مركز الملك فيصل... منتدى التَّطرف ومستقبل الإرهاب
كانت الرياض مزدحمة بالوفود، والرَّهان على أمن رؤساء وملوك خمس وخمسين دولة، وبينهم رئيس أقوى دولة بالعالم، بعد الحرب الباردة، وهي أول زيارة له بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. ناهيك بمرافقي الرؤساء وعشرات مئات المدعوين مِن خارج وداخل الرياض، ومع ذلك تجد الحياة عادية، ولم يتغير الحال كثيراً. فالعمل في مترو الرياض ظل متواصلاً، ومعاملات الدّخول إلى مطار الملك خالد تمر سلسة، وربَّما أفضل مِن بقية الأيام. انقضت الأيام الثلاثة بسلام، ولم يحصل اختراق أمني، مهما صغر أو كبر.
على هامش القمم السياسية، وعلى مستوى الرؤساء والملوك، عُقد في قاعة الملك فيصل، الملاصقة لفندق مِن أقدم فنادق الرياض، المُشيد في الستينات من القرن الماضي (الإنتركونتيننتال)، منتدى «التَّطرف ومستقبل الإرهاب» (الأحد: 12 مايو/ أيار 2017). كان الحضور مِن مختلف الدول وأجناس الشعوب، مِن أقصى أوروبا إلى أقصى أفريقيا وآسيا والأميركتين، وكان للنساء حصة بالحضور والمشاركة ملحوظة، وفي تنظيم سير أعمال المؤتمر أيضاً. فمِن غير المقدمات والمحاضِرات والحاضرات، ساهمت فتيات باستقبال المشاركين وترتيب فقرات البرنامج، والخروج والدخول إلى قاعة المؤتمر، ولم يحصل ما كانت تتوقعه عادة قوى التشدد الديني والاجتماعي.
افتتح المؤتمر أمين عام المركز الدكتور سعود السرحان مرحباً بالحضور، وداعياً إلى الندوة الأولى من المنتدى، التي شارك فيها رئيس المركز الأمير تركي الفيصل، بكلمة أشار فيها إلى أن الجهاد الذي تتخذ منه الجماعات المتطرفة، بأفعالها الإرهابية، عذراً ومبرراً في القتل والتشريد والتخريب، يُفهم أيضاً على أنه الجهاد مِن أجل التعليم وشق الطُرقات، على هذه الأرض المترامية الأطراف، والعُمران في مجالات الحياة كافة. لكنهم، أي المتطرفين، أبوا إلا أن يكون جهادهم مسيلاً للدماء.
شارك في ندوة المؤتمر الأولى وزير الدفاع الأميركي السابق، ووزير الخارجية الإيطالي السابق أيضاً، وشارك في الندوات الأُخرى ثُلة من المحللين السياسيين والباحثين والمعنيين بقضايا الإرهاب من الآسيويين والأوروبيين المستعربين، إن صح الوصف، فالغالب منهم كان يتحدث العربية، وكل منهم دلا بدلوه.
أشار الوزير الإيطالي إلى الخطأ الذي ارتكبته السياسات الغربية في محاولاتها بفرض نموذج الديمقراطية على مجتمعات غير مستعدة لها؛ وفيها ما فيها مِن نزاعات طائفية واجتماعية، وتخلف وجهل، بالطريقة التي طُبقت فيها بالغرب، متناسين عظمة التضحيات التي بُذلت مِن أجلها هناك، حتى وصلت إلى ما هي عليه. إلا أن وزير الدفاع الأميركي إذ أكد على قيادة بلاده لمحور الحرب على الإرهاب، فإنه لم يكشف ما أسفر عنه غزو العِراق، وعن الديمقراطية التي حُملت إليه، بعد دكتاتورية شرسة، وحصار ترك العقل العراقي، في معظمه، خارج الزمن، تشغله الشعوذة والتَّدين الهابط، فكان الملاذ الديني عزاءه.
لم يشر الوزير الأميركي، وقد شغل الوضع العراقي أكثر من نصف مداخلته، إلى أخطاء بلاده، بفتحها أبواب العراق على مصراعيها للإرهاب والميليشيات القادمة مِن الجار الشَّرقي، بإلغاء القوات المسلحة والأمنية كافة، وباعتماد قانون الانتقام (الاجتثاث)، الذي مدَّ المنظمات الإرهابية بعناصر جاهزة، وبالجملة لم يشر الوزير الأميركي إلى هدم الدَّولة ومعاملة مؤسساتها كغنائم حرب.
كل هذا كان قد خلق بيئة للإرهاب، فالجماعات الإرهابية وجدت في فتح الحدود، والسُّكوت على عبورها مِن سوريا، وإشاعة حطام الجيش العراقي، مجالاً خصباً لتأسيس دولة الإرهاب، التي أسفرت عن احتلال الموصل، ولم يفت في هذه الكلمة تذكير الوزير الأميركي بتسليم العراق للجماعات الدينية، الحاكمة والمقاومة، حسب ما تُسمي نفسها، على طبق مِن ذهب.
رجوتُ تذكير الوزير، ومِن داخل القاعة، بخطاب دولته قُبيل الغزو، لكن الوقت لم يسمح. كانت الآلة الإعلامية الأميركية بل والأوروبية، تتحدث عن طوائف عراقية لا عن بلاد اسمها العراق: شيعة وسُنة وكُرد، واللّهج بأخذ حقوق الكُرد والشِّيعة. هنا يفكر المراقب ويسأل: وأين العراق؟ وبالفعل ما إن تم الغزو ظهرت نتائج هذا الخطاب جليةً، فجرى ما جرى مِن تغابن طائفي، وتحولت المظلوميات، بعد (2003) من مظلومية الشِّيعة إلى مظلومية السُّنة، مع أن الجميع كان مظلوماً وظالماً، بمعنى أن العراقيين، مثلهم مثل أي شعب مختلط، لا بد أن يكون الظالم والمظلوم محسوباً على طائفة.
استمر المؤتمر يوماً كاملاً، أغنته النقاشات مِن داخل القاعة، والكل ركز على أسباب التطرف ومآلاته، منهم مَن حصرها بالفقر والتمايز الاجتماعي، ومَن جعلها بالتعليم الديني، ومَن وضعها برقاب رجال الدين، حتى إن أحدهم قال: لماذا يُسمَعُ الشبابُ فقهاءَ التطرف ولا يُسمَعون فقهاء الاعتدال! كان الإنترنت حاضراً، ونقصد استخدامه بذكاء مفرط مِن قبل المتطرفين، بينما هناك قصور لدى المؤسسات التي تكافحهم.
كان المؤتمر تحفيزاً وتنبيهاً لطرح إشكالية الخطاب المضاد للتطرف، وهو واحد مِن ثلاثة مؤتمرات عُقدت في الوقت نفسه بالرياض، تخص القضية نفسها، أو تلامسها، إلا أن لمركز الملك فيصل، المتأسس (1983) مِن قبل «مؤسسة الملك فيصل الخيرية»، التي تأسست (1976)، ضوابط في تحويل مثل هذا المؤتمر إلى ثقافة عبر إصداراته ومحاضراته ومكتبته وصلاته الثقافية دولياً. هذا ما أشار إليه مدير عام المركز الباحث سعود بن صالح السَّرحان، في كلمته الترحيبية وفي اختتام المؤتمر أيضاً، وما تخبر عنه نشاطات المركز المتواصلة على مدار العام، ومنذ تأسيسه.