دمشق:على بعد دقائق من مركز العاصمة دمشق، يصطف عدد من الناس عند محل لبيع العرقسوس والتمر هندي وغيره من العصائر الرمضانية، عادة ككل العادات في رمضان، وعلى غرار استقبال الناس أول أيام الشهر الفضيل بطعام قوامه اللبن، وتناول التمر، تأتي المشروبات الشهيرة أساسية على المائدة هي التي تأخذ نصيبها وزيادة.
«الطوابير خلقت لنا»، يضحك الصيدلاني سامي بازرباشي، بعد أن اشتري «عدة الفطور»، ويقول إن الطابور فكرة، والفكرة لا تموت، مقلداً بذلك تشي جيفارا بعبارته الشهيرة «الثورة فكرة.. »، وما بين كلمة وأخرى يضحك الرجل ويختم: «باقي نعمل تطبيق على الموبايلات لتوصيل العرقسوس والتمر هندي، كتر الطلب عليهن وما عاد لحقو».
جمل الصيدلاني لم تكن طويلة، بل تشرح الحالة السائدة التي يعيشها السوريون في ظل رمضان، مع بعض الطقوس التي يتميز بها الشهر الفضيل عن غيره من الأشهر، فالطوابير باتت روتيناً حياتياً، فما بالك إن كان للحصول عما يوقظ الظمأ حال مشاهدة الصندوق الزجاجي للسائل المتدفق والبارد.
مهن تسيطر على رمضان!
مع دخول الشهر الفضيل تنشط مهن في الشوارع والأرصفة، والأحياء الشعبية تنال حصتها نتيجة اشتهاء الصائم لكل ما يبرد ظمأه ويفتح شهيته من الحلويات وغالباً ما كانت هذه الأنواع الرمضانية رخيصة الثمن يستطيع أي شخص الحصول عليها لكن هذا ما اختلف خلال السنتين الماضيتين وتحديداً هذا العام لتضرب أسعارها أرقاماً قياسية عالية جداً.
يقول أبو محمد بائع عصائر في منطقة المزة إن رمضان يحمل معه الخير وامتهنت صناعة العرقسوس والتمر هندي منذ نزوحي عام 2012 من الغوطة الشرقية، افترشت الرصيف هنا لبيع الخضراوات والفواكه والفستق الحلبي لكن مع دخول رمضان تلقائياً أتوقف عن شراء المواد السابقة وأقوم بوضع «العدة» المؤلفة من حبات العرقسوس وكيس الخيش الذي يلفهم مع وعاء لتصفية المياه وتكريرها.
ويتابع، هذه المهنة ليست حكراً على أحد فيمكن لأي شخص أن يصنعها ويعتاش منها، والمهم أن تحمل نكهة مميزة لجلب الزبائن، وطبعاً أصنع بجانبها عصير التمر هندي والتوت والليمون كإضافات لإعطاء الناس فرص الاختيار في حال أرادوا شيئاً إلى جانب العرقسوس.
تعتبر صناعة العرقسوس في الشوارع من المهن الرئيسية في رمضان ويمكن لصاحب أي دكان بسيط أن يفترش «لفة العرقسوس» لتأمين المزيد من المال مع تردي الواقع الاقتصادي في الوقت الحالي، لا سيما أنها غير مكلفة ويمكن استخدامها لأكثر من مرة.
سمير خابوري (اسم مستعار) لبائع العرقسوس والتمر هندي الجوال في منطقة دمشق القديمة، يبين لـ«المجلة» أن شكل المهنة في رمضان مختلف عن باقي أيام السنة، حيث أتجول واضعاً الترس على كتفي والحزام وأقوم بصبها للزبائن المارين من الأحياء القديمة وهي عادة قديمة لم تبطل في زماننا هذا حتى إن البعض يعتبرها تراثاً.
ويضيف: أما شكل البيع في رمضان حيث لا مكان للبيع المباشر فأبدل الترس بعربة خشبية أضع عليها زجاجات العصائر والأكياس ومن ثم بيعها للناس ليشربوها عند أذان المغرب.
أما عن مدة عمله فيقول إنه امتهنها عن أبيه، ويعمل بها قبل الحرب بسنوات، ولديه الكثير من الصور مع الأجانب الذين كانوا يمرون في الأسواق الشعبية ويطلبون العرقسوس وهو ما كان غريباً بالنسبة لهم فحصلت على شهرة كبيرة، وكل من كان يمر في الشارع كان يحصل على كأس ليشربه وأقوم أنا قبلها ببعض الحركات البهلوانية، أما بعد الحرب فاختلفت الأسعار طبعاً لكن لم أتوقف عن العمل فالناس هنا يحبون هذا المشروب التقليدي.
بالقرب من سمير يقف رجل خمسيني يدعى «ابن الكار» يعمل على بسطة لبيع الجوارب، وفي رمضان يتحول جزء منها لمكان مخصص لتصنيع «الناعم» حلوى رمضانية بامتياز لا تظهر إلا في الشهر الفضيل تتكون من خبز مقلي يضاف إليه دبس التمر أو الدبس والطحينة، يتمتع ابن الكار بشعبية في السوق الشعبية داخل المدينة القديمة، يقصده سكان دمشق من أماكن بعيدة أو من يمر في السوق فيأخذ ما يريد ويمضي.
يقول «ابن الكار» محمد الخطيب، إن عمله على البسطة ليس جديداً لكن بدايته كانت في حي باب سريجة عمل فيه لسنتين ثم انتقل للسوق نسبة لكثرة المارين في السوق.
ويتابع: كنت أبيع ربطة «الناعم» بـ50 ليرة سورية قبل الحرب، وفي كل سنة كان سعر المواد الأولية يرتفع فاضطر للرفع، بعت الربطة بـ 200 ثم 250، ثم 300، وهكذا حتى بات سعر الربطة5000 ليرة سورية، والحقيقة أن الناس أصبحت تشتري بالقطعة بدلاً من الربطة الكاملة المؤلفة من 5 أرغفة صغيرة أو رغيفين كبيرين وبسعر يتراوح بين 1000 إلى 2000، وذلك من أجل شراء باقي الحاجيات، «كل شيء غلا ثمنه والعين تشتهي».
ليس «الناعم» وحده ما غلا ثمنه، أيضاً «المعروك» الذي يصنع خصيصاً في المخابز لأجل رمضان ارتفع سعره، لا سيما مع الإضافات الجديدة التي ابتكرها البعض لتسويق المنتجات، حيث كان المعروك سابقاً محشيا بجوز الهند أو سادة من غير إضافات لكن مع الوقت بدأ الناس بحشوه شوكولاتة أو جوز هند وزبيب وبمختلف الأحجام، ووصل سعر القرص لنحو 5000 ليرة سورية، وما كان في السابق يشترى بالكم والنوع بات خلال رمضان الحالي يباع بالنوع وبالقطعة.
تختفي في رمضان
تعتبر المطاعم والمقاهي من المهن التي تصاب بشلل شبه تام في شهر رمضان، فمعظم العائلات في سوريا لها طقوسها الخاصة خلال الشهر الفضيل والتي تبتعد فيه عن أكل المطاعم إلا ما ندر منها، كذلك الأمر في المقاهي التي يصعب ارتيادها في شهر الصيام.
يقول ميشيل، وهو صاحب أحد مقاهي دمشق القديمة: «يعتبر شهر رمضان هو شهر الاستراحة بالنسبة لنا كمقاهٍ، لأن معظم سكان دمشق لهم طقوسهم، والتي تبتعد كل البعد فيها عن الجلوس في المقاهي، حتى في فترة بعد الإفطار يحبذ الأهل أو الأصدقاء الجلوس في منزلهم، وذلك بسبب التراجع الاقتصادي وصعوبة المواصلات والحصول على البنزين، والناس تفضل الذهاب لأماكن قريبة منها أو البقاء في البيت.
لم يعد هناك من يجلس في المقاهي مساءً إلا القليل وهم الذين يسكنون في محيط دمشق القديمة، لذلك نعتبر شهر رمضان هو شهر الاستراحة لنا أو يمكن القول إنها العطلة السنوية للمقاهي في دمشق.
أما عن المطاعم ومحال الوجبات السريعة، فيقول أحمد وهو شاب جامعي في دمشق يقطن مع عائلته في إحدى ضواحي دمشق: لم يسبق أن توجهنا إلى الوجبات أو الأكل الجاهز من المطاعم في شهر رمضان، فهذا الشهر يعني أننا سوف نأكل ما لذ وطاب من صنع أمي، فهذه المحال وجدت لتناول وجبة سريعة أمام بوابة المحل، لكن لا يمكنني تخيل وجبة من البروستد على مائدة رمضان، هذه المائدة يجب أن تحتوي على الشوربة والفتوش والطبق الرئيسي الذي تعده أمي لنا.
وبهذا الصدد يقول ماهر وهو شيف طعام في أحد مطاعم دمشق: خلال هذا الشهر يتوقف عملي حتى صباح عيد الفطر، فلا يوجد من يتردد على المطعم لتناول وجبة غداء إلا قلة اعتادوا أكل المطاعم، وهؤلاء نادرون خصوصاً في ظل ارتفاع الأسعار، فكيف في شهر رمضان سيكون العمل؟ وفي الوقت ذاته لا يمكن الجلوس دون عمل، لذلك وقبل قدوم هذا الشهر أدخر المال لأنني حتماً سوف أتوقف عن العمل.
وعن قاعات الأعراس ومحلات بيع الفساتين تتوقف بالكامل نسبة لانعدام الحفلات خلال الشهر، «لا يوجد من يقيم عرسه في شهر رمضان المبارك، هذا أمر مستحيل، وبالتالي لا عمل لنا حتى انتهاء الشهر الفضيل»، ميرنا (اسم مستعار) وهي صاحبة إحدى صالات بدلات العرائس في دمشق تقول: في شهر رمضان لا يمكن إحياء الأعراس لأن طقوس رمضان وتوقيت الإفطار، يمنع أي شخصين من الزواج في هذا الشهر، وليس الزواج فقط بل حتى إقامة حفلات عيد الميلاد وغيرها من المناسبات التي تحتاج الفساتين، وبالتالي يتوقف عملنا بشكل كلي في هذا الشهر.
وتتابع، نحاول جراء ذلك وضع العروض وتنزيل الأسعار لكن دون جدوى، فموضوع إحياء الأعراس مستبعد في هذا الشهر حتى انتهاؤه، وبالطبع حتى إن كانت الحفلة لمسيحيين يستبعد الأمر كون أصدقائهم من المسلمين لا يمكنهم الحضور.
عمال البناء
«الصيام وعمل البناء متناقضان لا يمكن جمعهما في آن معاً»، هكذا يقول أحد عمال البناء في دمشق، ويضيف: «إن عمل البناء من أصعب الأعمال في شهر رمضان المبارك، تحديداً في فصل الصيف يعد عملاً شاقاً، حيث الجو الحار مع الصوم عن الشراب والطعام».
لا يمكن لأي عامل، العمل خلال هذا الشهر فهو حتماً سوف ينهك، فالصعود على الرافعات وتحميل الإسمنت وغيرها من مواد العمار من قبل العمال يعتبر أمراً شاقا في وقت الصيام، لأننا نحتاج إلى طاقة كبيرة وشرب كميات كبيرة من المياه أثناء العمل.
ويبين: «أنا مثلاُ أحتاج للتر من المياه كل ساعتين للاستمرار في العمل، فكيف في شهر رمضان، لا يمكننا العمل خلاله، لذلك نلجأ للعمل في المعروك أو الناعم أو بسطات بيع التمر الهندي، فهذه الأشياء هي ما يستهلكه المواطنون في الشهر الفضيل، أو ادخار المال خلال العام لأخذ استراحة محارب في شهر رمضان المبارك».
اللمة المنسية.. وجبة السوريين الثقيلة
التراجع الاقتصادي وجبة المواطن الخفيفة، مهن تتوقف وأخرى تنشط، كلها عناوين للصحافة ولجلسات الأسر في منازلها إلا أن العنوان العريض لرمضان السوريين بات حكراً عمن أبعدته الحرب والظروف الحالية لسوريا عن تلك الجلسات وما كانت تتميز به سوريا كسائر الدول العربية بات أمراً محزناً للكثير ممن افتقدوا أحبتهم.
رأفت ناجي، رب أسرة وصاحب عمل خاص يقول لـ«المجلة»، إن كل ما يحصل في سوريا بكفة وابتعاد الأحبة واختفاء اللمة بكفة ثانية، لم يعد لرمضان طعم الجمعة والحب، واقتصر فقط على أننا نتعبد عسى أن يعيد دعاؤنا من رحلوا.
رأفت واحد من ملايين السوريين الذين فقدوا أحداً خلال الحرب أو سافر لهم قريب، يتحسر على الأيام الماضية التي رحلت ولن تعود أبداً، ويبين أنه ورغم المشاكل الأسرية التي كانت تحصل في الأسر إلا أن لمة رمضان كانت تعيد الحب ولو حتى للحظات فلم يعد هنالك ما يشغل البال سوى أن نعيد اللمة لرمضاننا.
من جهته، محي الدين عاشوري، موظف حكومي، يقول لـ«المجلة» إنه يبحث عن شيء ما في ذاكرته كي يعود لسعادته المفقودة، صحيح أن رمضان هو رمضان إلا أن موائدنا ينقصها الحب، ينقصها اجتماع الأسر والهمسات والكلام وأصوات الملاعق بالصحون تلك باتت من المنسيات.
ويتابع: إن كان رمضان في العالم شيء مبهج فهو في سوريا بطعم مميز، كانت شوارعنا تزين والضحكات عالية رغم المشاكل و«التعتير» الموجودتين، فهي موجودة في كل مكان، لكن ماذا نفعل الآن؟ من يعيد إلينا أبناءنا وإخوتنا وحياتنا السابقة من يعيد البسمة التي رحلت وزرعت في قلوبنا وجبة ثقيلة لا مكان لها في معدتنا.