صراع السلطة بين حماس والجماعات المتشددة في غزة

صراع السلطة بين حماس والجماعات المتشددة في غزة

[escenic_image id="5510080"]

في 15 أغسطس/ آب 2009، اقتحم مقاتلو حماس مسجد رجل الدين المتشدد عبد اللطيف موسى، القائد المزعوم لجماعة جند أنصار اللـه، وهي جماعة إسلامية حديثة النشأة تتخذ من مدينة رفح مقرًّا لها. وجاء تدخل حماس في اليوم التالي لخطبة صلاة الجمعة التي ألقاها موسى والتي كانت مليئة بالتحدي، حيث أعلن أن غزة هي "إمارة إسلامية"، مما شكَّل في واقع الأمر تحديًا لسلطة حماس في الأراضي الفلسطينية. وفي وقت سابق من ذلك الإسبوع، كانت قوات أمن حماس قد قامت بالفعل بمحاولة فاشلة لاعتقال القائد العسكري للجماعة ، الذي كان يشتبه في أنه خالد بنات، وهو مواطن سوري من أصل فلسطيني، معروف أيضا باسم أبو عبد اللـه المهاجر. وقد لقي موسى وبنات مصرعهما خلال محاولة حماس قمع ما اعتبرته بمثابة تمرد، والذي  أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 22 شخصا آخرين.

وكان الصدام الذي وقع في أغسطس/ آب، واحدًا من أكثر المواجهات العنيفة التي حدثت بين الفصائل الفلسطينية المتناحرة في قطاع غزة منذ تولي حماس السلطة هناك قبل عامين. والأهم من ذلك، أن هذه المواجهة كانت أوضح دليل إلى الآن على مدى دموية الصراع على السلطة بين قوات أمن حماس وبين الجماعات الإسلامية المتشددة في الأشهر الأخيرة، حيث تزايدت حدة الانتقادات التي كانت توجهها هذه الجماعات لسياسات حماس، حتى إن بعض تلك الجماعات تمادت إلى حد وصفها بأنها ليست جماعة "إسلامية بما يكفي". ولا يخلو هذا الموقف من مفارقة، حيث إن حماس (وهذا الاسم هو اختصار لاسم الجماعة الأصلي المعروف بـ "حركة المقاومة الإسلامية") قد حازت على التأييد الشعبي في مواجهة حركة فتح العلمانية من خلال المبادئ الإسلامية التي كانت تدعو إليها. و بالتالي فإن ظهور الجماعات الإسلامية المتشددة في قطاع غزة، وتنامي شعبيتها  قد أصبح يهدد بتقويض سلطة حماس السياسية في الإقليم، بينما يُجرِّدها في الوقت ذاته من شرعيتها كممثل للمقاومة الإسلامية في فلسطين.

كانت جماعة جند أنصار اللـه تمارس نشاطها في بداية الأمر في رفح وخان يونس، ثم انتشرت بسرعة بعد ذلك في جميع أنحاء قطاع غزة. وفي الوقت الذي أغارت فيه حماس على مسجد بن تيميه، بلغ عدد أعضاء الجماعة 500 عضو، من بينهم عدد من المقاتلين الأجانب. كما اكتسبت جماعة جند أنصار اللـه بعض الأهمية في يونيو/ حزيران، عندما شنت هجومًا مروِّعًا بالخيول (وإن كان قد مُني بالفشل) على معبر ناحال عوز، وهو أحد المعابر الموجودة على الحدود بين غزة وإسرائيل، بهدف خطف جندي إسرائيلي. وكانت هذه الغارة واحدة من أخطر الهجمات التي تم شنها على موقع عسكري إسرائيلي منذ انتهاء الهجوم الإسرائيلي على غزة في يناير/ كانون الثاني. ومع ذلك، فإن جماعة جند أنصار اللـه ليست سوى واحدة من عدد من الجماعات المتشددة المتأثرة بتنظيم القاعدة والتي ظهرت في قطاع غزة في السنوات الأخيرة. ومن أبرز هذه الجماعات حتى الآن جماعة جيش الإسلام، وهي الجماعة التي شاركت في القبض على الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في عام 2006، وهى كذلك المسئولة عن اختطاف مراسل قناة الـ"بي بي سي" في غزة، آلان جونستون، في عام 2007.

 وغالبا ما تدعو هذه الجماعات المختلفة، والتي عادة ما تشترك في المبادئ السلفية الدينية التي تعتنقها، إلى العودة للإسلام بصورته النقية، وإلى التنفيذ الكامل لأحكام الشريعة الإسلامية، ورفض الديمقراطية بوصفها غير إسلامية. والأهم من ذلك، أن هذه الجماعات قد انتقدت بشدة حركة حماس بسبب التزامها بشروط وقف إطلاق النار الذي تم تنفيذه عقب انتهاء الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة في يناير/ كانون الثاني، وارتفع صوت تلك الجماعات مناديًا بإدانة اللين السياسي الذي أبدته حماس تجاه إسرائيل. كما تمكنت هذه الجماعات من اجتذاب الشباب من سكان غزة إليها من خلال تفسيرها المتشدد للإسلام، ومن خلال دعوتها التي لا هوادة فيها حول كيفية محاربة إسرائيل وحلفائها الغربيين. وقالت جماعة جند أنصار اللـه، على وجه الخصوص، إنها تريد توحيد الجماعات الإسلامية المسلحة المختلفة، بما في ذلك جماعة حماس وجماعة الجهاد الإسلامي، من أجل مكافحة إسرائيل بشكل أكثر فاعلية.

ويعتبر الاتجاه المتزايد من جانب شباب غزة نحو الأشكال الأكثر تطرفًا للإسلام السياسي، ذا دلالة واضحة على الإحباط الكبير الذي يشعر به الكثير من سكان غزة نتيجة لتردي الأوضاع المعيشية هناك منذ الهجوم الإسرائيلي الأخير. فهم يرون أن الأحزاب والجماعات الفلسطينية المسلحة قد فشلت في تعزيز القضية الفلسطينية، وتحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين. وبالرغم من أن حماس كانت دائمًا تحظى باحترام وتأييد الفلسطينيين لكفاءتها وابتعادها عن  الفساد مقارنة بحركة فتح، فإن نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت أخيرًا أظهرت أن التأييد الفلسطيني لحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة في تضاؤل مستمر. فأقل من 19 ٪ فقط من الذين شملهم الاستطلاع الذي أُجري في يوليو/ تموز يؤيدون حماس، بالمقارنة بـ 27 ٪ في آخر استطلاع تم إجراؤه في يناير/ كانون الثاني 2009. كما أن سكان غزة ساخطون أيضا بسبب فشل محادثات المصالحة التي تتم من خلال وساطة مصرية، واستمرار الحصار الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية.

ولكن بالرغم من ذلك، لا تزال حماس حتى الآن تسيطر على معظم عمليات تهريب الأسلحة عبر الحدود بين مصر وقطاع غزة، كما أنها منعت نشطاء الجماعات الأخرى من حمْل السلاح في قطاع غزة. وكان المتشددون من جماعة جند أنصار اللـه مسلحين تسليحًا جيدًا بصورة نسبية، وهذا يشير إلى احتمال أن يكون بعضهم متشددين سابقين في جماعات أخرى، من بينها حماس. وفى الغالب، فإن هذا المؤشر سيكون مؤشرًا مُقلقًا بالنسبة لحركة حماس. فإذا لم يتمكن قادة حماس من إحداث تغيير حقيقي وإيجابي يعود بالنفع على سكان غزة، فمن غير المرجح أن تنجح الجماعة في قلب  التيار لصالحها على المدى البعيد. وفي الواقع، فإن رد حماس المفاجئ والعنيف على ما تصورت أنه إشعال للفتنة من جانب موسى، يعد دلالة واضحة على أن قادة حماس قد أصبحوا في موقف دفاعي، وأنهم قد أصبحوا حريصين على مواجهة الجماعات التي يرونها معارضة لهم بشكل حاسم، قبل أن يشتد ساعد تلك الجماعات في أرض يعتقد أنها أصبحت مرتعًا خصبًا للأيديولوجيات الأكثر تشددًا.

ولكن التعامل مع مثل هذه الجماعات "المارقة" قد أوقع حماس في معضلة لا تُحسد عليها، وحدَّ بشكل كبير من الخيارات المتاحة أمامها. حيث ستواجه حماس، بوصفها حركة المقاومة الإسلامية "الرسمية" في فلسطين، معارضة كبيرة من داخل الجماعة نفسها، ومن القاعدة العريضة من الجماهير التي تدعمها لو أنها تعاملت بشدة أكثر من اللازم مع الجماعات الأخرى لمشاركة تلك الجماعات في أعمال مقاومة ضد إسرائيل أو قيامها بأنشطة تدعي بأنها إسلامية محضة، مما يشكل معضلة حقيقية بالنسبة لحماس. فبالرغم من أن ميثاق حماس، والذي صدر في عام 1988، يدعو في نهاية المطاف إلى إقامة دولة إسلامية في فلسطين وزوال إسرائيل، فإن قادة حماس في السنوات الأخيرة قاموا بمحاولات متكررة لخفض نبرة الخطاب المعادي للسامية واعتماد نهج استرضائي بشكل أكبر مع الدولة العبرية. وفي الواقع، فقد ذهب قادة حماس في هذا الشأن إلى حد الاعتراف بحتمية قيام الدولة الإسرائيلية جنبًا إلى جنب مع دولة فلسطينية، واقترحوا القيام بهدنة لمدة 10 سنوات مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، أعلن رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، في المقال الافتتاحي في صحيفة الجارديان البريطانية في يناير/ كانون الثاني 2006 قائلاً: "هذه هي رسالتنا للإسرائيليين: إن صراعنا معكم ليس صراعًا دينيًّا بل هو صراع سياسي. فنحن ليس لدينا أي مشكلة مع اليهود الذين لم يعمدوا إلى مهاجمتنا، وإنما مشكلتنا مع أولئك الذين قدموا إلى أرضنا، وفرضوا أنفسهم علينا بالقوة، ودمروا مجتمعنا وشردوا شعبنا."

وفقًا لما هو حادث الآن، فمن غير المرجح أن تجد مثل هذه التصريحات آذانًا صاغية من سكان غزة الذين يكافحون بشكل متزايد من أجل سد احتياجاتهم المعيشية بصورة يومية. ومن المفارقات العجيبة التي قد تحدث، أن تتولد في المستقبل القريب الرغبة لدى إسرائيل في مد يد المساعدة لحماس من أجل التصدي للجماعات المتطرفة التي تظهر في المنطقة.

font change