كما كان متوقعا، فاز الرئيس ماكرون بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بفارق مريح عن منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان ناهز العشرين في المائة. وقد دخل التاريخ أيضا بهذا الفوز؛ أولا كونه حكم فترته الرئاسية مع حزبه من دون مساكنة من أحزاب المعارضة، ثم كان أول رئيس يعاد انتخابه بعد شيراك في ظل التعديل الذي طال الفترة الرئاسية وقصر مدتها من سبع سنوات إلى خمس.
كثرة التحليلات فيما خص التصويت ونسبه في ظل مقاطعة هي الثانية من حيث الأهمية في تاريخ الانتخابات منذ 1965. وحفل الإعلام بالمقارنة بين تقدم مارين لوبان في نسبة الأصوات التي حازتها في نسخة الانتخابات لهذا العام مع نسبها قبل خمسة أعوام.
وشرع أصحاب الاختصاص الإحصائي في تشريح النتائج ودلالاتها، إن كان من حيث العمر أو الانتماء الديني أو المناطق أو نية المقترع وإلى ما هنالك من أرقام تعقد من النتيجة النهائية الواضحة: إيمانويل ماكرون فاز على مارين لوبان، وذلك بالرغم من الصعوبات التي واجهت عهده، كانت آخرها الحرب الأوكرانية وتداعياتها على القارة العجوز أمنيا واقتصاديا.
ولكن ما يمكن استنتاجه ببساطة هو أن الفرنسيين صوتوا أولا للرجل الذي يعتقدون أنه يستطيع أن يمسك بالملف الاقتصادي بشكل أكثر فعالية ومهنية من منافسته، خاصة وأن الأمور ستتعقد أكثر بالنسبة لأوروبا وفرنسا تحديدا إن لم تنته الحرب الأوكرانية قريبا وهي لا تبدو كذلك.
يمكننا أيضا استنتاج أن الفرنسيين صوتوا للرجل الذي يتمسك بالمشروع الأوروبي واتحاده، أو ضد من يريد كما مارين لوبان وأنصارها أن يُخرج فرنسا منها، وللتصويت أيضا دلالة على رفض أكثرية الفرنسيين للإسلاموفوبيا والعداء للمهاجرين والتي يرتكز خطاب اليمين المتطرف عليها لاستمالة الناخب الفرنسي بالرغم من تراجع زعيمته عن مواقفها مثلا بخصوص الحجاب ومنعه وهي كانت شعرت بأن مواقفها المتشددة تجاه «الآخر» غير الفرنسي أبا عن جد لم يعد يجدي نفعا وهو أضرها فاستدركت وركزت بالإجمال في حملتها على الأزمة الاقتصادية وعلى القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي تاركة للمرشح إيريك زومور دور إبقاء شعلة التطرف والإسلاموفوبيا مشتعلة.
البعض ذهب إلى القول إن الصحافة والمنظومة اصطفت وراء الرئيس الذي أعيد انتخابه. ولكن ألا يعني هذا أن الصحافة الفرنسية تمثل رأيا عاما كبيرا لا يريد لفرنسا الانزلاق نحو التطرف ويرفض فكرة شيطنة المسلمين الفرنسيين؟
البعض الآخر قال إن نسبة من الأصوات التي حازها ماكرون أتت من اليسار المتطرف أو الاشتراكيين الذين صوتوا للوقوف بوجه مرشحة اليمين المتطرف وليس لصالح ماكرون. ولكن نفس الشيء يمكن أن يقال عن لوبان ونسبة الأصوات التي حازتها من الممكن أن تكون ضد الرئيس ماكرون وسياساته وليس تأييدا لها. على كل الأحول هي ليست المرة الأولى التي يحرم الفرنسيون اليمين المتطرف من دخول قصر الإليزيه. وهذا يعني الكثير.
ولكن هذا لا يعني أن ولاية الرئيس ماكرون الثانية ستكون سهلة.
الكثير من الصعاب تنتظره وأولها استحقاق الانتخابات التشريعية بعد بضعة أشهر. ففي ظل الانقسام الذي تشهده فرنسا وانهيار اليمين التقليدي والحزب الاشتراكي هل يستطيع الرئيس تشكيل لوائح تحظي بالأكثرية داخل المجلس؟ ثم هناك مشكلة استنهاض فرنسا اقتصاديا في ظل التضخم الحاصل نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات، ثم في الجانب الخارجي هناك الحرب الأوكرانية التي يسعى لإيقافها في ظل استمرار تسليح الأميركيين لزيلينسكي ما يجعل تلك المهمة شاقة، كما أن عليه إعادة النظر في دور الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ومدى فعاليتهما في مواجهة الأزمات الخطيرة الأمنية والتي تبين أنها محدودة، ثم هناك مراجعة مطلوبة للاعتماد الأوروبي والفرنسي على الولايات المتحدة الأميركية إن كان عسكريا وإن حتى على صعيد الطاقة والقمح.
ولكن من خارج إطار التنبؤ بما ينتظر الرئيس ماكرون في ولايته الثانية يبقى فوزه في مكان ما فوزا على خطاب ونهج الكراهية، ودليلا على أن الفرنسيين لا يريدون للتطرف أن يحكم ولا للاتحاد الأوروبي أن يختفي. وهذا هو الأهم.