بعد أزيد من عشر سنوات على اندلاع ثورات «الربيع العربي»واحتجاجاته ومختلف أنواع الحراك السياسية والاجتماعية التي تناسلت من بعده، ما تزال معظم بلدان العالم العربي أسيرة المتاهات التي دخلت كل دولة لواحدة منها حسب درجة الهزة التي حصلت فيها أو حسب مستوى ما شعرت به من تبعات للهزات من حولها بالنسبة للبلدان التي لم تشهد لا ثورات ولا احتجاجات.
ففي الساحات التي تطورت مجريات حراكها إلى نزاع مسلح لم تخمد بصفة نهائية نيران حروبها الأهلية، فهي تخبو تارة وتعود للاشتعال تارة أخرى بعيدا في أغلب الأوقات عن إرادة الأطراف المحلية أنظمة وقوى معارضة؛ وإنما في الكثير من الأحيان وفق حسابات قوى دولية وإقليمية أغراها فراغ القوة في تلك الساحات فتدخلت إما لحماية مصالحها أو لترسيخ وتوسيع تلك المصالح؛ الأمر الذي جعل كل محاولات التسوية السياسية المنشودة للبلدان المعنية تتعثر، وشقة الخلافات بين الأطراف المتصارعة فيها تتوسع وتكبر.
وباستثناء غياب ضريبة الدم وانعدام سقوط ضحايا أبرياء ودمار هائل للبنيات التحتية، فإن الساحات، التي أفضى حراكها إلى تغيير في النظام أو تطوير لآلياته وتعديل لبعض قواعده الدستورية والقانونية، لم تخلو هي الأخرى من تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ومن تدهور الظروف المعيشية لشعوبها، ناهيك عن اشتداد أوار الخلافات السياسية بين تنظيماتها الحزبية بشكل يحول دون استقرارها، ويمنع وضع أسس صلبة لإعادة انطلاق حركتها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية واستعادة الذروة المعهودة لنشاطها السياحي.
ورغم أن بعض العواصم العربية، وهي قليلة العدد، ظلت هادئة ولم تشهد أي حراك يعكر صفو أمنها واستقرارها وثبات نظامها إلا أن ارتباكا كبيرا أصابها، لأن الحرائق المدمرة أو الانتفاضات الهادرة التي اندلعت في جوارها لم تسمح لها بالبقاء غير مبالية بالأحداث، وبمنأى عن متابعة تطوراتها؛ بل بالعكس وجدت نفسها مضطرة إلى السعي لتحصين ساحتها الداخلية، ثم للعمل على التأثير في تلك الأحداث بما يخدم مصالحها وينسجم مع قناعاتها بدلا من البقاء متوترة منتظرة انفلات الأمور من حولها. وهذا ما ضاعف من حجم مصاريفها واستنزف الكثير من احتياطاتها المالية.
والواضح أن وعي معظم الأنظمة العربية بجسامة وخطورة التحديات التي فرضتها عليها الأحداث التي رجت مجتمعاتها كان وعيا ظرفيا ومؤقتا، إذ لم يدفعها إلى العمل والتعاون بشكل جماعي ولو في إطار جزئي لمواجهة هذه التحديات، بل استمرت أمينة للأسلوب الأحادي المنفرد باستثناء ما قامت به بعض دول مجلس التعاون الخليجي من تنسيق محدود لوأد عدوى الثورات والاحتجاجات التي امتدت إلى عقر دار بعض أعضائها، وما قررته من دعم مالي لدول أخرى متقاربة في التوجهات معها.
وكما كان متوقعا فإن هذا الاستثناء لم يعمر طويلا ليؤكد بذلك صحة القاعدة المعروفة عن معاناة النظام الإقليمي العربي من شلل مزمن يعيق قدرته على بلورة أي رؤية موحدة للمصير المشترك أو حتى مقاربة جماعية لمستقبل المنطقة ومشاكلها المستعصية والمتفاقمة لتظل أكثر مناطق العالم تشرذما بفعل سطوة الانتماءات الدونية سواء أكانت انتماءات دينية، مذهبية أو عرقية وسموها على الانتماء الوطني الجامع، وكأن الانقسام والتنافر قدر لا مفر منه.
وخلافا لمعطيات هذا الواقع المتشظي كان ينتظر أن يتطور الوعي الظرفي بخطورة ما يجري داخل العالم العربي إلى وعي مستدام وخلاق يسعى إلى نفض الغبار من على القواسم المشتركة بين الدول العربية، وهي كثيرة، لترسيخها وتطويرها تعزيزا لأواصر التقارب، وإلى نبذ وتكذيب كل ما يقال عن ميل فطري لدى العرب للانعزال والتقوقع على الذات.
ولكن ما حصل كان عكس كل الآمال والتوقعات، إذ ازداد في الآونة الأخيرة منسوب الغلو في التركيز على الخصوصية القُطرية، وتجاهل وتهميش كل العوامل والمؤسسات التي من شأنها أن تمثل لبنة أولى لإعادة بناء نظام إقليمي عربي فاعل ومؤثر إقليميا ودوليا، إضافة إلى تنامي ظاهرة الاستقواء بالأجنبي عبر إبرام تحالفات عسكرية وأمنية معه، مما ساهم في توسيع فجوة عدم الثقة الموجودة من قبل بين العديد من الدول العربية، وتحولها إلى عداء سافر في الكثير من الحالات.
وبديهي في ظل استمرار هذا التشرذم أن يصبح العالم العربي أكبر ساحة على الكرة الأرضية عرضة للتدخلات الأجنبية بسبب ضعف تماسك بنيانه ونتيجة كثرة ما يشهده من نزاعات إما داخلية في بعض الدول بين مختلف مكوناتها الاجتماعية المتعددة، أو حدودية، وأحيانا وجودية، بين بلدين أو أكثر، ناهيك عما ينجم عن استمرار هذه النزاعات وتفاقمها من اتساع مآسي الهجرة السرية، وشيوع أعمال العنف، وبروز خلايا وتنظيمات إرهابية؛ الأمر الذي بات يشكل مصدر إزعاج وصداع أمني خطير للمجتمع الدولي ولمنظماته السياسية والمتخصصة على حد سواء.
ولا شك أن احتدام الصراع الدولي الناجم عن رفض دولي متزايد للأحادية القطبية التي لم تعد قط مستساغة، سيضاعف من حجم وشراسة التدخلات الأجنبية في العالم العربي نظرا لموقعه الجيواستراتيجي المهم للتجارة الدولية، ولما يختزنه من ثروات طبيعية أساسية للتنمية الاقتصادية وللحضارة الإنسانية، ولما يمثله من إغراء بسبب ضعف وهشاشة بنياته السياسية.
ولذا فالمطلوب من بلداننا جميعا التخلي والتخلص من الإفراط في أنانيتها القطرية فهي غير مجدية على المدى المتوسط والبعيد، والاتجاه نحو البدء بحوار جاد بين كافة مكوناتها دون استصغار أحد منها؛ وذلك قبل البحث عن التحاور مع الآخر. صحيح أنه لا يمكن حل كافة الأزمات العربية بين عشية وضحاها، ولكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة أولى من الواجب أن تكون سليمة وفي الاتجاه السليم.