العيش الكريم، في ظل أزمة كهرباء ومحروقات وأدوية.
لم يعد معظم الذين يحاولون مغادرة لبنان عن طريق البحر هم من اللاجئين السوريين، فأعداد اللبنانيين بينهم في تزايد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وبالتزامن مع تشييع عدد من ضحايا قارب الهجرة غير النظامية الذي غرق قبالة ساحل المدينة أثناء توجهه نحو قبرص واستمرار البحث عن المفقودين، أصر 100 يائس على الهروب عبر مراكب الموت، غير آبهين بالمخاطر التي تحيط بهم مع أطفالهم بحثاً عن بداية لهم خارج البلد حيث بات الموت خياراً إلى الحياة، في رحلة مستمرة يلهثون لاقتناص فرصة الحصول عليها، وفق منشور تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي.
تنامي هذه الظاهرة يعود، بحسب ما أكدت الناطقة الرسمية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان دلال حرب لـ«المجلة» إلى «العام 2020 إذ شهد لبنان زيادة في أعداد من يحاولون أن يغادروا عبر البحر»، مشيرة إلى أنه «للأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان دور كبير في دفع الأكثر ضعفاً إلى المغادرة عبر طرق ولو غير آمنة، وذلك بسبب اليأس المتنامي من جراء تدهور الأحوال المعيشية لهم، ومعاناتهم المتزايدة لعدم قدرتهم على تأمين لقمة العيش والحماية لعائلاتهم».
واعتبرت حرب أن «اللبنانيين حاليا كما اللاجئين يعيشون على حد سواء في الفقر، فأسعار المواد الغذائية الأساسية ارتفعت بنسبة 557 في المائة، وأصبح من الصعب جداً إبقاء الأولاد في المدرسة أو الحصول على الرعاية الصحية اللازمة، إذ إن هناك 9 من أصل 10 عائلات لاجئة تعيش في فقر مدقع».
«من الضروري جداً أن يتسمر الدعم للبنان اليوم أكثر من أي وقت مضى»، هذا ما شددت عليه حرب التي أوضحت أن «المفوضية تعمل مع المنظمة الدولية للهجرة لتوعية الأفراد على مخاطر الرحلات غير النظامية التي يلجأ إليها الكثيرون بدافع اليأس»، مشيرة إلى أن «تحطم القوارب وغرقها، والوفيات والمعاناة التي تسببها يمكن تفاديها من خلال حشد الدعم الدولي المستمر لمساعدة لبنان».
تجزم حرب بأنه «تسببت الأزمة الاقتصادية في لبنان بواحدة من أكبر موجات الهجرة في تاريخ البلد، إذ تدفع الظروف الاقتصادية اليائسة المتزايدة، بعدد متزايد من الأفراد في لبنان إلى المغادرة بطرق غير آمنة»، لافتة إلى أن «هناك حاجة ماسة إلى بدائل آمنة وقانونية للهجرة غير النظامية، كما إلى دعم سبل العيش وتحسين الوصول إلى الخدمات في المجتمعات المعرضة للخطر».
وأشارت إلى أنه «شهد لبنان زيادة في عدد المغادرين بحراً منذ عام 2020 حين حاول 38 قارباً على متنها أكثر من 1500 راكب القيام برحلات خطرة، وتم اعتراض أو إعادة أكثر من75 في المائة منها، أما هذا العام، وبالإضافة إلى القارب الأخير، غادرت 3 قوارب على الأقل الشواطئ اللبنانيّة كانت ضمّت 64 راكباً، تم اعتراض زورقين منها قبل مغادرتهما المياه اللبنانية».
ووفق الأرقام، فإن ما لا يقل عن 1570 شخصاً، من بينهم 186 لبنانياً، غادروا لبنان أو حاولوا المغادرة بشكل غير نظامي عن طريق البحر بين يناير (كانون الثاني) ونزفمبر (تشرين الثاني) 2021.
ويتجه أغلب المهاجرين غير النظاميين إلى جزيرة قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي التي تبعد 175 كيلومتراً عن سواحل لبنان، وبلغ عددهم عام 2019 نحو 270 بينهم 40 لبنانياً.
غضب وتوتر.. وتلويح بالتصعيد!
لم يمر ما حصل مرور الكرام، فقد عاش لبنان كما شماله عموماً، وطرابلس خصوصاً توتراً وتحركات احتجاجية على ما حصل، فقد عمد محتجون إلى تمزيق صور السياسيين والمرشحين للانتخابات النيابية، متهمين إياهم بالضلوع في «تجويع الناس ودفعهم إلى الهرب بطرق غير شرعية من بلد يحرمهم أبسط مقومات العيش، كما سُجّل إطلاق نار كثيف في الشوارع وإقفال للطرق ومواجهات بين عناصر الجيش ومحتجين، من ضمنهم أهالي الضحايا الذين يتهمون الجيش بإغراق الزورق بعد اصطدام دورية تابعة له».
الرد على رواية الناجين وذويهم جاء من قائد القوات البحرية في الجيش العقيد الركن هيثم ضناوي الذي لفت إلى أن «المركب قديم وصغير، ولا وجود لوسائل أمان فيه والحمل المسموح له هو 10 اشخاص فقط، فيما كان يحمل ما يزيد على 15 ضعف ذلك، كما أن دورية الجيش حاولت إيقاف الزورق وإقناع قائده بأن الركاب سيكونون معرّضين للغرق في وسط البحر، إلا أن قائده اتخذ القرار بتنفيذ مناورات للهروب بشكل أدى إلى ارتطامه».
تأتي الفاجعة بعد نحو أسبوع على إحباط الجيش عملية هجرة غير شرعية عند نقطة العريضة مع توقيف أحد الزوارق في المياه الإقليمية اللبنانية وعلى متنه عشرون شخصاً من الجنسية السورية بينهم أطفال ونساء، إلا أنه وبحسب ما أكده أحمد بدر لـ«المجلة»، وهو ناشط اجتماعي وسياسي من منطقة القبة التي ينتمي إليها معظم الركاب، أن «الزورق اشتراه مجموعة أقرباء وأصدقاء اتفقوا على ترك لبنان والبحث عن الحياة والأمان في الخارج بعد أن يئسوا من الوضع المعيشي الصعب الذي يرزحون تحته»، مشيراً إلى أن «الوضع الاقتصادي في البلد هو الذي دفع بهم إلى اللجوء لهذا الخيار، فلا كهرباء ولا مياه ولا دواء لأطفالهم، وغالبيتهم عاطلون عن العمل ويريدون إعالة ذويهم».
وشدد على أن «التوجه العام للأهالي هو نحو التصعيد، إذ إنه لن يتم السكوت قبل معرفة ملابسات الحادثة التي طالت مناطق القبة والتبانة والمنكوبين».
«قلنا ما قلناه وليس لدينا ما نضيفه»، هكذا اختصر فادي الدندشي، (شقيق ثلاثة من ركاب الزورق تمكنوا من النجاة مع أولادهم الشباب كونهم يعرفون السباحة، فيما الأطفال والنساء ضحايا)، غضبه في حديثه لـ«المجلة»، متبنياً كما كل عوائل الضحايا والمفقودين مطلب ودعوة «الأجهزة الأمنية والجيش اللبناني فتح تحقيق كامل وواسع وعلى مرأى الرأي العام الداخلي والخارجي ليكون هناك شفافية ووضوح، لحساسية الوضع والُمصاب الكبير الذي وقع عليهم وحتى لا يكون هناك أي ملابسات وغموض وتزييف وطمس للحقيقة التي عرفها كل الرأي العام من شهود العيان الناجين من عبارة الموت، لأننا باختصار نريد حقوق أهلنا وأولادنا وجميع الغرقى».