العديد من الدراسات تربط نجاح اليمين المتطرف بطبيعة المنافسة الحزبية، وأحد الافتراضات أن هذه الأحزاب تواجه بيئة مواتية عندما تتقارب برامج الأحزاب الرئيسية فيتجه الناخبون إلى الأحزاب الشعبوية التي تنتقد التواطؤ بدلًا من التنافس على السلطة. يُنظر أحيانًا إلى أحزاب اليمين المتطرف على أنها أحزاب احتجاجية تتلقى دعمها من أولئك الذين يرغبون في إعلان استيائهم من النخبة السياسية بالتصويت لصالح حزب منبوذ. وبناءً على ذلك كان القسم الأكبر من الأكاديميين، حتى وقت قريب نسبيًا، يستخدمون وصف: «الهامشيين» في الإشارة إلى اليمين المتطرف الأوروبي.
فماذا بعد أن وقفت- للمرة الأولى- مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان تطرق باب الإليزيه في انتخابات رئاسية فرنسية «تحبس الأنفاس»؟!
راديكاليون أم متطرفون؟
إحدى الحقائق المهمة التي ينطلق منها مات جولد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية، وهو يضع اليمين الأوروبي المتطرف في سياق مزدوج تاريخي/ معرفي، أنها إحدى الجماعات السياسية «الأسرع نموًا في أوروبا»، وقد جاء نجاح اليمين المتطرف في أوروبا على شكل موجات كانت الثالثة، التي بدأت في الثمانينات أكثرها نجاحًا. وشاركت أحزاب اليمين المتطرف في حكومات ائتلافية في: النمسا وكرواتيا وإستونيا وفنلندا وإيطاليا ولاتفيا وهولندا وبولندا وصربيا وسلوفاكيا وسويسرا، ودعمت حكومات الأقليات في بلغاريا والدنمارك وهولندا والنرويج. ورغم أنها لم تدخل بعد في الحكومة الوطنية، فقد أثبتت هذه الأحزاب أيضًا أنها مؤثرة في بلدان أخرى. وتسببت عودة ظهور اليمين المتطرف في إثارة الذعر بين شرائح من المؤسسة السياسية ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية. ورغم هذه النجاحات الواضحة للغاية والقلق الواسع النطاق الذي أثارته، تظل أحزاب اليمين المتطرف قوة انتخابية «هامشية» في معظم البلدان الأوروبية.
ويؤثر النزوع القومي على أفكار أحزاب اليمين المتطرف كافة، لكنها في الوقت نفسه ليست أحزابًا ذات قضية واحدة، ومن المضلل الإشارة إليها على أنها أحزاب «مناهضة للمهاجرين» وحسب. وقد ركز دارسو الظاهرة عادة على الآيديولوجيا، ولسوء الحظ، تفتقر الأدبيات إلى إجماع واضح حول ما يشكل جوهر آيديولوجيتها، ويساعد هذا الافتقار إلى الإجماع على تفسير كثرة الأسماء المختلفة المستخدمة لوصف هذه الأحزاب. وخلال سنوات قليلة مضت، صنف العلماء بشكل متزايد الأحزاب اليمينية المتطرفة على أساس: الراديكالية/ التطرف والشعبوية والقومية.
وأحزاب اليمين المتطرف إما راديكالية أو متطرفة في آيديولوجيتها، فالراديكالية تدعو إلى إصلاح جذري لكنها لا تسعى صراحة إلى القضاء على جميع أشكال الديمقراطية، بينما يتعارض التطرف مع الديمقراطية بشكل مباشر. وفي تجربة ألمانيا، على سبيل المثال، أدركت الدولة الألمانية- منذ سبعينات القرن الماضي- هذا التمييز بين الأحزاب «المتطرفة» المعادية للديمقراطية والواجب حظرها، والأحزاب الراديكالية التي تشكك فقط في الجوانب الرئيسية للنظام الدستوري (أي المناهضة للدستور) ويمكن التسامح معها. مع ذلك، قد يكون من الصعب- عمليًا- تمييز الخط الفاصل بينهما، لأن الأحزاب غالبًا تكون لديها حوافز لإخفاء تطرفها لتجنب التداعيات القانونية.
والراديكالية والتطرف يحدثان في اليسار واليمين، فالقوى اليسارية تعارض النظام الرأسمالي على أساس أنه ينتج مستويات مصطنعة من انعدام المساواة. في المقابل، تنظر القوى اليمينية إلى انعدام المساواة كجزء من النظام الطبيعي وليس كشيء يجب أن يخضع لتدخل الدولة. رغم ذلك، فإن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية ليست سمة مميزة لأحزاب اليمين المتطرف. ومنذ تسعينات القرن الماضي، تبنى بعضها بشكل متزايد سياسات اقتصادية يسارية تقليدية تفضل تدخل الدولة. وما تكاد تشترك فيه الأحزاب اليمينية المتطرفة: رغبةٌ في إنشاء نظام استبدادي منظم بشكل صارم وفقًا للاختلافات «الطبيعية» في المجتمع، فضلًا عن نظام قانوني يعاقب السلوك المنحرف بشدة.
وتعتبر الشعبوية مركزية للخطاب الآيديولوجي للعديد من أحزاب اليمين المتطرف. وترى الشعبوية أن المجتمع مقسم إلى مجموعتين متجانستين ومتعاديتين: «الشعب النقي»، و«النخبة الفاسدة»، وهي تدَّعي أن السياسة يجب أن تعكس الإرادة العامة للشعب. وبالتالي فإن الشعبوية تعارض النخبوية والتعددية. وعلى عكس النخبوية، تعتبر الشعبوية أن الناس هم المجموعة المتفوقة أخلاقيًا. وتعتبر التعددية أن المجتمع يتكون من مجموعات متعددة يجب التوفيق بين مصالحها المختلفة من خلال «مساومة»، بينما ترفض الشعبوية فكرة وجود انقسامات ذات مغزى داخل الشعب وبالتالي تنتفي الحاجة إلى المساومات، والنتيجة الطبيعية أن الشعبوية تميل إلى تبسيط القضايا السياسية، وتقسيمها إلى أبيض وأسود.
وتريد الشعبوية أن توضع السلطة المطلقة في أيدي الشعب، وتدعو إلى زيادة استخدام الاستفتاءات ونظرة الشعبوية لحكم الأغلبية تضعها على خلاف مع الديمقراطية الليبرالية، الأمر الذي يتطلب أن تكون إرادة الأغلبية مقيدة بضوابط وتوازنات دستورية التي تحمي الأقليات وحقوق الأفراد. ورغم أن الشعبوية تروج لنسخة غير ليبرالية من الديمقراطية، فإن مؤيديها يرون أنفسهم مدافعين عن الديمقراطية الحقيقية. والمحتوى الدقيق للرسالة الشعبوية في أوروبا أن النخبة تستهدف الترويج للقيم الليبرالية المتعلقة بالفردانية والتعددية الثقافية والعالمية، وللتواطؤ لإبعاد الناس عن السلطة، وهي بناءً على ذلك مسؤولة عن جميع أمراض المجتمع.
وثمة شعبوية إقصائية تدعو إلى استبعاد مجموعات معينة من «الشعب» وبالتالي تقييد وصولهم إلى حقوقهم، ومعايير الاستبعاد دائمًا ثقافية أو دينية أو عرقية. وتعد القومية سمة آيديولوجية مشتركة في آيديولوجيا اليمين المتطرف. وفي كل دولة يختار الأفراد قبول مجموعة مشتركة من القيم والممارسات الثقافية، للوصول إلى دولة أحادية الثقافة. والقومية المتطرفة تعتبر العناصر غير الأصلية تهديدًا أساسيًا للدولة القومية أحادية الثقافة. والنزعة القومية لبعض الأحزاب اليمينية المتطرفة تعتبر عنصرية بيولوجية أو ثقافية، ما يعني وجود تسلسل هرمي طبيعي بين المجموعات السكانية. وبعض حركات اليمين المتطرف تعتبر الاختلاط الثقافي الذي يحدث في المجتمعات متعددة الثقافات شكلًا من أشكال «الإبادة الجماعية للثقافة الوطنية»!
اليمين الفرنسي: خيالات وخيارات
ورغم أن الخطاب اليميني المتشدد عن المهاجرين- وتقاطعه الواضح مع خطاب الإسلاموفوبيا- يشكل الهاجس الأكثر حضورًا في المتابعة الإعلامية للمعركة الانتخابية الفرنسية، فإن تصورات هذا التيار بشأن قضايا أخرى لا يقل أهمية وخطورة فيما يتصل بمستقبل فرنسا ومستقبل المشروع الأوروبي، وبخاصة أن التحالف الفرنسي الألماني يوصف دائمًا بأنه «قاطرة المشروع الأوروبي». وفي إطار الاهتمام الكبير بهذه القضية داخل أوروبا وخارجها، أصدر معهد الدراسات الأوروبية والروسية والأوراسية في جامعة جورج واشنطن الأميركية، قبل أيام دراسة مهمة عنوانها: «اليمين الفرنسي والاتحاد الأوروبي والانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2022». كاتب الدراسة نيكولاس ليبورغ خبير في الجماعات اليمينية المتطرفة، وباحث مشارك في (المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي- جامعة مونبلييه، فرنسا)، وعضو في مشروع للتاريخ عبر الوطني لليمين المتطرف.
تتصدر الدراسة إشارة إلى أنها كتبت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، وتقدم عرضًا موجزًا للرؤية الآيديولوجية لمرشحي الرئاسة من اليمين الفرنسي تجاه الاتحاد الأوروبي. وقد كانت الشخصية المركزية لليمين الفرنسي السائد كان الرئيس جاك شيراك، الذي هيمن على المشهد المحافظ الفرنسي من السبعينات إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتطور موقفه تجاه الاتحاد الأوروبي بشكل كبير على مر السنين، من معارضة باسم السيادة وإرث شارل ديغول، إلى «أوروبا العقل»، وكانت علامة على تكيف اليمين مع تحول الهوية السياسية الفرنسية و«أوروبتها». وفي عام 1992، أيد شيراك معاهدة ماستريخت، التي أنشأت الاتحاد الأوروبي، وفي عام 2005 معاهدة تأسيس دستور لأوروبا. وعندما تولت فرنسا الرئاسة الدورية نصف السنوية لمجلس الاتحاد الأوروبي في يوليو (تموز) 2000، ألقى شيراك خطابًا كان موضوعه المركزي: «البناء الأوروبي»، وأصر على ضرورة منح الاتحاد الأوروبي سلطات دبلوماسية وعسكرية. وفي مواجهة عداء قاعدته الانتخابية تجاه احتمال انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، حصل في عام 2005 على مراجعة للدستور الفرنسي تتطلب أن تخضع الموافقة الفرنسية على انضمام دولة جديدة للاتحاد لاستفتاء أو موافقة ثلاثة أخماس أعضاء مجلسي البرلمان. نيكولا ساركوزي خليفة شيراك في قصر الإليزيه، أظهر حماسة أوروبية، وخلال رئاسة فرنسا للاتحاد في عام 2008، دافع عن أوروبا القوية القادرة في مواجهة الهجرة، وأزمة المناخ، والعلاقات مع روسيا. وبعد «عقد ساركوزي» (2002 – 2012)، كافح التيار المحافظ الفرنسي لرسم مسار علاقته مع الاتحاد الأوروبي، وقد تميز نهج ساركوزي بـ«التوليف المستحيل بين النيوليبرالية والقومية».
في هجاء برلين وواشنطن
كان رئيس وزراء ساركوزي السابق، والمرشح اليميني في عام 2017، فرانسوا فيون، أقل تأييدًا لأوروبا. ولقد صوّت فيون بـ«لا» على معاهدة ماستريخت وتمسك برنامجه الرئاسي بشكل حصري تقريبًا برؤية حكومية دولية للاتحاد الأوروبي حيث الدول الأخرى ليست سوى «شركاء»، أو حتى منافسين. وقد كان فيون ناقدًا لألمانيا بحدة، وبخاصة بسبب علاقتها الوثيقة مع أميركا. كانت الفكرة المركزية في تصورات فيون تعزيز العلاقة مع روسيا معتبرًا أن أوروبا ارتكبت خطأ فادحًا تاريخيًا «يقوض» كل الآمال في اندماجها في فضاء اقتصادي أوروبي أكبر قادر على مقاومة الهيمنة الآسيوية.
ورغم أن التصور العام الشائع أن لدى اليمين المتطرف مواقف انعزالية قد تهدد مستقبل المشروع الأوروبي، أحد آبائه: جان ماري لوبان مثلًا، دافع عن دفاع أوروبي مشترك، تقليدي ونووي، ولم يظهر العداء للمشروع إلا مع معاهدة ماستريخت، مع تحوُّل واضح نحو مناهضة أميركا. ووقتها تبنت الجبهة الوطنية منظورًا أكثر راديكالية يعتبر العولمة والقطبية الأحادية الأميركية خطرًا. وفي كتاب نشرته مارين لوبان قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2012 دعت إلى «العودة إلى العملات الوطنية». والقضية بحسب تصورها ليست اقتصاديةً فحسب، بل سياسية، حيث سيفرض الاتحاد الأوروبي «نموذجًا مجتمعيًا أميركيًا ليبراليًا متطرفًا»(!)
وفي مواجهة ذلك تدعو مارين لوبان إلى تعزيز السيادة الوطنية في الديموغرافيا والثقافة والاقتصاد والسياسة. وخلال الانتخابات الرئاسية لعام 2017، أوضحت مارين لوبان أن 70 في المائة من برنامجها يعتمد على تحقيق فريكسيت (تقليد فرنسي مقترح لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وقد تعهدت بإجراء استفتاء عليه، ولاحقًا صرحت بأنها لم تقل أبدًا إن فرنسا ستترك اليورو وأنها تؤيد عملة موحدة. وهكذا تخلت مارين لوبان عن موضوع فريكسيت، وأعلنت أنها لم تعد ترغب في تعليق عضوية فرنسا في اتفاقية شينغن. لكن إحدى القضايا التي ترددت بشكل دائم في خطاب اليمين المتطرف عمومًا أهمية منح القانون الوطني الأسبقية على الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي يناير (كانون الثاني) 2022، وهو اليوم الذي تولت فيه فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي، قالت مارين لوبان إنها لو كانت رئيسة، فإنها ستقترح إجراء استفتاء ينص على أن الدستور الفرنسي يؤكد «هيمنة القانون الدستوري على القانون الأوروبي». وهي وإن لم تذكر طريقة مثل هذا التفوق، فإن هذا يعني تعميمًا لمبدأ الهوية الدستورية لفرنسا.
وفي صفوف اليمين المتطرف تيار راديكالي تلخص أفكاره مقولات لفرانسوا فيون، حيث اعتبر أن التحالف الفرنسي الألماني: «أسطورة» لأن الاتحاد الأوروبي «سمح لألمانيا باستعادة ما فقدته في عام 1945»، وأنصار هذا التيار يرفضون: المجلس الدستوري، ومجلس الدولة، ومحكمة النقض، ومحكمة العدل الأوروبية، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تعتبر نفسها محاكم عليا على الطراز الأميركي. ويتمتع هذا التيار بدعم قوي في استطلاعات الرأي بين كبار السن وجزء من الطبقة الثرية الذين رفضوا التصويت لمارين لوبان بسبب برنامجها الاقتصادي «اليساري». وفي موقف يتسق مع دعوات هذا التيار المتطرف قال المرشح السابق إريك زامورا: «لقد حان الوقت لإخراج بلدنا من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، لإظهار أنه لن يترك مصيرها القومي بعد الآن في أيدي الآيديولوجيا الضارة». معتبرًا أن «الثورة الثقافية» وحدها تسمح لنا بالفوز في «حرب الحضارة» التي تجري على أرضنا.(!)
ويبقى اليمين الأوروبي المتطرف مشكلة وطنية- وقارية- كبيرة، وبخاصة مع تكرار ما أقدم عليه بعض رموزه من آن لآخر من ممارسات تدنيس مقدسات الأديان السماوية. وشهدت السنوات القليلة الماضية أزمات في علاقات دول أوروبية بدول مسلمة بسبب حوادث متفرقة تم فيها إحراق القرآن الكريم بشكل علني، في سلوك استهدف أصحابه- كما يدعون- التحذير مما يسمونه: «خطر الاستبدال الديموغرافي» (بحسب قاموس مفردات إريك زامورا). ولعل ما شهدته السويد خلال الأيام القليلة الماضية نموذج للمخاطر الكبيرة التي يمكن أن تتسبب فيها ممارسات بعض هذه الحركات السياسية.
* باحثة علوم سياسية – مصر.